معركة الفلوجة:

هل العراق مستعد لدفع ثمن التحرر من "داعش"؟

08 June 2016


مع إعلان الحكومة العراقية في الأسبوع الأخير من مايو الماضي بدء عمليات تحرير مدينة الفلوجة ذات الغالبية السنية بمحافظة الأنبار من قبضة تنظيم "داعش"، بدأت تُثار العديد من التساؤلات حول توقيت هذه العملية العسكرية، وأهدافها، وفرص نجاحها في تخليص سكان المدينة من هذا التنظيم الإرهابي، فضلاً عما لحقت بها من مخاوف من سيطرة الطائفية في هذه المعركة التي تشنها القوات العراقية بمساعدة عناصر "الحشد الشعبي" الشيعية والمدعومة من إيران.

أهمية مدينة الفلوجة

كانت الفلوجة أولى المدن العراقية التي تمردت على العهد الجديد منذ البداية، فقد انطلقت منها الشرارة الأولى لمقاومة الأمريكيين في مطلع عام 2004، لتصبح منذئذ ملاذاً وملتقى للجماعات المسلحة في العراق التي عملت تحت مسميات شتى، فمن مقاومة الاحتلال الأمريكي إلى محاربة النفوذ الغربي والإيراني، ثم أخيراً إقامة ما يُسمى "دولة الخلافة" التي تبناها تنظيم "داعش".

ويرجع تبوؤ الفلوجة هذا الدور إلى كونها بيئة محافظة تتسم بالتشدد الديني، فقد عُرفت المدينة بأنها "مدينة المساجد". كما تقع هذه المدينة الكبيرة، التي كانت مرشحة يوماً لأن تتحول إلى محافظة، على مقربة من العاصمة بغداد، وهي جزء لا يتجزأ من محافظة الأنبار الواقعة في أعالي نهر الفرات، ومعظم أراضيها تقع ضمن الصحراء العراقية الكبرى الممتدة حتى السماوة جنوباً، وتتجلى فيها الروابط والأعراف القبلية، أكثر من أي محافظة عراقية أخرى.

وكانت الفلوجة أولى المدن العراقية التي سقطت تحت سيطرة "داعش" مطلع عام 2014، قبل سقوط الموصل بعدة أشهر، لكن هذا السقوط لم يحظَ باهتمام إعلامي أو رسمي عراقي كبير، باعتبار أن الفلوجة مدينة لم تسيطر عليها الحكومة كلياً، وأن ذلك السقوط كان مجسَّداً أصلاً في عدم استقرار هذه المدينة وكثرة وجود المسلحين فيها، عراقيين وعرباً وأجانب. وقد أظهرت التحقيقات التي أجرتها أجهزة الأمن العراقية حول التفجيرات في بغداد طوال السنوات الماضية، أن معظم المتفجرات والسيارات المفخخة والانتحاريين والمسلحين الذين يعملون في العاصمة يأتون من الفلوجة، التي لا تبعد سوى 60 كيلومتراً عن بغداد.

دلالات توقيت معركة الفلوجة

فُوجئ مراقبون كثيرون بتوقيت المعركة الحالية في الفلوجة، إلا أنها في الحقيقة قد تأخرت أكثر من عامين، وذلك لأهمية الفلوجة استراتيجياً لتنظيم "داعش"، بسبب قربها من بغداد، ووجود مسلحين وقواعد ومخابئ للتنظيم فيها، وبسبب خطرها على أمن بغداد والمحافظات الأخرى القريبة مثل بابل وكربلاء وديالى والموصل.

لكن المفاجأة تكمن في أن الحكومة كانت تعلن أنها ستبدأ بتحرير الموصل أولاً، ما جعل الجميع يفكرون بأن المعركة المقبلة مع التنظيم ستكون فعلاً في الموصل وليس الفلوجة. لكن تلك الإعلانات الحكومية كانت خدعة عسكرية، على ما يبدو، تهدف إلى إيهام تنظيم "داعش" بالاستعداد للمعركة في الموصل من أجل الانقضاض عليه في الفلوجة.

ومن الواضح أن البدء في الفلوجة هو أهم عسكرياً وأمنياً وأقل خسائر بالنسبة للحكومة، لأنها لو بدأت في الموصل وتمكنت من تحريرها، فإن معركة الفلوجة ستكون أصعب بكثير، بل وأخطر على سكانها. وسوف يتركز اهتمام التنظيم على الفلوجة وباقي مدن الأنبار الأخرى مثل هيت وعانة وحديثة، وأيضاً سيكون الخطر على بغداد أكبر؛ إذ سيكثف التنظيم من عملياته ضد المدنيين فيها، ما سيضعف الحكومة والدولة العراقية ككل.

