الجودة أولاً:

سياسات الاستدامة الأوروبية لمواجهة "السياحة المفرطة"

02 August 2024


اتجه العالم لوضع سياسات أكثر استدامة، في ظل عودة الحركة السياحية العالمية بنسبة 97% لمستويات ما قبل جائحة كورونا، وفقاً لمؤشرات منظمة السياحة العالمية للربع الأول لعام 2024 مقارنةً بنفس الفترة من عام 2019؛ إذ سافر أكثر من 285 مليون سائح دولياً في الفترة من يناير إلى مارس 2024، وبزيادة حوالي 20% عن الربع الأول من 2023. 

واستطاعت الوجهات الأوروبية تخطي حاجز عام 2019 بنحو 1% باعتبارها الوجهة الأولى عالمياً، مسجلة نحو 120 مليون سائح خلال الربع الأول من العام الحالي؛ أي 42% من إجمالي السياحة الوافدة عالمياً، ولكن الأعداد السياحية المتزايدة أثارت سلوكاً معادياً في عدة مدن أوروبية ضد السياحة المفرطة في الفترة الأخيرة؛ نظراً لتأثيرها في الخدمات المقدمة للمجتمع المحلي، بجانب آثارها البيئية. ووفقاً لمنظمة السياحة العالمية، تُعَرَّف السياحة المفرطة (Overtourism) بأنها هي تأثير السياحة على وجهة ما أو أجزاء منها بشكل مفرط، وبما يؤثر بشكل سلبي في جودة حياة المواطنين أو الزائرين.

صدارة أوروبية: 

تُعد القارة الأوروبية الوجهة الأكثر جذباً للسياحة في العالم، بجانب أن أكبر دولتين على مستوى العالم جذباً للسياحة تقعان داخل هذه القارة، وهما فرنسا وإسبانيا. واستطاعت الدول الأوروبية تحقيق أعلى معدل استقبال للسائحين بنسبة 54% من قيمة السياحة العالمية عام 2023، وبلغت إيراداتها من السياحة نحو 660 مليار دولار من إجمالي إيرادات السياحة الدولية التي وصلت إلى 1.5 تريليون دولار في نفس العام.

وجاءت فرنسا وإسبانيا كأكبر دولتين استقبالاً للسائحين عام 2023، فحققت الأولى نحو 100 مليون سائح، والثانية 85.2 مليون سائح، واحتلت إيطاليا المركز الرابع باستقبال 57.2 مليون سائح، بعد الولايات المتحدة الأمريكية التي سجلت 66.5 مليون سائح. لكن من حيث الإيرادات السياحية في عام 2023، احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى بقيمة 175.9 مليار دولار، تلتها إسبانيا بقيمة 92 مليار دولار، ثم المملكة المتحدة بنحو 73.9 مليار دولار.    

وثمة توقع باستعادة الحركة السياحية بشكل كامل في عام 2024؛ نتيجة الطلب القوي واستمرار انتعاش الأسواق السياحية الأكثر نمواً مثل: الصين والهند وغيرهما من الأسواق الآسيوية الأساسية، وتوقع تحقيق انتعاش اقتصادي بالرغم من البطء المرتبط بمناطق عدة في ظل استمرار التضخم وارتفاع أسعار الفائدة وعدم استقرار أسعار النفط واضطراب حجم التجارة، وفقاً لتقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، والذي يمكن إرجاعه إلى التغيرات الجيوسياسية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية والحرب على قطاع غزة. 

ومن هذا المنطلق، فإن السياحة تعزز عملية النمو الاقتصادي وفرص العمل في جميع أنحاء العالم؛ نتيجة زيادة مساهمتها في الناتج القومي الإجمالي، إلا أنه مع ارتفاع نسبة التضخم العالمي وارتفاع الأسعار والتكاليف، زادت معاناة السكان المحليين الذين بدأوا في رؤية السياحة سبباً في ارتفاع تكاليف الإقامة نتيجة زيادة الطلب؛ وهو ما انعكس على اندلاع احتجاجات ضد السائحين على مدار الأسابيع الماضية في عدة مدن إسبانية ومنها برشلونة، مع تخوف أن تنتقل هذه العدوى إلى مدن أوروبية أخرى في ظل استمرار الاعتماد على الأعداد السياحية وليس معدلات الإنفاق. 

