عامل مُحدِّدْ:

كيف يُؤثر الدين في الانتخابات الأمريكية 2024؟

07 October 2024


من المُرجّح أن يؤدي الدين دوراً كبيراً في اختيارات الناخبين في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، كما فعل في السنوات السابقة. فعلى الرغم من أن مُجمل التقديرات تفيد بانخفاض نسبة الأمريكيين الذين يرتبطون بالدين بمقدار 11 نقطة مئوية؛ فإن الخطاب الديني لا يزال يفرض نفسه بقوة في الساحة السياسية الأمريكية، وبالتحديد في خضم السباق الانتخابي.

والحقيقة أنه منذ ستينيات القرن العشرين، تداخلت الصلة بين الدين والعرق وأنماط التصويت الانتخابي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ لدرجة أنه يمكن لاستطلاعات الرأي ومحللي الانتخابات تحديد سلوك التصويت بدقة كبيرة بناءً على هوية الشخص الدينية والعرقية.

خريطة الكتل الدينية: 

ثمّة ملامح ترسم خريطة الكتل الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن تناولها على النحو التالي: 

1. تقسيمات واختلافات عديدة: إن تقسيم الأمريكيين وفقاً لهويتهم الدينية ليس بالأمر السهل كما قد يبدو، فالحقيقة أن الهوية الدينية الأمريكية توصف في الأدبيات بأنها أشبه بـ"دمية التعشيش الروسية" المعروفة باسم "ماتريوشكا"؛ ففتح دمية واحدة يكشف عن المزيد من الدمى بداخلها. وبالتطبيق على الكتل الدينية الأمريكية، يمكن ملاحظة أن الفئة العريضة من البروتستانت تنقسم إلى مئات الطوائف المختلفة، ومعظم هذه الطوائف يمكن تقسيمها إلى مجموعات أصغر فأصغر. وكل هذا يصبح أكثر تعقيداً عند الحديث عن تأثير الهوية الدينية في السياسة؛ فمن المهم غالباً أن تُربط الهوية الدينية بمتغيريْن إضافييْن هما: الانتماء العرقي من ناحية، والانتماء الديني الذي يبديه المرء في تقريره عن نفسه من ناحية أخرى.

2. تمايز العرق الأبيض والقومية المسيحية: لا شك في أن الخطاب العام المهيمن في الولايات المتحدة يزعم صراحةً أن العرق الأبيض هو الذي يتمتع برعاية إلهية، إلى جانب وجود ارتباط وثيق بين الادعاءات الدينية والتفوق الأبيض بين المنظمات العنصرية الصريحة في الساحات السياسية الرئيسية، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ثلاث ملاحظات تعكس سيطرة التفوق العرقي الأبيض إلى جانب القومية المسيحية، وهي: 

أ. تدَّعي الحركات المسيحية اليمينية مثل "حركة الهوية المسيحية"، وهي حركة دينية في أمريكا الشمالية اكتسبت شعبية كبيرة منذ ثمانينيات القرن الماضي، بأن الأشخاص الملونين غير البيض، الذين اعتبروهم "أعراقاً طينية"، خلقهم الله ليكونوا في مرتبة أدنى، مُؤكدين أن العهد الديني - بين الله والناس - المنصوص عليه في الكتاب المقدس ينطبق فقط على الأشخاص من أصل أوروبي (ذوي البشرة البيضاء). 

ب. يفشل القادة الإنجيليون دائماً في إدانة أو فصل أنفسهم عن القادة الذين لديهم صلات صريحة بالتفوق الأبيض.

ج. يتجلى التعصب العرقي الديني في الخطاب العام للمرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب، فعندما أُتيحت الفرصة لترامب لإدانة المتعصبين البيض خلال المناظرة الرئاسية الأولى لعام 2020، قال: "تراجعوا وكونوا على أهبة الاستعداد"، وهناك دلالات كثيرة تربط ترامب بالمتعصبين البيض، فعلى سبيل المثال، قام بتعيين ستيف بانون، في منصب "رئيس الموظفين التنفيذيين" لحملته الانتخابية الرئاسية في عام 2016، ويصنف بانون على أنه من القوميين البيض.

