تحديات الصعود:

أين تكمن المُعضلة في سعي اليابان للتحول إلى قوة كبرى؟

06 March 2024


تعهد رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، في الأول من يناير 2024، بأن تكون بلاده في صدارة الدول التي تنخرط في إدارة التفاعلات والقضايا الدولية، مُؤكداً، في كلمته بمناسبة العام الجديد، أنه سيعمل على قيام اليابان بدور قيادي فريد، عبر دبلوماسية القمة، لتسوية التحديات التي تواجهها، ولاسيما إزاء الحرب الروسية في أوكرانيا، والصراع بين إسرائيل وحركة حماس. 

ومن جهة أخرى، أظهرت بيانات رسمية، نُشرت في 15 فبراير 2024، تراجع الاقتصاد الياباني على المستوى العالمي إلى المرتبة الرابعة، لصالح ألمانيا التي جاءت في المرتبة الثالثة، مع توقع نجاح الهند في تجاوز كلتا الدولتين في وقت قريب خلال العقد الحالي. 

وما بين صعود جيواستراتيجي على المسرح العالمي، وتراجع اقتصادي ملحوظ، يظل التساؤل مطروحاً بشأن مكامن التحدي والصعوبات التي تواجه مساعي طوكيو للتحول إلى قوة كبرى مُؤثرة في عالم اليوم الذي يتجه نحو التعددية القطبية.

مؤشرات مُتعددة:

شهدت السنوات القليلة الماضية، ولاسيما منذ تولي فوميو كيشيدا مهام منصبه كرئيس لوزراء اليابان في أكتوبر 2021، العديد من الملامح والمظاهر الدّالة على تنامي مكانة طوكيو على الساحة الدولية في مُختلف المجالات، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1. تعديل العقيدة العسكرية اليابانية: أصدرت اليابان في ديسمبر 2022، استراتيجية جديدة للأمن القومي، تضمنت إجراء أكبر مراجعة على سياستها الدفاعية وعقيدتها العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، بما يسمح لها بزيادة دورها في الدفاع عن النفس بالتعاون مع الولايات المتحدة، بجانب زيادة قدرتها على نشر قوتها العسكرية خارج حدودها. وقد حددت الاستراتيجية ثلاثة تحديات أمنية رئيسية، يجب على اليابان تطوير قدراتها الدفاعية لمواجهتها، وهي: التحديث العسكري الصيني، والتهديدات النووية والصاروخية من جانب كوريا الشمالية، فضلاً عن تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا. 

وفي مواجهة هذه التحديات، قررت اليابان مُضاعفة الميزانية السنوية للدفاع إلى أكثر من 80 مليار دولار في غضون 5 سنوات، ما يجعلها ثالث أكبر دولة في العالم من حيث قيمة الميزانية العسكرية، بعد الولايات المتحدة والصين.

2. تزايد التفاعلات مع الجوار الآسيوي: شهدت الفترة الماضية تزايداً لافتاً في حضور ونفوذ اليابان داخل القارة الآسيوية. وهو ما تجلى في تنامي زيارات المسؤولين اليابانيين، بجانب عقد اتفاقيات للتعاون الثنائي مع العديد من دول القارة، وذلك بهدف تنسيق المواقف والرؤى بشأن التهديدات الكورية الشمالية، فضلاً عن مُحاولة طرح نموذج بديل للنموذج الصيني بين دول القارة. إذ نجحت اليابان في توثيق علاقاتها الثنائية مع كل من الفلبين والهند، ونجحت في تطبيع علاقاتها مع كوريا الجنوبية، وتجاوز الخلافات التاريخية بين البلدين. كما حرصت على تعزيز وجودها وعلاقاتها الثنائية مع دول جزر المحيط الهادئ. 

وعلى المستوى الجماعي، عملت اليابان على تعزيز التعاون مع رابطة دول جنوب شرق آسيا "الآسيان"، ولاسيما في مجال الأمن البحري، وذلك على خلفية التوترات المتزايدة في بحر الصين الجنوبي، والذي تُطالب الصين بالسيادة الكاملة عليه.

