تصاعد الإرهاب الفردي:

دلالات وتبعات حادث أورلاندو بالولايات المتحدة

15 June 2016


أثار الهجوم الإرهابي في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا الأمريكية، يوم 12 يونيو الجاري، الاهتمام مرة أخرى بظاهرة إرهاب الذئب المنفرد أو الإرهاب الفردي، فضلاً عما طرحه هذا الحادث من دلالات وتداعيات متوقعة داخلياً وخارجياً. ويُعد هذا الهجوم هو الأكبر على الأراضي الأمريكية، من ناحية عدد الضحايا، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001؛ حيث أودى بحياة 50 شخصاً وإصابة 53 آخرين.

هجوم أورلاندو والإرهاب الفردي

تشير ظاهرة الإرهاب الفردي إلى عنفٍ سياسي (أو مُخطَّط لتنفيذه)، يرتكبه شخص يتصرف بمفرده، لا ينتمي إلى أية مجموعة أو شبكة إرهابية منظمة، ويعمل بدون نفوذ مباشر لقائد أو هيراركية تنظيمية، ويطوّر تكتيكاته وطرائقه العملياتية من دون توجيه أو قيادة منظمة.

ولا يدخل في هذا التعريف عناصر تتعلق بإحكام التخطيط، والمهنية في التنفيذ، وامتلاك استراتيجية خروج، والإشهار والدعاية للعملية الإرهابية، أو مدى خطورتها. إذ يفتقد الإرهاب الفردي إلى العناصر الثلاثة الأولى؛ الأمر الذي يميزه عن الأنماط الأخرى من الإرهاب. أما العنصر الرابع، فقد يترك الذئب المنفرد بياناً يكشف عن دوافعه للقيام بالعملية، وقد لا يفعل. وفيما يتعلق بمدى خطورة العملية، فالذئاب المنفردة، كونهم غير محترفين، فهم أقل خطورة ودموية من سائر الإرهابيين المنظمين.

ويُعد هجوم أورلاندو، وهو الأكثر شدةً في حوادث إطلاق النار في تاريخ الولايات المتحدة، مثالٌ نموذجي لإرهاب الذئاب المنفردة. فبدايةً، هناك مزيجٌ من الدوافع الشخصية والسياسية وراء قيام "عمر صديقي متين"، وهو أمريكي من أصول أفغانية، بارتكاب هذه الجريمة الإرهابية. فقد سبق لمتين أن عبَّر لأسرته وأقاربه عن مشاعره "المقزِزة" تجاه المثليين جنسياً. ويبدو أنّ ارتكاب الجريمة في يونيو، وهو شهر الافتخار بالمثلية الجنسية، له علاقة بهذه المشاعر.

كما كشفت التقارير الصحفية أنّ "متين" أُلهم بدعاية تنظيم "داعش" في الفضاء الرقمي، وربما اعتنق الفكر الراديكالي من خلال شبكة الإنترنت. وهذا يبين الدور الكبير للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في عملية التحول إلى الراديكالية، ومساعدة الذئاب المنفردة في تشكيل أيديولوجياتهم، بل وفي رسم تكتيكاتهم وأدواتهم في تنفيذ عملياتهم الإرهابية. يُذكر أنّ المتحدث باسم تنظيم "داعش"، أبو محمد العدناني، أصدر نداءً حركياً إلكترونياً، في 21 مايو المنصرم، إلى المسلمين في الدول الغربية، حثّهم فيه على تنفيذ هجمات على أهدافٍ عسكرية ومدنية في هذه الدول، خلال شهر رمضان.

وقد ترك منفذ هجوم أورلاندو خلفه ما يشير إلى دوافعه السياسية في ارتكاب جريمته، فقد اتصل بالشرطة قبل تنفيذ هجومه أو خلال محاصرتها موقع الهجوم "نادي بالس للمثليين"، معُلناً الولاء لتنظيم "داعش"، والتضامن مع أحد منفذي هجوم بوسطن (أبريل 2013)، "جوهر تسارناييف"، الذي صدر بحقه حكم بالإعدام، وكذلك التضامن مع أحد الأمريكيين الذي التحق بجبهة النُصرة الموالية للقاعدة في سوريا، وفجّر نفسه هناك. ومع ذلك، وعلى الرغم من تبني "داعش" هجوم أورلاندو، فلا يوجد دليل مباشر على أنّ "متين" كان يتلقى توجيهات من التنظيم الإرهابي.

ومثل معظم الذئاب المنفردة، كان منفذ هجوم أورلاندو يعاني بعض الاضطرابات النفسية، كما توضح شهادات زوجته السابقة وأقاربه. فوفقاً لزوجته السابقة، كان متين مريضاً نفسياً ومُضطرباً عقلياً، وكان يتعمد إيذاءها بدنياً لأتفه الأسباب. كما أشار أقارب الرجل ومعارفه إلى أنّه كان يعاني مشاكل نفسية وعقلية.

ويتصل بذلك أنّ ذئب أورلاندو كان يعاني عدم القدرة على التكيف الاجتماعي؛ فقد كان منعزلاً، وله أصدقاء قليلون، ويفضل العمل بمفرده. فمثلاً، وفقاً لإمام المسجد الذي كان يرتاده ويعرفه منذ عام 2003، كان "متين" شخصاً غير اجتماعي؛ لا يتحدث إلى أحد، يبتسم ويصافح فقط!