3. إضفاء الطابع الديني على الخطاب الانتخابي: على مدار العقود السابقة، يتحدث العديد من الزعماء السياسيين في الولايات المتحدة عن وجود تفويض إلهي، زاعمين أن الله هو الذي أرشد إلى تأسيس المؤسسات الديمقراطية في البلاد، بداية من الانتخابات الشعبية، وصولاً إلى توازن القوى في الدستور؛ ومن هذا المنطلق، يُستخدم الدين من قبل المرشحين سواء من الحزب الجمهوري أم الديمقراطي كأداة خطابية لجذب الجمهور الأمريكي، ويتضح ذلك فما يلي:  

أ. على الصعيد الجمهوري: قال ترامب مؤخراً إن المحاولات الأخيرة لقتله أحبطتها قوة الله، ووعد في كلمة ألقاها أمام حشد انتخابي في ولاية نيويورك في سبتمبر 2024 أنه سيُعيد الدين إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي يونيو الماضي، قال ترامب إنه يؤيد عرض الوصايا العشر في المدارس أثناء حضوره مؤتمراً للمسيحيين الإنجيليين.

ب. على الصعيد الديمقراطي: على الرغم من أن خطاب المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس يخلو من الدعاية الدينية؛ فإن الخطاب الإعلامي المصاحب لها يروج أنها الشخص الأنسب الذي يمثل التركيبة مُتعددة الأديان في الولايات المتحدة الأمريكية، مع حقيقة أن قلة من الأمريكيين الأصغر سناً لديهم سلالة دينية واحدة فقط يحملونها من والديهم. وعلى هذا النحو، تسلط حملتها الضوء على أنها تتبع كنيسة المعمدانيين من ذوي البشرة السمراء، وهي الكنيسة المعمدانية الثالثة في سان فرانسيسكو، بقيادة القس آموس براون، في حين أن زوجها يتردد على كنيسة للإصلاحيين، وبالإضافة إلى ذلك، روّجت حملتها – بحسب مجلة أتلانتيك - بأنه عندما علمت هاريس أن الرئيس الأمريكي جو بايدن سوف ينسحب من السباق الرئاسي لعام 2024، اتصلت بقسها لتطلب منه الصلاة، في إشارة إلى إيمانها المسيحي. وتقليدياً؛ تُفيد التقديرات بأن هاريس تعتمد إلى حد كبير على جذب المسيحيين من أصل إفريقي، خاصة أن الطريق إلى الفوز بأصوات الأمريكيين من أصل إفريقي كان يمر عبر كنائس ذوي البشرة السمراء التي تشبه إلى حد كبير كنيسة هاريس؛ أي الجماعات ذات التوجه المسكوني التي تبشر برسالة "المجتمع المحبوب" والحقوق المدنية.

4. الدين كمُؤثر في فوز أي من الحزبين: عند مُقارنة معدل اتّباع الديانات في عام 2020 بعام 2010، ظهر نمط مثير للاهتمام في الولايات المتحدة الأمريكية، يُسلط الضوء على الأهمية السياسية للمشهد الديني المتغير، فقد وُجد أن الديمقراطيين يحققون مكاسب انتخابية في المناطق التي يتلاشى فيها الدين، وخاصة في المقاطعات التي تخلو من قوائم أي منظمات دينية، في حين يزيد الجمهوريون من حصتهم في التصويت في المقاطعات التي تكتسب فيها دور العبادة أعضاء جدد. 

وهناك مؤشرات إيجابية بالنسبة للديمقراطيين في ولايات الصدأ التي تقع شمال الولايات المتحدة، وأغلبها ولايات متأرجحة؛ إذ تفيد التقديرات بأن ولايات مثل: "ويسكونسن" و"ميشيغان" و"بنسلفانيا" أصبحت أقل تديناً؛ مما كانت عليه من قبل 10 سنوات فقط، وهي أخبار جيدة للحزب الديمقراطي. 

5. تباين الآراء حول دور الدين في السياسة: تُفيد التقديرات بأن الناخبين - سواء أكانوا من الديمقراطيين أم من الجمهوريين - لديهم وجهات نظر مختلفة تماماً حول الدور الذي يجب أن يؤديه الدين في الحكومة والسياسة الأمريكية، فهناك من يُفضل دوراً حكومياً موسعاً في دعم الدين، وهناك من يرى ضرورة إبقاء الدين منفصلاً عن السياسات الحكومية. 

ويُشير أحد استطلاعات الرأي إلى أن 71% يفضلون فصل الدين عن السياسة الأمريكية، في المقابل، وفي هذا الصدد، يؤيد 69% من أنصار ترامب أهمية دور الكتاب المقدس في بلورة قوانين الولايات المتحدة الأمريكية، ويقول 36% منهم إنه يجب أن يكون له قدر كبير من التأثير، وعلى النقيض، يرى 69% من الديمقراطيين أن الكتاب المقدس يجب أن يكون له تأثير ضئيل أو لا تأثير في قوانين الولايات المتحدة، بما في ذلك 53% يقولون إنه لا ينبغي أن يكون له أي تأثير.

