الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين:

لماذا يختلف انقلاب الغابون عن نظرائه في الساحل الإفريقي؟

04 September 2023


شهدت الغابون فجر يوم 30 أغسطس 2023 تجربتها الأولى مع الانقلابات العسكرية منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960. فالدولة الغنية بالنفط الواقعة في الجنوب الشرقي لخليج غينيا تعاقب على حكمها ثلاثة رؤساء فقط هم: ليون مبا، وعمر بونغو وابنه علي الذي أُطيح به في الانقلاب الأخير. وبينما غلب طابع الحكم الفردي على عهود الرؤساء الثلاثة، فإن هذا الحكم ارتكز بالأساس إلى ركيزة سياسية تمثلت في حزب وحيد ثم حزب مهيمن في إطار تعددية مقيدة، الأمر الذي يجعل من سابقة التدخل المباشر للمؤسسة العسكرية الغابونية نقطة تحول جديرة بالقراءة والتحليل واستشراف المآلات المستقبلية.

وفي محاولة متعجلة للحكم على تطورات الغابون، أسرفت الكثير من التحليلات التي ظهرت في اليوم الأول للانقلاب في الربط بين ما شهدته البلاد، وما تعرضت له دول الساحل الإفريقي في الأعوام الثلاثة الأخيرة باعتبارها تشكل مجتمعة أعراضاً لموجة جديدة لعودة الانقلابات العسكرية في إفريقيا. وقد وقع هذا التيار في خطأين متزامنين؛ أولهما التغافل عن حقيقة أن هذه الظاهرة تُعد نمطاً متكرراً في القارة الإفريقية دون انقطاع منذ الانقلاب الأول الذي أطاح بالرئيس الغاني الأسبق، كوامي نكروما، عام 1966، وإن تفاوتت معدلاتها من مرحلة لأخرى. أما الخطأ الثاني فيتعلق بتجاوز هذه التحليلات خصوصية الحالات الإفريقية التي مرت أخيراً بتجربة الانقلابات العسكرية ليتم تصنيفها جميعاً في فئة تحليلية واحدة دونما اعتبار لمسببات الانقلاب، أو تداعياته، أو آلياته في ممارسة الحكم.

فبفعل التقارب الزمني بين تدخل جيش النيجر للإطاحة بالرئيس محمد بازوم في نهاية يوليو 2023، وتدخل جيش الغابون للإطاحة بالرئيس علي بونغو بعد نحو شهر واحد؛ جرى الربط بصورة آلية بين الواقعتين دونما قراءة معمقة لخصوصية نمط التدخل العسكري في دول الساحل الإفريقي الذي كانت المشكلات الأمنية والصراعات الدائرة على الأرض مُحركاً أساسياً له. إذ شكلت هذه السمة قاسماً مشتركاً بين انقلابي مالي عامي 2020 و2021، وبوركينا فاسو في يناير ثم سبتمبر 2022، والنيجر عام 2023، وكذلك في بروز سلطة انتقالية في تشاد في إبريل 2021 في أعقاب مقتل الرئيس إدريس ديبي. وعلى العكس من حالات الساحل الإفريقي، يقدم التدخل العسكري الأخير في الغابون للإطاحة بالرئيس علي بونغو حالة دالة على الانقلابات المدفوعة بمحركات سياسية في المقام الأول.

حالة لانقلابات "إنهاء اللعبة":

جاء الانقلاب في الغابون كحلقة أخيرة للتوترات السياسية المتصاعدة على إثر إجراء الانتخابات الرئاسية التي شهدت استقطاباً حاداً بين التحالف الحزبي الداعم لترشح الرئيس علي بونغو، وبين "تحالف البديل 2023" المعارض للرئيس والداعم للمرشح أبرت أوندو أوسا، بعدما رفضت المعارضة نتائج الانتخابات التي أعلنتها الهيئة الوطنية للانتخابات بفوز الرئيس بونغو بولاية رئاسية جديدة حاصلاً على 293 ألف صوت شكلت 64% من أصوات الناخبين. وأثارت المعارضة مُبكراً العديد من نقاط الاعتراض على المسار الإجرائي لانتخابات السادس والعشرين من أغسطس، بفعل ما اعتبرته "تزويراً ممنهجاً" من جانب أنصار التحالف الرئاسي.

وأنبأت هذه التوترات المُبكرة بأن إعلان فوز الرئيس علي بونغو بولاية ثالثة سيعيد إدخال البلاد في أزمة سياسية معقدة مشابهة لتلك التي وقعت فور إعلان فوز بونغو على جان بينغ في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، والتي أطلقت موجة من أعمال العنف اجتاحت العاصمة ليبرفيل والمدن الغابونية الرئيسية، وأسفرت عن إحراق مقر البرلمان، ومصرع خمسة أفراد، وقطع خدمات الاتصالات والإنترنت لنحو أسبوع كامل. كما شكلت هذه الانتخابات سبباً مستمراً لتكرار مظاهر الاحتجاج من جانب المعارضة في السنوات التالية، حيث تصاعدت بصورة لافتة بعد مرض الرئيس بونغو عام 2018.

