العرب:

"البلقنة الرقمية": إستراتيجية القوى الكبرى لتجزئة الإنترنت

17 May 2024


المناقشات حول التجزئة العالمية للإنترنت بدأت مند قرابة العقدين، لتأخذ اتجاها متصاعدا بعد جائحة كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية. وفي هذا المقال يحلل جوليان نوسيتي في دراسة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية وأعدها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، الدوافع وراء عملية التجزئة، وانعكاسات ذلك على الفجوة الرقمية بين دول العالم.

باريس- تعود جذور “تجزئة الإنترنت” أو تفكيك الشبكة العالمية إلى شبكات، إلى مصطلح “البلقنة”، الذي يشير إلى عملية تقسيم الدولة إلى كيانات مستقلة أصغر؛ إذ ارتبط ظهور هذا المصطلح في الولايات المتحدة بالإنترنت لأول مرة في عام 1997. وفي عام 2001، طرح كلايد واين كروز، مفهوم (Spliinternet)، تقسيم الإنترنت العالمي إلى أجزاء من شبكات داخلية متوازية لا تتوافق مع بعضها البعض، وتتم إدارة كل منها بشكلٍ منفصل لأسباب تكنولوجية أو تجارية أو سياسية، للكشف عن الإمكانات اللامحدودة للإنترنت، ووجد هذا المصطلح زخما كبيرا في عام 2010، ويمكن التمييز بين ثلاثة أشكال من تجزئة الإنترنت، على النحو التالي:

التجزئة الفنية: يركز الجانب الفني لتجزئة الإنترنت على المخاطر التي تؤثر في قابلية التشغيل البيني للشبكة، وعلى العقبات الفنية التي تحول دون نقل البيانات. وبالتالي؛ فهو ينتج في جوهره عن قرارات تؤدي، عن قصد أو بغير قصد، بشكل دائم أو مؤقت، إلى قطع أو تقييد الاتصال الرقمي بين جزء من الإنترنت وبقية الشبكة. ومن القضايا المرتبطة بالمعالجة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سياسة بروتوكول الإنترنت.

التجزئة الجيوسياسية: تُعد السيطرة على البيانات جوهر مسألة التجزئة السياسية للإنترنت، ولاسيما أن التدفق الحُر للبيانات بات محل نزاع بسبب إشكالية تسييس ممارسات توطين البيانات الشخصية وارتباطها بالسيادة الوطنية والمنافسة الدولية، والخلافات بين الأنظمة التسلطية والديمقراطية. فبعض الدول تسعى إلى إضفاء الشرعية على “أقلمة الإنترنت” (Regionalization)، لتتوافق مع طبيعة أنظمتها السياسية، بينما تفضل الأخرى توطين البيانات الشخصية على أراضيها لاعتبارات سياسية وأمنية. يبدو ذلك جليا خلال الصراعات العسكرية، سواء للسيطرة على البنية التحتية المادية لشبكة ما (كما حال أوكرانيا)، أم لتدمير البنية التحتية للإنترنت ووسائل الاتصال في بلد ما (كما حال حرب غزة بدءاً من أكتوبر 2023). مع ذلك، فإن هذا البعد من التجزئة، الذي لم تتم دراسته بعد، يمثل مخاطر حقيقية للغاية على استقرار ومرونة الفضاء السيبراني.

جوليان نوسيتي: السيطرة على البيانات جوهر التجزئة السياسية للإنترنت

 التجزئة التجارية: تحوز المنافسات الاقتصادية أهمية في مبررات تجزئة الإنترنت، سواء أكانت إستراتيجيات حمائية من جانب السلطات الوطنية، كما في الصين أو الولايات المتحدة أم إستراتيجيات تجارية بحتة. وترتبط هذه الديناميكية التجارية بالنموذج الاقتصادي للمنصات الرقمية الضخمة وإيرادات الإعلانات المرتبطة بملفات بيانات مستخدمي الإنترنت، فضلاً عن اتجاه منصات مثل: “ميتا” أو “غوغل” لتعزيز قاعدتها التكنولوجية المملوكة من أجل الاحتفاظ بمستخدميها، وتحقيق الدخل من خلال السيطرة على البيانات واعتبارها مصدر دخل إستراتيجي؛ مما يدفع هذه الشركات إلى تقييد تبادلها للبيانات. وهكذا، قامت شركتا غوغل وميتا – فيسبوك، إنستغرام، واتساب – بحظر أي نقل للبيانات من تطبيقاتها المختلفة.