اتجاهات التصويت المُتوقعة: 

هناك حالة من التداخل في نتائج استطلاعات الرأي الأولية الخاصة باتجاهات تصويت الكتل الدينية في الانتخابات القادمة؛ إذ توجد بعض المؤشرات التي تصب في صالح المرشح الجمهوري دونالد ترامب، في مُقابل مؤشرات تصب في صالح المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، ويمكن تناول تلك المؤشرات على النحو التالي: 

1. دونالد ترامب: 

أ. تمسك البيض والطوائف الرئيسية المسيحية بدعم الجمهوريين: وجد أحدث استطلاع لمركز بيو للأبحاث، أجري في الفترة من 26 أغسطس إلى 2 سبتمبر 2024، أن أغلبية الناخبين المسجلين في ثلاث مجموعات دينية رئيسية يقولون إنهم سيصوتون لصالح ترامب أو يميلون إلى القيام بذلك. وقد كشف الاستطلاع أن 82% من البروتستانت الإنجيليين البيض، و61% من الكاثوليك البيض، و58% من البروتستانت غير الإنجيليين البيض سوف يصوّتون للجمهوري دونالد ترامب.

ومن جهة أخرى، تفيد التقديرات بأن دعم ترامب يزيد بين الإنجيليين البيض والكاثوليك البيض الذين يزورون الكنيسة بانتظام، مقارنة بأولئك الذين لا يزورونها، (وذلك بنسبة إجمالية 63% ممن يلتزمون بزيارة الكنائس مقابل 55% من غير الملتزمين بزيارتها)، في حين أنه لا توجد مثل هذه الاختلافات في دعم هاريس بين البروتستانت من ذوي البشرة السمراء.   

ب. تصويت عقابي للعرب والمسلمين لصالح ترامب: على الرغم من أن بايدن فاز بأصوات العرب والمسلمين في عام 2020؛ إذ حصل بحسب استطلاعات للرأي عقب التصويت على تأييد ما يتراوح بين 64 و84% منهم؛ فإن استطلاعات الرأي الحالية تُنذر بأن الناخبين العرب سيتجهون نحو التصويت العقابي؛ بسبب غضبهم من سياسات إدارة بايدن بشأن دعمها المطلق لإسرائيل في حزب غزة. 

وفي أحدث استطلاع للرأي تم إجراؤه قبل أسبوعين من مناظرة هاريس وترامب، تبين أن الناخبين الأمريكيين العرب والمسلمين يتحولون من تأييد نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية لانتخابات الرئاسة، كامالا هاريس، إلى دعم مرشحة حزب الخضر، جيل ستاين، ويُضيف الاستطلاع أن نحو 40% من الناخبين المسلمين في ولاية ميشيغان، وهي موطن جالية كبيرة من الأمريكيين العرب، أيّدوا ستاين المنتمية لحزب الخضر، في حين بلغت نسبة تأييد هاريس بين أوساط المسلمين في تلك الولاية نحو 12%. 

وتُشير نتائج ذات الاستطلاع إلى أن ستاين تتقدم على هاريس بين المسلمين في ولايتي "أريزونا" و"ويسكونسن"، وهما ولايتان متأرجحتان تضمان عدداً كبيراً من السكان المسلمين؛ إذ هزم بايدن ترامب، في 2020، بهامش ضئيل.

2. كامالا هاريس: 

أ. دعم المسيحيين من ذوي البشرة السمراء والأقليات: تُشير التقديرات إلى أن الكتل الدينية من ذوي البشرة السمراء، بالإضافة إلى الطوائف غير الرئيسية تدعم كامالا هاريس، فعلى سبيل المثال، يفيد استطلاع بيو للأبحاث في الفترة من 26 أغسطس إلى 2 سبتمبر 2024 أن 86% من البروتستانت من ذوي البشرة السمراء، و65% من الكاثوليك من أصل إسباني، و65% من الناخبين اليهود سوف يصوتون لكامالا هاريس. وبالنظر إلى تلك المؤشرات، يُلاحظ أن هاريس تحظى بدعم أكبر مما حصل عليه بايدن قبل أن ينسحب من السباق الانتخابي، فعلى سبيل المثال، وجدت الاستطلاعات أن بايدن كان يحظى بدعم 77% من البروتستانت من ذوي البشرة السمراء و49% من الكاثوليك من أصل إسباني.

