تفجير الكرادة:

المعضلة الأمنية في بغداد وكيفية حلها

05 July 2016


لم يكن تفجير الكرادة الدامي، يوم 3 يوليو 2016 وقبل عيد الفطر، الأول في بغداد أو العراق، وقد لا يكون الأخير، لكنه الأكثر تأثيراً في الوجدان العراقي لأسباب عدة، منها أنه تسبب في مقتل أكثر من 292 وجرح أكثر من 200 شخص، ومعظم ضحاياه كانوا من الشبان، كما قتل التفجير عائلات بكامل أفرادها، قُضوا حرقاً بالنيران التي التهمت شارعاً مفعماً بالحيوية، وهو ربما الأكثر نشاطاً في بغداد.

ويعد تفجير الكرادة الأكبر من حيث عدد القتلى في العراق منذ أن طردت القوات العراقية الشهر الماضي عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي من الفلوجة، والتي كانت مركزاً لانطلاق مثل هذه الهجمات.

معضلة تعدد المسؤولية الأمنية في بغداد

كان تفجير الكرادة طعنةً في قلب الحياة العراقية وقتلاً لفرحة العيد واعتداءً همجياً على الناس العاديين الذين لم يرتكبوا جرماً وما كانوا يفكرون بشيء سوى العيد، وماذا سيفعلون أثناء العطلة. لقد أخرج التفجير المارد من القمقم، وجعل العراقيين يتساءلون كيف يمكن أن يحصل هذا في قلب بغداد التجاري والاجتماعي؟ أين الجيش والشرطة وعناصر الحماية وقوى الأمن الداخلي التي يعمل فيها أكثر من مليون عراقي وتُنفَق عليها معظم موارد الدولة؟

ولأول مرة يشعر وزير الداخلية، محمد سالم الغبان، بأن عليه أن يستقيل من منصبه لأنه فشل في تحقيق الأمن، لكن هل يَحُل رحيل الغبان المشكلة الأمنية في العراق؟ وهل سيُعالِج هذا الرحيل التخبط الأمني وتداخل الصلاحيات الأمنية الذي دفعه إلى الاستقالة؟ أم أن على الناس أن يعيشوا قلقين من خطر الموت حرقاً؟ وكيف يمكن للحياة أن تستمر في العراق إن أصبح هذا القلق مهيمناً على المواطنين وهاجساً يؤرقهم في ليلهم ونهارهم؟

المشكلة الأمنية في العراق، خصوصاً في بغداد، بقيت دون معالجة ناجعة منذ ثلاثة عشر عاماً، وبالرغم من أن الأخطاء تتكرر دائماً، لكن المسؤولية تضيع أيضاً بسبب تعدد مراكز القوى، فوزارة الداخلية ليست المسؤول الأول عن الأمن في بغداد، بل هناك قوات عسكرية أخرى تسمى (عمليات بغداد) هي الأخرى مسؤولة عن الأمن، بل لديها اليد الطُولى في متابعة الجماعات الإرهابية وإغلاق الشوارع وتوزيع نقاط التفتيش ونصب أجهزة المراقبة وكشف المتفجرات وتوزيع السيطرات الأمنية. وهناك أيضاً عناصر الحماية الشخصية للمسؤولين وقوات حماية المنشآت والشخصيات التي لها دور أساس في حماية المسؤولين ومؤسسات الدولة.

لقد كشف وزير الداخلية في استقالته عن هذه التناقضات، وقال إنه لا يستطيع أن يؤدي عمله في ظل تعدد مراكز القوى وعدم تسلم وزارته الملف الأمني كلياً، فكان شجاعاً في تشخيص أحد أهم أسباب الفشل ومواجهة هذه المعضلة التي ألقى بها على عاتق رئيس الوزراء الذي أصبح لزاماً عليه الآن أن يواجهها هو الآخر بشجاعة، فلم يعد هناك مجال للمجاملات السياسية على حساب أرواح الناس الأبرياء، فالخطوة المقبلة للناس الغاضبين قد لا تكون في صالح أحد، بل قد تتسبب في زعزعة النظام بأكمله.  