3. توظيف دبلوماسية المُساعدات: تقوم اليابان منذ أكثر من نصف قرن بتقديم المساعدات الإنمائية الرسمية للدول النامية، وذلك بهدف تعميق علاقات الشراكة مع هذه الدول، وكذلك للمساهمة في تحقيق الاستقرار الدولي، وذلك من خلال الوكالة اليابانية للتعاون الدولي "جايكا". 

فعلى سبيل المثال، أعلنت اليابان في عام 2022، عن تخصيص 30 مليار دولار لمشروعات تنموية في القارة الإفريقية خلال السنوات الثلاث المُقبلة، بجانب تقديم 130 مليون دولار لمشروعات الأمن الغذائي، ومساعدات غذائية قدرها 300 مليون دولار بالتعاون مع البنك الإفريقي للتنمية. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت طوكيو عزمها على تقديم قروض بقيمة خمسة مليارات دولار بالشراكة مع البنك الإفريقي للتنمية لتمويل التنمية المستدامة والإصلاح المالي في القارة، كما خصصت أربعة مليارات دولار لمشروعات النمو والاقتصاد الأخضر والقضاء على التلوث الكربوني، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء. كما أعلنت في 27 فبراير 2024، عن تقديم مساعدات طارئة بقيمة 32 مليون دولار، بهدف تحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة في ظل الحرب الإسرائيلية ضد القطاع.

4. تفعيل العلاقات مع الجنوب العالمي: أكدت اليابان في الكتاب الأزرق للدبلوماسية اليابانية الصادر في إبريل 2023، أهمية التعاون مع دول الجنوب العالمي، بهدف الحفاظ على النظام الدولي وتسوية القضايا العالمية. 

وبناءً على ما سبق، شهد عام 2023، تنامياً ملحوظاً في وتيرة زيارات المسؤولين اليابانيين إلى دول جنوب الكرة الأرضية، والتي شملت زيارات إلى كل من المكسيك، والبرازيل، والإكوادور، والأرجنتين، وجزر سليمان، وجزر كوك، والهند، ومصر، وغانا، وكينيا، وموزمبيق، وبيرو، وتشيلي، وباراغواي، وباربادوس، وترينداد وتوباغو. وقد سعت طوكيو من هذه الزيارات إلى طرح نفسها كبديل سياسي واقتصادي يتسم بالاستمرارية والثقة لدى دول الجنوب العالمي، والتي تشهد محاولات مكثفة من جانب روسيا والصين لتفعيل العلاقات معها.

5. زيادة نفوذ وتأثير اليابان في إفريقيا: عملت اليابان خلال الفترة الماضية على تعزيز وتفعيل دورها في القارة السمراء، وهو ما يتناغم مع الاستراتيجية الجديدة التي تتبناها واشنطن، حليفتها الرئيسية، تجاه القارة، بجانب محاولة طوكيو مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في القارة. وهو ما يفسر الجولة التي قام بها رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، في إبريل 2023، إلى إفريقيا، وشملت أربع دول، وهي: مصر، وغانا، وكينيا، وموزمبيق.

6. تزايد الانخراط في تسوية الأزمات الدولية: شهدت الفترة الأخيرة تزايداً ملحوظاً في تفاعل اليابان مع القضايا والأزمات الدولية. فعلى سبيل المثال، تُعد اليابان إحدى القوى الدولية الرئيسية التي تدعم أوكرانيا في الحرب ضد روسيا. إذ انضمت إلى الدول الغربية في فرض عقوبات اقتصادية على موسكو. 

كما أظهرت التزامها بتقديم المساعدة المالية لكييف، والمساهمة في إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب، خاصة وأن تقديم المساعدة العسكرية مُقيّد بموجب دستورها الذي ينبذ الحرب. وكذلك، قامت في أغسطس 2023، بطرح مبادرة لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة.

7. امتلاك شبكة علاقات خارجية قويّة: طبقاً لمؤشر الدبلوماسية العالمية لعام 2024، الصادر عن معهد لوي للسياسة الدولية، في 29 فبراير 2024، جاءت اليابان في المرتبة الرابعة عالمياً، ضمن الدول التي تمتلك أكبر شبكة علاقات خارجية في عام 2023، وذلك بإجمالي 251 منصباً في الخارج، وذلك بعد كل من الصين (274)، والولايات المتحدة (271)، وتركيا (252) منصباً على الترتيب. ومن الجدير بالذكر، أن المؤشر المذكور يُصنف دول العالم طبقاً لعدد العلاقات التي تقيمها مع بعضها بعضاً، وذلك من حيث إجمالي المناصب الدبلوماسية في الخارج، والتي تشمل السفارات والقنصليات والبعثات الدائمة ووظائف أخرى.