ولكن يُلاحظ أنّ الإرهاب الفردي لا يحدث في فراغ اجتماعي، بل على العكس، تظهر الراديكالية نفسها في موقفٍ نشط، يتضمن التعبير عن آراء الشخص السياسية، من خلال بحث نشط للغاية للمواجهة اللفظية والمادية مع الخصوم. بعبارة أخرى، بينما يميل الإرهابيون المنفردون إلى العزلة عن المجتمع، فإنهم في الوقت نفسه يتواصلون مع الآخرين، ويميلون إلى إعلان نيتهم ارتكاب العنف. فقد كشف جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي. أي)، أن "عمر متين" أجرى مقابلات مسجلة مع مقاتلين في "جبهة النصرة"، كما كان لفترة على قائمة المراقبة للأشخاص المشتبه في تعاطفهم مع "داعش"، وسبق استجوابه بواسطة الشرطة، ولكن لم يتم توجيه اتهامات محددة له.

تداعيات حادث أورلاندو

يُعد هجوم أورلاندو جزءاً من موجةٍ جديدة من الإرهاب الفردي، تُهيمن عليها الدوافع الأيديولوجية المرتبطة بالراديكالية الإسلامية. وتشير التوقعات إلى أن هذه الموجة سوف تتزايد، وبصفة خاصة في العالم الغربي، وأنه ربما تصل إلى ذروتها في غضون فترة قصيرة وتمتد إلى نهاية العقد الحالي، لاسيما بفعل التطورات المهمة في الحرب الدولية على "داعش" على امتداد إقليم الشرق الأوسط، وبصفةٍ خاصةٍ في سوريا والعراق.

وربما يزيد من تصاعد هذه الموجة أن تؤدي العمليات الإرهابية التي تُنسب إلى مسلمين، إلى عمليات مضادة من قِبل المناهضين للمسلمين في الدول الغربية، على نمط الهجوم الذي نفذه النرويجي "أندريه ريفيك" في عام 2011. وهو ما بدأنا نشاهده بالفعل، في ضوء التهديدات التي تتلقاها الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا الشمالية. وفي حالة أورلاندو، استغل المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية، دونالد ترامب، وأنصاره هذا الحادث الإرهابي للترويج لسياستهم المعادية للمسلمين وخططهم لمنع دخولهم البلاد، بل ومهاجمة المنافسِة الديمقراطية، هيلاري كلينتون؛ بسبب علاقاتها التعاونية مع المسلمين.

ومع تصاعد الموجة الإرهابية الجديدة التي يقودها ذئاب منفردة، سوف تتزايد معها المبالغات الإعلامية والسياسية عن خطورة هذه الظاهرة على الأمن القومي للدول، وربما تسيطر على الخطاب العام؛ ما يجعل من الصعب تطوير مجموعة من الأولويات الاستراتيجية المتناسقة، وإغفال الخطر الأكبر، وهو الإرهاب المنظم. غير أنّ أبرز التداعيات السلبية هنا هو الخلط بين ظاهرتي الإرهاب الفردي والمقاومة المنفردة المشروعة للاحتلال، على نحوٍ ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

على أية حال، سوف يتعزز اتجاه تشديد الإجراءات السياسية والأمنية والتشريعية لمكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة، وهي شديدة أصلاً منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما يتطلبه ذلك من تكثيف الرقابة على الإنترنت والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي. وقد يفضي هذا الاتجاه إلى التأثير بالسلب على الحقوق والحريات الشخصية والمدنية. وهذا اتجاه غير ذي جدوى من الناحية العملية في مكافحة هذا النمط من الإرهاب، الذي أهم خصائصه أنه عصي إلى درجة كبيرة للغاية على الكشف والمراقبة بواسطة أجهزة المخابرات والأمن الوطنية، ولا تعني مواجهته التضحية، في المقابل، بجانب من الحقوق والحريات الفردية.

وربما يُسهم حادث أورلاندو، الذّي يتزامن مع بداية المرحلة الحاسمة للحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية، في زيادة المد الشعبوي الديماجوجي الذي يقوده ترامب في السياسة الأمريكية، على نحو ما يُذكرنا بموجة المكارثية في الأربعينيات من القرن المنصرم. وكما استهوت المكارثية عدداً كبيراً من الأمريكيين، يبدو أنّ "الترامبية"، إذا جاز التعبير، التي تعزف لحن إنقاذ البلاد والعباد من الإرهاب، أخذت في اجتذاب العديد منهم، من دون "التفكير في مسار مجتمع قد تحكمه الرقابة والانغلاق في المستقبل". وعلى الرغم من الظلال الكئيبة التي باتت تملأ الأفق الأمريكي أو تكاد، فإنّ المسؤولين الأمريكيين الحاليين، وعلى رأسهم الرئيس بارك أوباما، يدركون طبيعة هذا الفخ الذي يُحاك ببلادهم، والذي تنصبه هجمات مثل حادث أورلاندو والمستغلين له سياسياً من أنصار ترامب. ومن ثم، هناك فرص كبيرة للتغلب على مشاعر الغضب العمياء.

ويجب أنْ تتوجه مشاعر الغضب أولاً إلى التشريعات والإجراءات التي تتيح سهولة الحصول على أسلحة فتاكة، مثل تلك التي كان يحوزها منفذ هجوم أورلاندو (بندقية نصف آلية من طراز AR-15)، والتي استخدمت في حوادث كثيرة لإطلاق النار في عدة ولايات أمريكية، وتبدو خياراً منطقياً في هذا الصدد.

وأخيراً، فكما أدت أحداث باريس الإرهابية إلى زيادة الانخراط الفرنسي في الحرب على "داعش"، فمن المتوقع أن يزيد الانخراط الأمريكي في الحرب على التنظيم الإرهابي في كلٍ من العراق وسوريا، والتي دخلت مراحلها الحاسمة حالياً. ولكن يجب التنبيه أنّ موجة الإرهاب الفردي الراهنة قد تزداد بصرف النظر عن أية نتيجة محتملة لهذه الحرب.