فداحة الخسارة البشرية وطبيعة الحرائق التي طاولت مباني ومنازل ومتاجر كثيرة على جانبي شارع الكرادة المزدحم ليلاً ونهاراً، دفعت معظم العراقيين إلى التفكير بأن هناك أكثر من خلل وعيب في المؤسسة الأمنية. فكيف تمر شاحنة محملة بالمتفجرات عبر نقاط التفتيش الكثيرة المنتشرة في بغداد وتصل إلى شارع تجاري واجتماعي مزدحم في وقت متأخر من الليل حيث تكثر السيطرات الأمنية ويشتد التفتيش والرقابة؟ ثم أين فُخِّخت تلك الشاحنة الكبيرة؟ ومن أين جاءت في وقت كانت قوى الأمن تقول دائماً إن معظم العجلات المفخخة التي تنفجر في العاصمة تأتي من الفلوجة القريبة، لكن الفلوجة كانت قد حُرِّرت قبل عدة أيام وخلت من الجماعات الإرهابية بعد أن سيطر الجيش على كل مناطقها وفكك معامل تفخيخ السيارات فيها؟

خلل في الإجراءات الأمنية واتهامات بالفساد

هناك العديد من التفسيرات المتضاربة حول الانفجار والحريق الذي شب في الكرادة وحَرَقَ الناس والمحال والمنازل على جانبي الطريق. فالانفجار مختلف عن الانفجارات الأخرى لأنه أحدث حريقاً هائلاً بينما لم يترك حفرة في الأرض ولم يهدم المباني القريبة منه بل أحرقها، ما يعني أن المواد المستخدمة في التفجير كانت حارقة وشديدة الاشتعال ومرتفعة الحرارة، بحيث إن النيران عبرت إلى الجانب الآخر من شارع الكرادة. وتبقى كل التفسيرات والتبريرات مجرد تخمينات، لأن أي حريق هائل كالذي حصل في الكرادة لا يترك وراءه أثراً يمكن تحليله والاستفادة منه باستثناء تخمين كيفية حصول الانتشار وربما درجة الحرارة التي بلغها عبر تحليل بقايا المعادن المنصهرة والأجساد المحترقة. لكن الأسئلة ستبقى أكثر من الأجوبة حول هذه الكارثة الإنسانية والفشل الأمني الذي تسبب بها.

لقد أصبح من العبث وانعدام المسؤولية الإبقاء على الإجراءات الأمنية الحالية التي فشلت في أن تكتشف شاحنة كبيرة مليئة بالمتفجرات تدخل شارعاً هو الأكثر ازدحاماً في بغداد بعد منتصف الليل دون أن يكتشفها أحد وتُحدِث كل هذا القتل والدمار والخراب. لو كان التفجير قد حصل عبر حزام ناسف ينفذه انتحاري، كما يحصل في العادة في الأماكن المزدحمة، فكان يمكن أن نجد بعض التبرير لعدم اكتشافه، إذ إن من الصعب تفتيش آلاف الناس يومياً وفي كل الأوقات تفتيشاً دقيقاً، ويمكن أن يمر شخص دون تفتيش دقيق. ولكن لا تبرير ولا تفسير لانفجار الكرادة سوى نقص الخبرة الذي يرافقه إهمال، إضافة إلى عدم الانضباط الشائع بين الأجهزة الأمنية.

الملاحظ في سيطرات التفتيش غياب الوعي والفهم الأمنيين، ويتضح ذلك عبر الأسئلة التي يوجهها رجال الشرطة إلى سائقي العجلات والتي لا تقدم أجوبتها أي معلومات مفيدة. كما أن بعض القادة السياسيين والعسكريين أو أتباعهم لا يتعاونون مع أجهزة الأمن بل يعتبرون التفتيش والتحري الأمني إهانة لمكانتهم. من ناحية أخرى، فإن إجراءات التفتيش ما تزال بدائية في أكثر الأحيان.

كما أن استخدام جهاز كاشف المتفجرات (ADE-651) الفاشل تسبب في كوارث إنسانية منذ جلبه إلى العراق عام 2008، لأنه يوهم الشرطة بأنه فاعل بينما هو لا قيمة عملية له مطلقاً. لقد مُنع هذا الجهاز في بريطانيا منذ عام 2010 بعد أن أدينَ صاحب الشركة البريطانية التي باعته للعراق، جيمز ماكورميك، بالخداع وحُكم عليه بالسجن لعشر سنوات لبيعه أجهزة للعراق لا تؤدي الغرض الذي تدعيه بسعر تجاوز الأربعين ألف دولار للجهاز الواحد، بصفقة بلغت 85 مليون دولار. كما أُدين أخرون ببيع أجهزة مُماثلة للمكسيك وباكستان وتايلاند وبلدان الشرق الأوسط وأفريقيا، بينهم غاري بولتِن الذي يقضي حالياً حكماً بالسجن لسبع سنوات لدوره في تصنيع وبيع هذه الأجهزة العاطلة المضلِّلة.