ب. تأييد اليهود الأمريكيين: أظهر استطلاع آخر للرأي، أصدره المجلس الديمقراطي اليهودي بالولايات المتحدة، أن نحو 68% من الناخبين اليهود يخططون للتصويت لصالح هاريس، في حين ينوي 25% من الكتلة اليهودية الأمريكية التصويت للمرشح الجمهوري دونالد ترامب. وعلى الرغم من الجهود المكثفة التي يبذلها الجمهوريون لاستثمار تبعات هجوم حماس في السابع من أكتوبر، والحرب الإسرائيلية على غزة، بما في ذلك تحذيرات ترامب بأن إسرائيل سوف تزول إذا فازت هاريس؛ فإن استطلاعات الرأي لا تزال تؤكد حقيقة مفادها أن سبعة من كل عشرة أمريكيين يهود ينتمون إلى الحزب الديمقراطي، وبغض النظر عن الحرب في غزة؛ فإن اليهود الأمريكيين في الغالب "ليبراليون ويتوافقون مع الحزب الديمقراطي"؛ لأنه من وجهة نظرهم، هو الحزب الأقرب إلى العلمانية والحريات الفردية والمساواة بين العرقيات، في حين أن الحزب الجمهوري لديه بعض الميول المتعلقة بالعنصرية والقومية المسيحية.

واللافت للانتباه أن أحد استطلاعات الرأي الأخرى؛ وجد أن نحو 91% من الناخبين اليهود قلقون بشأن معاداة السامية في الولايات المتحدة، ويثق الناخبون اليهود في كامالا هاريس أكثر من دونالد ترامب في مكافحة معاداة السامية بهامش ثلاثة إلى واحد تقريباً بنسبة (60% مقابل 23%).

ج. أهمية تصويتية لغير المنتمين لأي دين: تُشير استطلاعات الرأي إلى تعاطف أغلب الملحدين واللاأدريين (اللاأدري هو الشخص الذي لا يُؤمن ولا يكفُر بالذات الإلهية)، مع الحزب الديمقراطي أو يميلون إليه ويدعمون هاريس في الحملة الحالية؛ لدرجة أن التقديرات الأولية تقول إن نحو 85% من الملحدين و78% من اللاأدريين يؤيدون هاريس في السباق الانتخابي الأمريكي.

وفي هذا الصدد، يتفق المراقبون أنه من الخطأ التهاون بهذه الفئة من الناخبين، وخاصة في ظل نشر مركز بيو للأبحاث دراسةً تؤكد أن نسبة الأشخاص غير المنتمين لأي دين الآن بلغت نحو 28% من إجمالي البالغين في الولايات المتحدة، وهي نسبة أصبحت متقاربة مع الطوائف المسيحية الرئيسية في البلاد، بما في الكاثوليك أو البروتستانت الإنجيليين. وثمّة ملاحظات حول غير المنتمين لأي دين تؤكد أهميتهم بالنسبة لحملة هاريس، وهي:

• أغلب غير المنتمين لأي دين صغار؛ إذ تُقدر الدراسات أن 69% منهم تحت سن الخمسين؛ ومن ثم، هم فئة مهمة ضمن القاعدة الشبابية التصويتية. 

• إن الملحدين واللاأدريين داخل غير المنتمين إلى أي دين هم أكثر عرضة للمشاركة السياسية والمدنية، وبعضم يكونون أقل رضا عن مجتمعاتهم المحلية؛ ومن ثم، فإن إقناعهم بالتصويت يعني أن حملة هاريس نجحت في جذب ممن يشعرون بالاغتراب أو العزلة أو على أقل تقدير جذب الفئات الناقمة على قيم المجتمع الأمريكي. 

وفي التقدير، يمكن القول إن الوازع الديني والانتماء الطائفي بمثابة أحد الدوافع الخفية في تشكيل الخريطة التصويتية للسباق الانتخابي الرئاسي؛ ومن ثم، لا يمكن اعتباره أمراً ثانوياً؛ إذ لا يزال الدين يؤدي دوراً كبيراً في تشكيل توجهات الناخبين، والتي أصبحت تعاني – على وجه الخصوص - من دوامة الاستقطاب غير المسبوقة ما بين الجمهوريين والديمقراطيين، والمشكلة أن تلك الدوامة لا تدور حول خلافات سياسية فحسب، ولكنها باتت تعبر عن اتساع الفجوة بشأن القيم الأمريكية، فبينما يتجه الجمهوريون نحو ضرورة العودة إلى القيم الأمريكية الأساسية وإحياء المبادئ الدينية، بما في ذلك تعزيز القومية المسيحية وتفوق العرق الأبيض، يتخوف الديمقراطيون من سيادة العرق الأبيض ويؤمنون بأهمية التنوع العرقي والطائفي في البلاد كونه العامل الدافع لنهضة للولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب تعزيز مبادئ العلمانية والعولمة والانفتاح على الآخرين.