تأثيرات سلبية: 

لم تكن الاضطرابات الأخيرة المتتالية في المدن الإسبانية هي الأولى من نوعها ضد السياحة في الدول الأوروبية، بل سبق أن شهدت مدينة البندقية الإيطالية عام 2021 احتجاجات ضد رسو السفن السياحية الكبيرة بالمدينة؛ مما اضطر حينها السلطات الإيطالية إلى إصدار قرار بحظر مرور السفن السياحية الكبيرة عبر القناة الكبرى وأصبحت ترسو بعيداً عن المدينة. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الإيطالية جاءت نتيجة المخاوف البيئية والهيكلية للبندقية، فإن اعتراضات سكان برشلونة في إسبانيا جاءت نتيجة تزايد أعداد السائحين، والاعتماد على ما يُسمى السياحة الجماعية (Mass Tourism) في قياس مؤشرات النمو السياحي للدول، في ظل التنافس الدولي لجذب أكبر عدد من السائحين مع خفض الأسعار؛ مما أثر في ارتفاع أسعار الإيجارات بالنسبة لسكان المدينة. 

وتجدر الإشارة إلى أن السياحة الجماعية تُعرف بأنها حركة عدد كبير من السياح المُنظمين إلى المقاصد المختلفة لأغراض ترفيهية؛ إذ يستهلكون المنتجات السياحية بشكل جماعي ومماثل، وغالباً ما تكون أرخص طريقة لقضاء العطلات، وهي تركز في المداخيل على الكم ربما أكثر من جودة الخدمات. ويؤدي الاعتماد الكمي للدول على الأعداد السياحية إلى زيادة الأعداد عن حجم استيعاب المدن في مواسم بعينها؛ ومن ثم الضغط على البنية التحتية لها، وعليه فإنها تتحول إلى سياحة مفرطة تؤثر في الحياة اليومية للسكان المحليين.

جدير بالذكر أن الأدبيات الاقتصادية دأبت على النظر للسياحة المفرطة باعتبارها إحدى نتائج السياحة الجماعية؛ إذ تنشأ الأولى جراء الطلب السياحي الذي يتجاوز القدرة الاستيعابية للمجتمعات المضيفة. وفي بعض الأحيان، يعمل الانتعاش السياحي على زيادة الطلب على الموارد، دون دراسة تأثير ذلك في رفاهية المجتمعات المحلية.

ويمكن القول إن ثمة سببين رئيسين للشكوى من السياحة الجماعية، والتي قد تؤدي بدورها إلى إفراط في الحركة السياحية في مواسم بعينها في بعض الدول الأوروبية، كالتالي: 

1- التأثيرات البيئية: أشارت دراسة منشورة أُجريت عام 2020 إلى أن الأنشطة السياحية تسببت عام 2005 في نحو 1305 ملايين طن من غاز ثاني أكسيد الكربون، بجانب الضغط على الموارد المائية للدول السياحية نتيجة زيادة أعداد السائحين، فضلاً عن تأثير المراكب السياحية والسفن والفنادق العائمة على التنوع البيولوجي من تآكل الشواطئ ونشر الأعشاب المائية الضارة والتلوث وتصريف النفايات السائلة غير المعالجة. ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة؛ فإن بناء المنتجعات في إيطاليا أسهم في اختفاء ثلاثة أرباع رمال شواطئ البحر المتوسط. 

وتؤكد تقديرات "الوكالة الأوروبية للبيئة"، المنشورة في يناير 2023، معاناة دول جنوب أوروبا من أزمة ندرة المياه؛ إذ يعيش حوالي 30% من سكانها في مناطق تعاني من إجهاد مائي دائم، ويعيش ما يصل إلى 70% من سكانها في مناطق تعاني من إجهاد مائي موسمي بين شهري يوليو وسبتمبر من كل عام؛ أي خلال فصل الصيف؛ نتيجة الممارسات السياحية وزيادة الأعداد المستخدمة للمياه. وكانت قبرص ومالطا واليونان والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا، الأكثر نُدرة في المياه بين دول الاتحاد الأوروبي عام 2019؛ وهو ما تتأثر به الأنهار أيضاً في أوروبا الغربية نتيجة زيادة الضغط على استهلاك المياه العذبة. 

وهذا ما دفع العديد من الفنادق إلى إعادة تدوير مياه الصرف لأغراض التنظيف وفرض رسوم بقيمة 1 يورو على خدمات المياه، بجانب استخدام الفنادق في برشلونة لمياه البحر في حمامات السباحة، مع فرض رسوم لرسو السفن الكبرى في البندقية منذ عام 2021. وتخطط مدينة أمستردام لفرض قيود مماثلة بحلول عام 2026، للحد من تلوث الهواء.