وحكاية تلك الأجهزة العاطلة التي بيعت للعراق عام 2008، وظلت مستخدمة حتى اليوم التالي لانفجار الكرادة، رغم أن مُصنعيها قد دخلوا السجن، قد بدأت في الولايات المتحدة وكانت في البداية تهدف إلى اكتشاف كرات لعبة الغولف الصغيرة التي تختفي في ساحات اللعب، وكان سعر الجهاز الواحد عشرين دولاراً. غير أن ثلاث شركات مُخادعة قد طورت الجهاز كي يكون قادراً على اكتشاف المتفجرات المخبأة في السيارات أو الأحزمة الناسفة، وقد نجحت الشركات فعلاً في تحقيق أرباح هائلة لأصحابها ولكن على حساب الأبرياء من الشرطة والناس. ويؤكد مراقبون أن ما سهَّل انتشار هذا الجهاز هو الرشاوى المجزية التي دفعها مصنعوه للمسؤولين الذين أبرموا معهم صفقات لشرائها. ويُعزى إلى المُدان جيمز مكرومِك قوله عند الاستفسار منه عن فاعلية الجهاز "إن هذا الجهاز يؤدي الوظيفة التي صُنع من أجلها ألا وهي توليد الأموال‘"! لقد ظل رجال الأمن العراقيون يستخدمون هذا الجهاز لثماني سنوات، ستٌ منها بعد منع الجهاز في بريطانيا وإلقاء مُصنعه في السجن، وقد تسبب هذا الاستخدام في خداع الشرطة التي ظن أفرادُها أن مجرد استخدامه سيحميهم ويحمي باقي الناس من خطر الإرهاب، لكن المتفجرات ظلت تحصد آلاف الأرواح من الأبرياء دون أن تتدخل الحكومة لسحب هذا الجهاز الخادع المُضلِّل من سيطرات التفتيش حتى وقع انفجار الكرادة الدامي.

ما يمكن فعله لتجنب تكرار مأساة الكرادة؟

يحتاج الأمن في العراق، وبصفة خاصة بغداد، إلى خطط عصرية ومبتكرة كي يكون فعالاً، بعضها قصير الأمد؛ ومنها تفعيل عناصر الاستخبارات والمخابرات لتحصيل معلومات دقيقة عن تحرك الإرهابيين ومساعديهم والمتواطئين معهم وإحباطها قبل وقوعها، والبعض الآخر طويل الأمد مثل إغلاق المناطق المزدحمة أمام السيارات، كما يحدث في أصغر المدن في أوروبا والولايات المتحدة وباقي المناطق الآمنة. لقد أصبح ضرورياً من كل النواحي، العمرانية واللوجستية والأمنية بل وحتى الجمالية، أن تكون المناطق التجارية مُخصصة للمشاة فقط، وأن يكون ثمة مواقف عملاقة لاستيعاب سيارات المتبضعين، وأن تكون هناك مداخل محددة لهذه المراكز بحيث لا يتمكن أي إرهابي أن ينفذ إليها دون أن تكتشفه الشرطة. والأمر الآخر الضروري هو المصالحة الوطنية، بحيث تكون الخلافات بين الأحزاب سياسية وليست طائفية أو دينية أو قومية أو مناطقية. ويجب أن تكون هناك قوانين تحاسب كل من يثير النعرات الطائفية والعرقية والمناطقية لأي سبب كان.

مما لا شك فيه أن انفجار الكرادة نبّه العراقيين إلى خطورة ما يجري بينهم وحولهم، وقد ساهم فعلاً في توحيد صفوفهم، فلم يبق هناك من لم يتعاطف ويتضامن مع أهل الكرادة المصدومين بهول هذا الحادث البشع. العراق بحاجة إلى بداية حقيقية يتناسى فيها أهله مآسي الماضي وخلافاته لينطلقوا نحو المستقبل. لكن هذه البداية تحتاج إلى مقومات، أولها وقف العمل بقوانين العزل السياسي والوظيفي التي لم تعمل إلا على تأجيج الأحقاد ونشر العداء بين الناس. وثانيها إصلاح القضاء بحيث يكون عادلاً ومنصفاً مع الجميع ولا يخضع لأي مؤثرات غير اعتبارات العدالة. وثالثها إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، بحيث تلفظ الدخلاء على الوظائف والمناصب التي لا يجيدونها وغير المؤهلين لشغلها والتي احتلوها لأسباب سياسية أو طائفية أو بسبب الفساد. هذا لا يعني طرد آلاف الموظفين وخلق مشكلة جديدة، بل يعني إعادة تأهيل الموظفين وشاغلي المناصب المهمة وإيجاد وظائف حقيقية لهم كي يكونوا فاعلين في المجتمع والإتيان بأكفاء كي يديروا المؤسسات الأساسية والمهمة بجدارة.

إن تدهور الأمن في العراق لم يأتِ من فراغ، بل هناك أسباب سياسية وطائفية ساهمت في ايصاله إلى وضعه الحالي، ومن غير المتوقع أن يتحسن دون الالتفات إلى الجوانب الأساسية التي أدت إلى تدهوره. فلتكن مأساة الكرادة المنبّه الأخير للخطر المحدق بالعراق.