"دبلوماسية الجنوح":

أنماط ودوافع "الرؤساء المشاكسين" لواشنطن في العالم

03 October 2016


يُعيد الرئيس الفلبيني رودريجو دوتيرتي، بطريقة تعاطيه مع الولايات المتحدة، إنتاج فكرة "الرئيس المشاكس" كإحدى الظواهر التي بات يشهدها النظام الدولي خلال السنوات الأخيرة على خلفية التحولات التي يمر بها هذا النظام، فالولايات المتحدة التي خرجت من الحرب الباردة منتصرة لتكرس لعصر القطبية الأحادية في النظام الدولي، لم تعد تلك الدولة المتفردة والقادرة على تشكيل ملامح النظام الدولي وتفاعلاته بصورة منفردة، لا سيما مع بزوغ قوى دولية منافسة تسعى إلى المشاركة في قيادة النظام. هذا التحول في طبيعة النظام الدولي مَثَّلَ سياقًا مُحفِّزًا لبعض قادة الدول، وخاصة الدول ذات التأثير المحدود في قيادة النظام الدولي، للدخول في أشكال من المشاغبة وخلق المشكلات مع الولايات المتحدة، على اعتبار أن هذه المشاكسة تحقق لهم عددًا من المكاسب، لعل أهمها التأسيس لصورة ذهنية لهم كقادة معارضين للقوة الأكبر عالميًّا بالرغم مما تعانيه دولهم من أزمات، وهو الأمر الذي قد يكون بمثابة مدخل للحصول على "الاعتراف بالتواجد"، إذ إن العلاقات بين الدول تعبير عن الوضع البشري الذي يصفه الفيلسوف الألماني هيجل بأنه "صراع يسعى فيه كل فرد إلى انتزاع الاعتراف من الآخر".

أنماط المشاكسة:

استقراء واقع النظام الدولي في العقود الأخيرة -حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي- يشير إلى دلالتين مركزيتين، إحداهما أن الولايات المتحدة باتت تعاني من "معضلة قوة"، أما الدلالة الثانية فهي أن بعض قادة الدول الأقل تأثيرًا في هيراركية النظام الدولي يستندون في التأسيس لجزء لا بأس به من شرعيتهم على إثارة المشكلات مع واشنطن، وهو الأمر الذي تجلّت ملامحه في نمطين رئيسيين، هما:

1- "المشاكسة الخطابية": حيث يتم استدعاء كلمات وتعبيرات مشينة في خطاب السلطة يكون الهدف منها إهانة الولايات المتحدة، والتقليل من شأنها. ففي هذا الصدد، يتذكر الكثيرون النموذج الذي كان يقدمه الرئيس الفنزويلي الراحل "هوجو تشافيز" والتعبيرات التي كان يستخدمها في خطابه ضد الولايات المتحدة، فقد وصف الرئيس الأمريكي السابق "جورج دبليو بوش" في مناسبات عديدة بـ"الطاغية" و"الكذاب" و"الشيطان"، حتى إنه وصل إلى مرحلة أكثر تطرفًا في الإهانة حينما وصف بوش بـ"الحمار"، فضلا عن اتهامه بتدبير الانقلاب الفاشل الذي حدث ضده في عام 2002.

يطرح الرئيس الفلبيني رودريجو دوتيرتي هو الآخر نموذجًا للمشاكسة الخطابية، فبعد أن انتقدت الولايات المتحدة حملة الرئيس الفلبيني للتخلص من تجار المخدرات داخل الفلبين، تبنى دوتيرتي خطابًا هجوميًّا إزاء واشنطن، حتى إنه قام بسب الرئيس الأمريكي أوباما، ووصفه بـ"ابن العاهرة"، وصرح خلال شهر سبتمبر الماضي بأن "حملة مكافحة المخدرات ستتواصل، سيموت الكثيرون، وسُيقتل الكثيرون إلى أن تنظف الشوارع منهم، ستتواصل الحملة حتى يُقتل آخر مروج للمخدرات"، وأضاف: "لا ينبغي لأوباما أن يسيء الأدب معه".