تشير هذه التجزئة التجارية إلى عملية “التحول إلى منصة” (plateformisation) للإنترنت، والتي تتعلق بالفاعلين الأكثر تماسكا في الاقتصاد الرقمي؛ إذ يتم تشجيعهم على بناء وامتلاك البنية التحتية التقنية الخاصة بهم. وهكذا، تقوم غوغل أو ميتا أو أمازون بطريقة ما بإنشاء شبكتها الخاصة، وجعلها بوابة الدخول الرئيسية إلى الإنترنت العالمي. مع ذلك، هناك تحفظات خاصة بالعوامل المحفزة للتجزئة فيما يتعلق بالبيانات والبنى التحتية، وشركات الويب والجهات الفاعلة في مجال الاتصالات بشأن مسألة حيادية الشبكة واحترام الملكية الفكرية.

وقدَّمت الدبلوماسية الأميركية منذ فترة طويلة شبكة الإنترنت باعتبارها بنية تحتية عالمية للدفاع عن مصالحها الخاصة، ويمثل استغلال إطارها المخصص الآن أحد المحددات الرئيسية لتجزئة الإنترنت في المنتديات الدولية المعنية.

ومع التحول في مركز الجاذبية الديموغرافية للإنترنت نحو آسيا، والفشل النسبي للولايات المتحدة في تحقيق أهدافها في منتديات حوكمة الإنترنت؛ تزايد اهتمام واشنطن بتسريع عملية التجزئة؛ من أجل ضمان قدرة الولايات المتحدة على فرض السيطرة على الإنترنت. ففي عام 2020، خلال رئاسة دونالد ترامب، تم تصميم برنامج الشبكة النظيفة لتطهير شبكات الولايات المتحدة (وشركائها) من التطبيقات الصينية غير الموثوقة (تيك توك TikTok، وي تشات WeChat، هواوي Huawei، وغيرها)، وكانت هذه المبادرة جزءا من تجزئة الإنترنت، على الرغم من انتقادها تقليديا من قبل واشنطن.

وتواصل إدارة بايدن بنشاط الحملة ضد الموردين الصينيين، ولاسيما شركة “هواوي”.

وكثيرا ما يُقدَّم سيناريو تجزئة الإنترنت باعتباره تعارضا بين الغرب وباقي العالم، والذي تعمق منذ اشتداد المنافسة التكنولوجية الصينية الأميركية واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. هنا من المهم، فهم تصورات القوى الكبرى المنافسة الأخرى لعملية تجزئة الإنترنت، كما يلي:

• الصين: تسعى الصين للحاق بالركب التكنولوجي العالمي مدفوعة برغبتها في كسر هيمنة الولايات المتحدة في الفضاء الرقمي. وتسهم بكين بشكل كبير في تجزئة الإنترنت العالمية لأسباب سياسية محلية، ويشكل “جدار الحماية العظيم” (The Great Firewall)، منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وسيلة للسيطرة على الإنترنت على المستوى الوطني؛ إذ تم حظر الخدمات الرئيسية للفاعلين الأميركيين مثل: فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب منذ عام 2009، وغوغل منذ عام 2010. 

وإلى جانب تيك توك، يمثل وي تشات النجاح الأبرز للاقتصاد الرقمي الصيني وتصديره خارج حدود البلاد، فالخصائص التقنية لهذا التطبيق تحد من الترابط بين الأجزاء المختلفة للشبكة؛ مما يؤدي إلى التجزئة الفنية، كما أن هناك اتجاها أساسيا لدى السلطات الصينية يهدف إلى تجاوز قوانينها المتعلقة بإدارة البيانات خارج الحدود الإقليمية، من منظور سياسي مزدوج (تحدي هيمنة القانون الأميركي، الدفاع عن نهج محدد لسيادة البيانات) واقتصادي (دعم نشر طرق الحرير الرقمية الجديدة).