8. نجاح اليابان في الهبوط على سطح القمر: أصبحت اليابان خامس دولة تهبط على سطح القمر، بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند. ففي إطار سعي اليابان لتحقيق اختراق في مجال غزو الفضاء، نجح المسبار "سليم" (SLIM) في الهبوط على سطح القمر، في 19 يناير 2024، وذلك بهدف إجراء أبحاث حول نشأة القمر والأرض، وكذا الموارد المائية للقمر، وهي مسألة مهمة لبناء قواعد مأهولة على سطحه مستقبلاً. وترجع أهمية الخطوة اليابانية، بالنظر إلى اعتزام الولايات المتحدة والصين تأسيس قواعد مأهولة على سطح القمر على المدى البعيد. 

تراجع اقتصادي:

في مقابل التزايد الملحوظ في مكانة اليابان على الصعيد الجيوستراتيجي العالمي، فقد شهدت طوكيو في الفترة الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في أدائها الاقتصادي، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1. تراجع مكانة الاقتصاد الياباني عالمياً: أظهرت بيانات نُشرت في 21 فبراير 2024، حدوث تراجع في الاقتصاد الياباني خلال الربع الأخير من عام 2023، على خلفية تراجع الطلب المحلي، ما جعله يتراجع إلى المرتبة الرابعة كأكبر اقتصاد في العالم لصالح ألمانيا. إذ بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لليابان 4.2 تريليون دولار، على الرغم من نموه بنسبة 1.9% خلال عام 2023، مقارنة بـ 4.5 تريليون دولار لألمانيا. وهو ما يرجع إلى الانخفاض الحاد في قيمة الين الياباني مقابل الدولار الأمريكي، وليس نتيجة لقوة الاقتصاد الألماني، الذي شهد انكماشاً بنسبة 0.3% في عام 2023.

2. انخفاض عدد السكان: تواجه اليابان أيضاً إشكالية انخفاض عدد السكان، إذ تعاني طوكيو أكثر من برلين من حيث نقص العمالة مع نقص عدد السكان، وبقاء معدلات المواليد منخفضة، وهو ما دفع الاقتصاديين إلى توقع اتساع الفجوة بين الاقتصادين الياباني والألماني.

3. التأثير في المكانة الدولية لطوكيو: رغم أن تراجع ترتيب الاقتصاد الياباني عالمياً كان راجعاً إلى انخفاض قيمة الين الياباني مقارنة بالدولار الأمريكي، إلى حد كبير، فإن هذا الأمر ينطوي على تأثير كبير في مكانة اليابان ورؤيتها لدورها على المستوى الدولي، علاوة على ما سينجم عنه من ضغوط على رئيس الوزراء فوميو كيشيدا، الذي تراجعت شعبيته بدرجة كبيرة خلال الآونة الأخيرة. ومما يفاقم من تأثير تلك المسألة في مكانة اليابان الدولية، التوقعات التي تشير إلى تفوق الهند على اليابان في عام 2026، وألمانيا في عام 2027، من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لصندوق النقد الدولي.

مُعضلة اليابان:

إن سعي أي دولة إلى التحول إلى قوة كبرى مؤثرة في النظام الدولي الحالي، يتطلب ضرورة اتجاه هذه الدولة إلى تعظيم قدرات وإمكانات القوة الشاملة لديها من جهة، ومن جهة أخرى إزالة التحديات والقيود التي تواجهها في سياق سعيها لتحقيق هذا الهدف، سواءً أكانت هذه التحديات والقيود نابعة من البيئة الداخلية أم كانت نابعة من البيئة الخارجية.