وبالتأكيد الانتصار في الفلوجة لن يكون سهلاً بالنسبة للقوات الحكومية، خصوصاً أن مسلحي "داعش" لن يترددوا في استخدام كافة الوسائل المتاحة لديهم، بما في ذلك استخدام المدنيين كدروع بشرية، لكن تحرير الفلوجة لم يعد يتحمل التأجيل، بل أصبح أمراً مرتبطاً ببقاء الدولة العراقية وتماسكها الوطني، وأصبح تحدياً خطيراً لا يمكن تأجيله طويلاً.

فحكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي محاصرة سياسياً بسبب الاحتجاجات الشعبية المستعرة ضدها منذ عدة أشهر، ومهددة اقتصادياً بسبب تراجع عائداتها من النفط، كما أن خمسة وزراء في حكومته أُقيلوا في أبريل الماضي ولم يتولَ بدلاؤهم مهامهم الرسمية حتى الآن، لذلك لم يعد أمامها خيارات أخرى للنجاح سوى الجانب الأمني الذي تحظى فيه بدعم دولي واسع، خصوصاً من الولايات المتحدة وإيران وروسيا، التي تحارب مسلحي "داعش" في سوريا.

كما يأمل العراق أن يتوسع الدعم الدولي له عسكرياً واقتصادياً وسياسياً مع تحقيقه انتصارات ضد الجماعات المسلحة، التي لا تهدده فحسب، بل تهدد دول المنطقة الأخرى. أيضاً حلفاء العراق العسكريون لن يدعوه يخسر هذه المعركة، لأنها مهمة للمجتمع الدولي بقدر أهميتها للعراق، وأن خسارة العراق فيها سوف تحسب على المجتمع الدولي بأسره، كما أنها خسارة أمنية لدول المنطقة جميعاً، لأن تنظيم "داعش" لا يتوقف عند العراق وسوريا، بل يتمدد في الخارج، وتنشط عناصره في دول أخرى مثل ليبيا، التي يمكنه من خلالها تهديد تونس ومصر، بل والنفاذ إلى أوروبا وتهديدها أمنياً، وليست عمليات التنظيم في فرنسا ببعيدة عن تفكير المسؤولين الغربيين.

مخاوف من انتهاكات ضد المدنيين

يرافق عملية تحرير الفلوجة قلق محلي ودولي واسع على سلامة المدنيين الذين وجدوا أنفسهم وسط حرب ضروس، صمم كلا طرفيها على تحقيق النصر المؤزر على الآخر، فمسلحو "داعش" لا يعبأون بشيء سوى إلحاق أقصى الأذى بأعدائهم ولا يهمهم حجم الخسائر حتى في صفوفهم، أما القوات العراقية فلا تستطيع أن تخسر هذه المعركة مهما كان الثمن لأنها ستخسر حينئذ كل الدعم والتأييد الذي تتمتع به حالياً، عراقياً ودولياً.

ويخشى كثيرون من أن تتفاقم المأساة الإنسانية وسط هذا التصميم العراقي والدولي على حسم المعركة وإخراج مسلحي التنظيم، ليس من الفلوجة فحسب، بل من باقي المناطق التي يحتلونها في العراق. وقد ذكر قائمقام الفلوجة، عيسى الدليمي، أن آلاف النازحين من المدينة توجهوا إلى ناحية العامرية المجاورة وأنهم يعانون ظروفاً مأساوية، مشيراً إلى ضعف الدعم المُقدم لهم من الحكومتين المحلية والاتحادية ومنظمات الإغاثة الدولية. فيما أعلنت جمعية الهلال الأحمر العراقية أن عدد النازحين من الفلوجة قد بلغ 14 ألفاً حتى يونيو الجاري، ولا شك في أن هذا العدد سيتضاعف مع استمرار القتال. وأكد محمد الخزاعي، أحد مسؤولي الهلال الأحمر، أن الوضع الإنساني في الفلوجة صعب جداً، وأن السكان يعانون نقصاً حاداً في الأدوية والمواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني.