◄ في العام 2020 تم تصميم برنامج الشبكة النظيفة لتطهير الشبكات الأميركية من التطبيقات الصينية غير الموثوقة

• روسيا: في ظل العداء مع واشنطن، تسعى موسكو إلى تكريس مبدأ السيادة الرقمية؛ إذ ترغب في تخفيف اعتماد البلاد على المنصات الأميركية الرئيسية، كما تعمل على تطوير البنية التحتية والتقنيات المحلية؛ مما يسمح لشبكتها بأن تصبح مكتفية ذاتيا وتنفصل عن بقية الويب (الشبكة العالمية). ففي عام 2019، صدر قانون “إنترنت سيادي”، يمكن للسلطات الروسية من خلاله إدارة تدفق المعلومات في الفضاء الإلكتروني الروسي، ويلزم مزودي خدمة الإنترنت في موسكو بمراقبة وتصفية وإبطاء ومنع وصول المستخدمين إلى مواقع ويب محددة.

في الوقت نفسه، نص القانون على تنفيذ نسخة روسية من “نظام اسم المجال” (DNS).

• الهند: أدى التنافس الصيني الأميركي، والتعطيل العالمي لسلاسل التوريد التجارية والتكنولوجية، والحرب في أوكرانيا إلى تناقض الموقف الهندي تجاه التحديات المتمثلة في تجزئة الإنترنت. فإذا كانت الهند تعتمد حاليا على الولايات المتحدة والصين من حيث المعدات والبرمجيات والمنصات، فإن السيادة الرقمية تشكل ركيزة لإستراتيجيتها في التعامل مع القضايا الرقمية. وفيما يتعلق بالحكومة الإلكترونية الهندية، فإن المشروع الرئيسي، (India Stack)، لتطوير الخدمات الرقمية، يتضمن حلاً للتحقق من الهوية أو نظام دفع (UPI)؛ مما أسهم بشكل كبير في تطوير قطاع التكنولوجيا المالية. هذان المشروعان، على الرغم من أنهما لا “يجزئان” الإنترنت العالمي، فإنهما يشكلان جزءا لا يتجزأ من نهج أكثر سيادة في المجال الرقمي الوطني.

ومنذ الأزمة المفتوحة بين بكين ونيودلهي في مايو 2020، منعت السلطات الهندية 59 طلبا تكنولوجيا صينيا على أساس أنها تهدد الأمن القومي. وتم توسيع القائمة تدريجيا لتشمل أكثر من 200 تطبيق، بما في ذلك: “ويشات” و”علي إكسبريس” و”تيك توك”. وفي قطاع الاتصالات، تم استبعاد شركتي “هواوي” و(ZTE) من مراحل اختبار شبكات الجيل الخامس (5G).  [ الاتحاد الأوروبي: لا تزال مسألة تجزئة الإنترنت موضع نقاش محدود داخل الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح أول مصدر للمعايير القانونية التي تعتزم توفير إطار عالمي للاقتصاد الرقمي الذي يهيمن عليه الاحتكار الثنائي الصيني الأميركي لتحقيق السيادة الرقمية. وميز الاتحاد الأوروبي نفسه في الفضاء الرقمي الدولي، بكونه “قوة تنظيمية عظمى”، تعزز القدرة على إنتاج ونشر نظام واسع النطاق للمعايير في المجال الرقمي.

وبدءاً من عام 2020، بدأت مرحلة أوروبية تتميز بغزارة الإصدارات المؤسسية والقانونية، مثل: “البوصلة الرقمية” (2021)، قانون الأسواق الرقمية وقانون الخدمات الرقمية (2023)، خطة العمل للتعليم الرقمي (2021-2027)، وقانون الأمن السيبراني. وتجدر الإشارة إلى أن بعض هذه النصوص ليست ملزمة. كما تم إطلاق مبادرة (DNS4EU) في يناير 2022، لتزويد مواطني الاتحاد الأوروبي وحكوماته ومؤسساته بنظام (DNS) آمن ومتوافق مع الخصوصية من خلال التصفية الإلزامية لعناوين الويب التي تشير إلى محتوى غير قانوني كالدعوة إلى الإرهاب، والمواد الإباحية عن الأطفال، ومواقع القرصنة، وغيرها.

ختاماً، فإن اتجاهات تجزئة الإنترنت العالمية باتت اليوم تتجاوز ما هو أبعد من جدار الحماية العظيم في الصين وبروتوكولات الرقابة الصارمة في روسيا، إلى سعي القوى الكبرى في ظل المنافسات الجيوسياسية إلى بناء شبكة “سيادية” من الإنترنت خاصة بدولهم وبحدودهم الجغرافية، وكل هذا يؤدي إلى تقسيم وتجزئة شبكة الإنترنت إلى مجموعة من الشبكات.

*لينك المقال في العرب*