2- تحالف الخصوم: والمرتكن بشكل أساسي إلى التحالف مع قوى مناوئة لواشنطن، والابتعاد عن شبكة التحالفات الأمريكية، حيث وُجد لهذا النمط صدى لدى "هوجو تشافيز" الذي تبنى سياسة خارجية تقوم على تخفيض مستوى العلاقات مع واشنطن وعدد من الدول الصديقة لها وفي مقدمتها إسرائيل، وذلك في الوقت الذي كان يسعى فيه إلى تعزيز تحالفات فنزويلا مع دول أخرى معروف عنها العداء أو على أقل تقدير التنافس مع واشنطن، وذلك على غرار الصين وروسيا وإيران، ناهيك عن مشاريعه لتوظيف النفط في خدمة سياسة خارجية أكثر تحررية لا تخدم بالضرورة المصالح الأمريكية.

وبالرغم من أن الرئيس الفلبيني دوتيرتي وصل إلى سدة الرئاسة في شهر يونيو الماضي، فإن المؤشرات الأولية تشير إلى توجهه نحو إحداث تغييرات راديكالية في السياسة الخارجية للفلبين، فقد صرح عقب توليه السلطة "بأنه سوف يطور مسارًا جديدًا للسياسة الفلبينية بالاعتماد على الذات، وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة". واتساقًا مع ذلك المنحى، فقد دعا في شهر سبتمبر الماضي الولايات المتحدة إلى سحب قواتها الخاصة من جزيرة مينداناو الجنوبية في الفلبين، كما ذكر أن المناورات العسكرية مع الولايات المتحدة في شهر أكتوبر 2016 "سوف تكون الأخيرة بين الدولتين في فترة ولايته". ولم يكتف دوتيرتي بذلك، ولكنه كشف عن نيته لتحسين العلاقات مع الصين، ومحاولة تجاوز الخلافات بين الدولتين حول ملف بحر الصين الجنوبي.

ثنائية الداخل والخارج:

تنبني العلاقات بين الدول على فكرة المصلحة، حيث يسعى رؤساء الدول إلى صياغة السياسات -وفقًا لمدركاتهم الذاتية- الكفيلة بتحقيق مصالحهم، وبقدر ما هو متاح للدولة من عناصر القوة بقدر ما تتباين طبيعة هذه السياسات، ولهذا قد تلجأ الدول ذات التأثير الأقل في النظام الدولي إلى تبني "المشاكسة" وإثارة المشكلات مع الولايات المتحدة كمسار يمكن عبره تحقيق عدد من المكاسب، ويساعدها على ذلك معطيات السياقين الداخلي والدولي، إذ إن القادة المشاكسين عادةً ما يستندون إلى مصادر للدعم الداخلي، سواء كانت في صورة حاضنة مجتمعية مرتهنة ببرامج وسياسات داخلية تخدم فئات مجتمعية عديدة، أو عبر أدوات للسيطرة السلطوية، أو حتى عبر الرمزية التاريخية لشخص القائد. 

فهوجو تشافيز كان يستند في سياسته تجاه الولايات المتحدة إلى دعم مجتمعي واسع النطاق نتيجة برامجه المجتمعية والاقتصادية التي خدمت الكثير من الفئات المحرومة، بالإضافة إلى توظيفه السياسي للنفط على اعتبار أن فنزويلا من أهم الدول المنتجة للنفط عالميًّا. وقد يقترب الرئيس الفلبيني دوتيرتي من هذا النموذج، لا سيما مع ما تشير إليه استطلاعات الرأي ومن ضمنها استطلاع للرأي أجرته مؤسسة نبض آسيا pulse Asia research في شهر يوليو الماضي، وكشف أن 91% ممن تم استطلاع آرائهم يؤيدون الرئيس دوتيرتي، ويثقون في سياسته. 

وبعيدًا عن نموذجي تشافيز ودوتيرتي، يبدو كل من الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون، والرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي، نموذجين أكثر تعقيدًا؛ فالأول يرتكن بصورة رئيسية إلى سيطرته السلطوية على كافة مفاصل الدولة، ناهيك عن اعتماده على السلاح النووي، والترويج الدائم للتهديد الخارجي كآليات يمكن من خلالها مشاكسة واشنطن. أما روبرت موجابي، فيستند بشكل أو بآخر في معاداته للغرب والولايات المتحدة -على وجه الخصوص- إلى مزيج من السيطرة السلطوية التي أتاحت له الاستمرار في السلطة لسنوات طويلة، فضلا عن الرمزية التاريخية لشخصه، كأحد القادة التاريخيين لحركة التحرر الوطني.