ومن ناحيته، شكَّل رئيس الوزراء حيدر العبادي لجنة خاصة للنظر في جهود الإغاثة المُقدمة للنازحين. وعلى الرغم من أن وزارة الهجرة والمهجرين العراقية قد أعلنت أنها خصصت ملياري دينار (مليون وستمائة ألف دولار تقريباً) لتقديم المساعدات الإنسانية للنازحين، فإن هذا المبلغ متواضع جداً مقارنةً بحجم الكارثة ولا يمكن أن يغطي الحاجات المتزايدة للنازحين مع اشتداد الحر.

وبالإضافة إلى الأذى الذي يمكن أن يتعرض له المدنيون بسبب العمليات العسكرية، هناك قلق من تعرضهم لانتقام طائفي، خصوصاً أن الشائع في العراق هو أن معظم التفجيرات والسيارات المفخخة التي طالت العاصمة وباقي المدن العراقية، والتي راح ضحيتها آلاف المدنيين، قد جاء من الفلوجة. ونتيجة لذلك، أصبح من المُلِح والضروري أن تراقب الحكومة والمرجعية الدينية ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان المحلية والدولية الوضع الإنساني في الفلوجة لضمان عدم حصول انتهاكات.

ويأتي معظم القلق مما يتردد عن قيام مقاتلي "الحشد الشعبي" المساند للجيش النظامي، بأعمال انتقامية على أسس طائفية، باعتبار أن معظم عناصر الحشد ينتمون إلى الطائفة الشيعية ومدعومين من إيران، بينما ينتمي سكان الفلوجة والمسلحون فيها إلى الطائفة السنية. وهذه المخاوف يجب أن تُؤخذ على محمل الجد من أجل منع وقوعها. وفي هذا الصدد، ثمة تحذيرات من المرجعية الدينية والحكومة من أن أي انتهاك لحقوق الإنسان أو اعتداء على مدنيين من أي طرف سوف يُعامل بمنتهى الصرامة. الكل يراقب تصرفات عناصر الحشد والجيش، والكل يعلم أيضاً أن أي انتهاك أو اعتداء على المدنيين أو حتى الأسرى من مسلحي "داعش"، سيعود بالضرر على أصحابه أولاً، والعراق ثانياً، والجهد الدولي لمحاربة الإرهاب ثالثاً، وأن الدولة لن تتهاون بأي شكل من الأشكال مع مرتكبيه.

وكان رئيس ديوان الوقف السني، الشيخ عبداللطيف الهميم، قد وجه اتهامات لجهات في محافظة الأنبار بأنها قامت "بتفخيخ منازل النازحين" في الرمادي بعد تحريرها من "داعش"، غير أن محافظ الأنبار، صهيب الراوي، نفى هذه الاتهامات وأعلن عن تشكيل لجنة للنظر في هذه المزاعم، داعياً الشيخ الهميم إلى تقديم ما لديه من أدلة بهذا الشأن إلى اللجنة. إن صح وقوع مثل هذه الانتهاكات في الرمادي، فهل يمكن أن تتكرر في الفلوجة؟

مصير معركة الفلوجة وما بعدها

معركة الفلوجة المستعرة منذ أيام ستنتهي على الأغلب بهزيمة مسلحي تنظيم "داعش"، الذي لا يمكنه البقاء في هذه المناطق خصوصاً مع تزايد الدعم الدولي للعراق، وإعراض السكان عن التنظيم، وتقلص عدد مسلحيه ومؤيديه، وتناقص الأموال التي يحصل عليها من آبار النفط أو الإتاوات التي يفرضها على الناس. بيد أن تبعات الحرب من دمار وخراب وخلافات بين السكان حول الجرائم التي ارتكبها مسلحو التنظيم والذين ساعدوهم من أبناء المنطقة، سوف تستمر لفترة طويلة، وهي تحتاج إلى معالجات قانونية ومادية وسياسية، وربما حلول عشائرية أيضاً.

وبعد الانتهاء من تحرير مدن محافظة الأنبار، سيكون لزاماً على الحكومة أن تتجه شمالاً لإخراج مسلحي التنظيم من الموصل والتعامل أيضاً مع مخلفاته هناك، خصوصاً اضطهاد المسيحيين والأيزيديين والتعامل غير الإنساني مع أسراهم من النساء والرجال. ومع كل الصعوبات التي ترافق إخراج المسلحين من المناطق التي يسيطرون عليها بأقل الخسائر الممكنة، فإن التعامل مع آثار احتلال تلك المناطق والجرائم التي ارتكبها التنظيم بحق أهلها سيبقى المشكلة الأكبر التي ستضطر الحكومة والمجتمع الدولي إلى التعامل معها وإيجاد الحلول لها.