وعلى الرغم من التأثيرات الإيجابية للسياحة بشكل عام في البيئة؛ من حيث الحفاظ على البيئة والتراث والمحميات الطبيعية، وتطوير البنى التحتية، وتحسين النقل الصديق للبيئة، وحماية المناطق السياحية من النفايات؛ فإن السياحة المفرطة، الناتجة عن تزايد الاعتماد على السياحة الجماعية، هي التي تزيد من المخاوف البيئية نتيجة الازدحام؛ ومن ثم يؤثر ذلك في رؤية السكان المحليين للسياحة. ففي دراسة نشرها الموقع الإخباري المتخصص في السفر "توريزم ريفيو" (tourism review)، في 15 يوليو 2024؛ فإن 92% من الفرنسيين المشاركين في الاستبيان، دون تحديد حجم العينة، أشاروا إلى الآثار السلبية للسياحة المفرطة وتتمثل في رؤية النفايات والازدحام والانتظار لمدة طويلة. كما أن 67% من الإسبان المشاركين يتحفظون على هذا النوع من السياحة، فضلاً عن عدم رغبة 70% من الإيطاليين في عينة الدراسة زيارة الأماكن المزدحمة، والاعتقاد بتأثيرها في ارتفاع الأسعار، ويرون أنه على السلطات وضع حدود أكثر صرامة في المناطق المحمية بيئياً، مع ضرورة اعتماد "نظام الحصص" القائم على تحديد أعداد الزيارات وأوقاتها. 

2- التأثيرات الاجتماعية: تؤثر السياحة بشكل إيجابي في تحسين جودة حياة المجتمع المحلي، واستفادته من عمليات التنمية والتطوير. وتُعد السياحة نشاطاً اقتصادياً رئيسياً في دول الاتحاد الأوروبي؛ إذ تمثل 10% من ناتجها المحلي الإجمالي، كما يعمل في القطاع السياحي نحو 2.3 مليون من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، والتي توظف وحدها ما يقدر بنحو 12.3 مليون شخص. وبالرغم من أن عام 2023 شهد تعافي إجمالي عدد وظائف السفر والسياحة في أوروبا من تأثير جائحة كورونا؛ فإنه ما زال منخفضاً بنحو 5% عما كان عليه الحال في عام 2019؛ إذ يجذب القطاع بشكل مباشر وغير مباشر حوالي 36.7 مليون وظيفة في أوروبا وفقاً لتقديرات عام 2023 مقارنةً بـ38.6 مليون وظيفة في 2019. ومن المتوقع أن يتجاوز عدد الوظائف في 2024 مستويات ما قبل الجائحة، ليصل إلى نحو 39.1 مليون وظيفة.

وفي المقابل، فإن الآثار السلبية تكمن في موسمية بعض الأعمال في القطاع السياحي، كما أن زيادة الطلب السياحي على العديد من العقارات والخدمات الأساسية أدت إلى عدم توافرها أو ارتفاع أسعارها، مقارنةً بمعدلات الدخل؛ وهو ما تسبب في الأزمة الحالية في إسبانيا؛ إذ زادت الإيجارات في برشلونة بنسبة 68% في السنوات العشر الماضية، مع ارتفاع تكلفة شراء ‏المنزل الواحد بنسبة 38%؛ وذلك لما تسببت فيه مشاركة المجتمع المحلي عبر الإيجارات المؤقتة ‏من خلال موقع (Airbnb)‏. كذلك تضاعفت الاحتجاجات ضد ‏السياحة في جزر الكناري والبليار وملقا الإسبانية،‏ بجانب انتقال الاحتجاجات إلى لشبونة عاصمة البرتغال، وبراغ التشيكية، وكذلك مدينة أمستردام الهولندية.

كما أن هناك شعوراً متزايداً لدى المجتمع المحلي بعدم المساواة؛ نتيجة تركيز معظم مصادر إنفاق الدخل السياحي على سلاسل القيمة المقدمة للسائح من وسائل نقل أو إقامة أو شركات حجز ومنظمي رحلات؛ مما يحد من التدفقات النقدية المباشرة للسياحة على المجتمع المحلي.‏

وهذا ما دفع العديد من الدول إلى اتخاذ إجراءات لتقليل الأزمة، مثل وقف التراخيص الجديدة لتأجير العقارات عبر منصات الإنترنت مثل (Airbnb)‏، كما فرضت بعض المدن حدوداً ‏زمنية على تأجير العقارات للسياح، وأعلنت كتالونيا العمل على إنهاء تأجير ما يصل إلى 10 آلاف شقة لقضاء العطلات حتى عام 2028. وتتقاضى جزر البليار (مايوركا، ومينوركا، وإيبيزا، وفورمينتيرا) رسوماً ليلية تتراوح من 1 إلى 4 يوروهات لكل سائح يبلغ من العمر 16 عاماً. وتُستخدم هذه الضريبة، المعروفة باسم "ضريبة السياحة المستدامة"، للترويج لممارسات سياحية أفضل والحفاظ على طبيعة الجزر، وتخطط فالنسيا لاتخاذ إجراء مماثل. 