ولا تقتصر معادلة المشاكسة مع واشنطن على معطيات الداخل، ولكنها ترتبط إلى حد بعيد بمفردات السياق الدولي، ومقومات النفوذ الأمريكي في السنوات الأخيرة، إذ باتت واشنطن تعاني من "معضلة قوة" -إن جاز التعبير- تجلت ملامحها في الهوة الشاسعة بين القدرات العسكرية المتاحة لدولة هي الأكبر من حيث الإنفاق العسكري، وامتلاك أحدث التقنيات العسكرية، وبين التورط في صراعات خارجية وعدم حسمها، وهو ما أفضى إلى تقويض صورة الولايات المتحدة كقوة عظمى متفردة تستطيع فرض إرادتها.

هذا الأمر دفع العديدين داخل الولايات المتحدة إلى استدعاء توجهات أكثر انعزالية في السياسة الخارجية، وتقليل الانخراط في القضايا الدولية. كما أن كاتبًا من طراز "ريتشارد هاس" تحدث عن اتجاه النظام الدولي إلى "عصر اللا قطبية"، حيث لا يخضع هذا النظام لهيمنة دولة واحدة أو دولتين أو حتى مجموعة من الدول، ولكنه يصبح ساحة متاحة لعشرات الفاعلين الباحثين عن القوة والنفوذ. وتأسيسًا على هذه المتغيرات، أمسى بعض قادة الدول ينظرون إلى المعاناة الأمريكية كورقة رابحة في سياستهم الخارجية، ليُصبح الدخول في مناوشات سياسية مع واشنطن إطارًا مؤسِّسًا لشرعية داخلية وخارجية. 

دوافع المشاكسة:

يمكن أن تكون "المشاكسة" آلية لإدارة مصالح الدولة، ونوعًا من أنواع التعويض عن أدوات أكثر عدائية في العلاقات بين الدول، وذلك حينما يدرك قادة الدول أن هذه الأدوات غير مواتية، وسيترتب عليها تكاليف مرتفعة قد لا يمكن تحملها. ومن هذا المنطلق، يصبح اللجوء إلى "مشاكسة" الولايات المتحدة مرتهنًا بعدد من الدوافع من الجائز اختزالها فيما يلي:

1- الضغينة التاريخية: والتي تشكل مدخلا -ولو جزئيًّا- لفهم ديناميات التفاعل بين الدول، حيث إن شعور بعض القادة بالإهانة التاريخية من جانب الولايات المتحدة يدفعهم في الكثير من الأحيان إلى خلق المشكلات والاستفزاز المتعمد لواشنطن كشكل من أشكال الانتقام. فظهور نموذج هوجو تشافيز -على سبيل المثال- كان وثيق الصلة برغبة في الخروج من "الإذلال الأمريكي" -بحسب رؤيته- لدول الجنوب. وتتجلى أيضًا فكرة الضغينة التاريخية في حالة "كيم كونج أون" رئيس كوريا الشمالية، الذي عادة ما يستدعي في خطاباته تورط الولايات المتحدة في الحرب الكورية خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي، ومن ثم فهو يرى أن "الولايات المتحدة يجب أن تدفع ثمن سفك دماء الكوريين".

2- عقلية التآمر: إذ إن الكثير من الرؤساء المشاكسين لديهم الشعور الدائم بوجود مؤامرات خارجية تُحاك ضد دولهم، ونظرًا إلى أن الولايات المتحدة هي القوة الأكبر دوليًّا، فإنها تكون المتهم الأساسي في مثل هذه المؤامرات، وبالتالي تصبح الهدف الأول للسياسة المشاكسة لهؤلاء الرؤساء. فالعامل المشترك في خطابات كل من "تشافيز"، و"روبرت موجابي"، و"كونج أون"، التأكيد على وجود مؤامرة خارجية من "الإمبريالية الأمريكية" تستهدف إسقاطهم. ويمكن أن نجد أيضًا لفكرة "التآمر الأمريكي" إرهاصات لدى الرئيس الفلبيني الجديد "دوتيرتي"، والذي اتهم مؤخرًا، في سبتمبر الماضي، "الولايات المتحدة بتقويض الاقتصاد الفلبيني، والتسبب في انخفاض قيمة عملة بلاده (البيزو) أمام (الدولار) الأمريكي". 