وبالنظر إلى الحالة اليابانية، نجد أن اليابان تعاني من وجود العديد من التحديات والعقبات الكبرى التي تواجهها في ظل مساعيها الدؤوبة نحو الصعود العالمي. ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1. تحدي الصعود الصيني: يُعد تنامي دور ومكانة الصين في النظام الدولي الراهن أحد التحديات الكبرى التي تشكل قيداً على طموحات اليابان للصعود العالمي. إذ ترى طوكيو أن "الصين تمثل تحدياً استراتيجياً غير مسبوق لأمنها القومي ومصدر قلق لأمنها الإقليمي". وإدراكاً من اليابان لما تمثله الصين من تحدٍّ كبير أمام صعودها، عملت طوكيو على منافسة بكين في مناطق نفوذها في العديد من مناطق العالم، سواء في آسيا أم إفريقيا أم أمريكا اللاتينية.

2. استمرار التهديدات الأمنية في آسيا: هناك العديد من العوامل الأمنية التي تمثل قيداً على طموحات اليابان للصعود العالمي، بما تفرضه من قيود على تحركات اليابان في القارة الآسيوية، لكونها تمثل تهديداً لأمنها القومي، ومن بينها التوترات المتزايدة في منطقة بحر الصين الجنوبي، واستمرار أزمة شبه الجزيرة الكورية دون تسوية، علاوة على أزمة تايوان، وتنامي التعاون الأمني والعسكري بين الصين وروسيا، وغيرها من التحديات المرتبطة بالأمن البحري في المنطقة. 

3. التحول إلى قوة نووية: يربط البعض نجاح اليابان في مواجهة التحدي الذي تمثله لها كل من الصين وكوريا الشمالية وروسيا، وما يمثله ذلك من معضلة كبرى لطموحها بالتحول إلى قوة كبرى، بامتلاك القوة النووية. إذ تمثل القدرات النووية للصين تهديداً متزايداً، كما تمتلك كوريا الشمالية ترسانة متزايدة من الأسلحة النووية، وتبدي نبرة عالية من العداء والتحدي تجاه جيرانها، فضلاً عن أن "المظلة النووية" الأمريكية التي أتاحت لليابان سنوات عديدة من السلام والازدهار تحت الحماية العسكرية لواشنطن تتآكل بشكل متزايد، وربما لا يمكن إصلاحها.

4. تحديات داخلية عميقة: تواجه اليابان العديد من التحديات الداخلية العميقة التي ربما تحد من طموحها للتحول إلى قوة كبرى في عالم اليوم، ومن بينها انخفاض عدد السكان، وتزايد فجوة التفاوت بين المواطنين اليابانيين، وعزوف الناخبين عن المشاركة السياسية. 

بالإضافة إلى وجود أكبر عدد من السكان المعمرين في العالم، والتراجع السريع في عدد المواليد، والدين العام الهائل، والكوارث الطبيعية المدمرة بشكل متزايد، والتي يغذيها تغير المناخ، بجانب انخفاض الأجور، وتفاقم عدم المساواة في الدخل في المجتمع. وجميعها تمثل تحديات عميقة الجذور. وهو الأمر الذي يتطلب "ضرورة النظر إلى هذه التحديات باعتبارها دعوة للاستيقاظ لتسريع الإصلاحات الاقتصادية المهملة"، حسبما ترى الصحافة اليابانية.

وفي التقدير، يمكن القول إن اليابان تمتلك العديد من إمكانات ومقومات القوة الشاملة التي تضعها في مصاف القوى الكبرى المُؤثرة في النظام الدولي الراهن، ولاسيما في ضوء الرؤى والأفكار الدبلوماسية التي طرحها رئيس وزرائها الحالي، فوميو كيشيدا، والتي ترتب على تنفيذها أن أصبحت اليابان إحدى القوى الدولية ذات التأثير والمكانة المهمة على المستوييْن الإقليمي والعالمي. ومع ذلك، فإن استمرار تأثير وصعود اليابان على المسرح العالمي يرتبط بمدى قدرتها على التعامل مع القيود والتحديات الخارجية والداخلية العديدة، التي قد تعوقها عن تنفيذ طموحاتها في تبوؤ المكانة والدور المناسب لها، وعلى رأس هذه التحديات الصعود الصيني، وعدم الاستقرار الأمني في آسيا، فضلاً عن تراجع الاقتصاد الياباني، والذي يُعد إصلاحه أحد العوامل الرئيسية التي ستحدد المكانة المستقبلية لليابان في عالم اليوم.