سياسات سياحية: 

قد تساعد السياسات الوطنية لبعض الدول على إنهاء المشكلات المرتبطة بتحول السياحة الجماعية إلى سياحة مفرطة، مع توقع تمددها لمدن أخرى، مع استضافة القارة الأوروبية الأحداث الرياضية المهمة مثل دورة الألعاب الأولمبية في باريس من 26 يوليو إلى 11 أغسطس 2024. بيد أن هناك حاجة إلى سياسات سياحية مستدامة لإدارة الوجهات؛ بهدف تعزيز الاستدامة والشمول، مع معالجة العوامل الخارجية وتأثير القطاع على الموارد والمجتمعات، وهو ما تم وضعه من قِبل منظمة السياحة العالمية في فبراير 2024 كإطار لقياس الاستدامة الاجتماعية والبيئية، وسيجري التصويت عليه من قِبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل. ويمكن تحديد تلك السياسات في التالي: 

1- سياحة الجودة بدلاً من الكمية: من خلال الاعتماد على السائح الأعلى إنفاقاً؛ فالدول الأكثر جذباً للسياحة ليست بالضرورة الأكثر دخلاً منها، فالولايات المتحدة حققت المركز الأول من حيث الإيرادات السياحية والثالثة من حيث عدد السائحين، مقابل فرنسا الأولى من حيث عدد السائحين والرابعة من حيث الإيرادات؛ ومن ثم فإن الاعتماد على جذب السائح الأكثر إنفاقاً سيسهم في تخفيف حدة الأزمة الناجمة عن السياحة المفرطة، كذلك تحديد قيمة السياحة من حيث مساهمتها في المجتمع المحلي، والتي تتزايد من خلال تزايد معدل إنفاق السياح الأجانب داخل المجتمع، والمتوقع أن تزيد بنسبة 27% خلال الربع الأول من 2024 عن العام الماضي، مع تفعيل مفهوم "السياحة المسؤولة".

2- تطبيق الحصص السياحية وتطوير وجهات جديدة: من خلال العمل على إعادة توزيع السائحين على المناطق الأقل جذباً، وتنظيم دخول الأفراد للمناطق الأثرية والسياحية، وفرض حد أقصى لعدد الزوار، مع تقديم أسعار تنافسية لها، ودعم فكرة الحجز المُسبق خاصةً خلال مواسم الذروة. يُضاف إلى ذلك، تطوير الوجهات الأوروبية القريبة من الدول الأكثر جذباً وربطها ضمن برامج موحدة. كما أن جذب أسواق متنوعة سيسهم في استدامة الوظائف السياحية وتحقيق التوازن لتخفيض الطبيعة الموسمية للسياحة. 

3- تغيير مؤشرات الأداء: من خلال الاعتماد على معدلات الإيرادات، بجانب كيفية مساهمة السياحة في تقليل البطالة، والالتزام بجعل السفر الجوي "صفر كربونياً" بحلول عام 2050، وتطبيق تكنولوجيا الطيران وسياسة السماء الواحدة الأوروبية، بجانب الاعتماد على عدد الليالي السياحية والإقامة في الفنادق ومساهمتها في الاستثمار، ودور السائح في تعزيز التجارب المحلية؛ إذ تؤكد هولندا، على سبيل المثال، في استراتيجية 2030، ضرورة أن يكون كل زائر مساهماً في تحقيق رفاهية المواطنين. كما يعمل الاتحاد الأوروبي على تزويد أعضائه بالأدوات والمعرفة لتسريع الانتقال إلى نماذج سياحية أكثر تنافسية واستدامة.

ختاماً، هناك أهمية للسياحة في تنمية المجتمع، إلا أن تحول السياحة الجماعية إلى سياحة مفرطة وتأثيراتها الاجتماعية والبيئية، أدت إلى العديد من الاحتجاجات في مدن أوروبية؛ ومن ثم عمدت السلطات الأوروبية إلى العمل على تطوير مؤشرات قياس أداء القطاع السياحي لتحقيق تنمية المجتمع، وتغيير المؤشرات لتربط الإيرادات بتحقيق قيمة اقتصادية واجتماعية وبيئية.