3- الشرعية الداخلية والإلهاء: فالأدبيات تفترض أن المستويات الأدنى من الأعمال العدائية -مثل التهديد باستخدام القوة وعروض القوة- قد تكون كافية لخلق تصور بوجود تهديد خارجي أقل تكلفة وخطرًا، ويمكن أن يكون هذا الأمر أكثر فعالية في زيادة التماسك الداخلي، وحشد الدعم الداخلي، والتكفل بصرف انتباه الأفراد عن الشأن المحلي إلى عالم السياسة الخارجية. ولا يمكن إغفال أن هذه الفرضية -المتسقة مع نظرية الإلهاء والتضليل Diversionary Theory- تصلح لتفسير بعض نماذج القيادات المشاكسة وخاصة في حالتي كوريا الشمالية وزيمبابوي، إذ إن إثارة المشكلات مع الولايات المتحدة قد يسمح للسلطة بمواجهة الأزمات الداخلية، واستدعاء نموذج التماسك الداخلي، والتوحد خلف القيادة عبر عملية إزاحة للخارج، وتصوير الدولة في وضع صراع مع الدولة الأقوى في النظام الدولي.

4- انتزاع الاعتراف: ويصف هذا الدافع برتران بديع في كتابه "زمن المذلولين: باثولوجيا العلاقات الدولية" في إطار حديثه عن "دبلوماسية الجنوح"، حيث يفترض أن أصحاب هذه الدبلوماسية "يسعون إلى الاستعراض الذي يتلون بطعم الثأر وإثبات الذات، وأول مكسب يهدفون إلى تحقيقه يكمن في التظاهر علنًا خارج النظام القائم، من أجل إظهار تمايزهم وشخصيتهم المستقلة. فمن يتجاوز النظام يثبت حضوره، ويلفت الانتباه، ويُلزم الآخرين تحديد موقفهم تجاهه. إنه يأخذ المنحى الاستباقي في وسط المسرح، ويحظى بذلك بمكانة دولية دونما عناء كبير". وبناء على تلك الفرضية، تصبح المشاكسة تعبيرًا عن الشعور بالنرجسية لدى القادة، والذي يدفعهم إلى عدم الرضا بالمكانة الراهنة، والمطالبة بإعادة هيكلة الساحة العالمية. وهكذا يتم توظيف المشاكسة مع الولايات المتحدة كمدخل للحصول على شرعية خارجية، واعتراف بالتواجد عبر الخروج من أسر التهميش.

خلاصة القول، إن ظاهرة "المشاكسة" و"إنتاج المشكلات" مع الولايات المتحدة ستظل من الظواهر القابلة للتكرار في النظام الدولي خلال السنوات القادمة، وخاصةً مع الصورة المثالية التي تم الترويج لها لبعض القادة مثل "هوجو تشافيز"، كقيادات تركت تأثيرًا في طبيعة النظام الدولي، وسمحت للدول الأضعف بالتعبير عن مطامحها. أضف إلى ذلك، الشكوك المثارة حول مستقبل القوة الأمريكية، ومدى قدرة واشنطن على دعم حلفائها في ظل بزوغ قوى منافسة مثل الصين وروسيا، وتنامي النزعة الانعزالية الأمريكية.

ولعل هذا الأمر يفسر لماذا يتبنى الرئيس الفلبيني الجديد هذه المواقف من واشنطن، إذ يعتقد أن الولايات المتحدة تخلت عن الفلبين في نزاعها ضد الصين حول جزيرة سكاربورو شول الواقعة في بحر الصين الجنوبي. وهذه الحالة لا تقتصر على الفلبين فقط، ولكنها تمتد إلى حلفاء آخرين لواشنطن باتوا يعتقدون أن الحفاظ على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة -دون الانفتاح على القوى الأخرى الصاعدة دوليًّا- لم يعد له ما يبرره.