وتحسباً لتكرار أزمة انتخابات 2016، اتخذت السلطات في الغابون خطوات استباقية قبل إعلان اللجنة الوطنية للانتخابات النتائج الرسمية في الساعات الأولى من يوم 30 أغسطس 2023، والتي تضمنت قطع خدمات الإنترنت وفرض حالة من الاستنفار الأمني. ومع توقع رد فعل عنيف من جانب المعارضة، أعقب الإعلان الرسمي عن فوز الرئيس بونغو بالانتخابات بنحو ساعتين إذاعة بيان عسكري تلفزيونياً يعلن إلغاء نتيجة الانتخابات وحل مؤسسات الحكم، وذلك تجنباً لأي موجة جديدة من أعمال الاحتجاج العنيف. بهذا، يشكل انقلاب الغابون حالة إفريقية دالة على ما يعرف بانقلابات "إنهاء اللعبة السياسية" "Endgame Coups" والتي تتم بتدخل المؤسسة العسكرية لإيقاف مسار لتفاعلات سياسية خطرة منتجة للاستقطاب ومهددة بسقوط الدولة في دائرة للعنف، وإدخالها في عملية تغيير جذرية وشاملة، وهو ما يستدعي إعادة إطلاق عملية سياسية وفق آليات جديدة لكن بمنطق محافظ.


دعم عسكري مؤسسي:

على الرغم من الصورة المُرتجلة التي خرج عليها البيان الأول لإعلان انقلاب الغابون في فجر يوم 30 أغسطس، والتي كان أبرز ملامحها حضور عدد من القادة بغير الزي العسكري؛ فإنه منذ الإعلان الأول جرى تأكيد أن هذا الإجراء يحظى بتأييد القادة العسكريين كافة في البلاد، بما يعكس موقفاً مؤسسياً توافقياً، وليس محاولة فردية للاستيلاء على السلطة.

إذ تشير الذاكرة القريبة للغابون إلى محاولة انقلابية فاشلة جرت وقائعها في 7 يناير 2019 خلال وجود الرئيس علي بونغو في الخارج في رحلة علاجية، وذلك من خلال قيام عدد من صغار الضباط بالسيطرة على مقر الإذاعة الوطنية وإذاعة بيان صوتي أُعلن فيه تولي "الحركة الوطنية لشباب قوات الأمن والدفاع الغابونية" للسلطة في البلاد وتأسيس "مجلس التجديد الوطني" بعضوية عناصر عسكرية ومدنية معارضة للرئيس بونغو. وعلى الرغم من غياب الرئيس بونغو عن البلاد، جاء تصدي القوات المسلحة للمحاولة الانقلابية ليحقق نتيجة حاسمة بعد أن انتشرت قواته للسيطرة على المواقع الحيوية كافة في العاصمة ليبرفيل وغيرها من المدن الرئيسية.

وبغض النظر عن فشلها، لفتت محاولة عام 2019 لمتغير مهم يتعلق بامتداد حالة السخط من سياسات الرئيس بونغو لقطاعات وثيقة الصلة بدوائر الحكم العليا، حيث انتمى الملازم كيلي أوندو أوبيانغ، الضابط الذي ألقى البيان الإذاعي، للحرس الجمهوري الذي يشكل الذراع العسكري الأكثر اتصالاً بالرئاسة في الغابون والذي يحظى بمكانة متفوقة في البناء العسكري في البلاد من حيث النفوذ والعتاد والتدريب، في ظل مسؤوليته المباشرة عن تأمين الرئيس الغابوني.

وبينما أشارت محاولة عام 2019 إلى نفاذ التوترات والتوجهات المعارضة للرئيس بونغو إلى داخل المؤسسة العسكرية، أشارت كذلك لصعوبة نجاح أي محاولة انقلابية مستقبلية في الغابون من دون توافر شرطين أساسيين؛ أولهما حد أدنى من الإجماع بين كبار القادة العسكريين لوقف تنفيذ خطط الانتشار واستعادة السيطرة على المراكز المدنية والعسكرية الحيوية، والثاني ضمان التأييد المباشر من قيادة قوات الحرس الجمهوري على وجه الخصوص. وقد جاء اجتماع الشرطين فيما شهدته الغابون من تطورات يوم 30 أغسطس، ليضمن نجاح إجراءات الإطاحة بالرئيس بونغو بعد ساعات قلائل من إعلان اللجنة الوطنية للانتخابات فوزه بولاية رئاسية جديدة. فبجانب اشتراك العدد الأكبر من القادة العسكريين الرئيسيين في إعلان البيان الأول ومن ثم في عضوية "لجنة الانتقال واستعادة المؤسسات" التي تولت الحكم، وقع الاختيار على الجنرال بريس أوليغي، قائد الحرس الجمهوري، ليتولى رئاسة اللجنة ومن ثم ممارسة مهام رئاسة البلاد فعلياً خلال المرحلة الانتقالية وهو الإجراء الذي شكّل داعماً رئيسياً لنجاح إجراءات الإطاحة بالرئيس بونغو. 

مناخ شعبي ملائم:

تُعد الغابون المُنتج الرابع للنفط على مستوى دول إفريقيا جنوب الصحراء، بعد نيجيريا وأنغولا وجمهورية الكونغو، الأمر الذي أهلها لعضوية منظمة "أوبك" منذ عام 1975، والذي يُعد مسؤولاً عن نحو أربعة أخماس الناتج المحلي الإجمالي للغابون والبالغ عام 2021 نحو 20 مليار دولار أمريكي. وفي ظل الخفة السكانية النسبية التي تتميز بها الغابون التي يقتصر عدد سكانها على نحو 2,3 مليون نسمة، فإنها تحقق واحداً من أعلى المعدلات لنصيب الفرد من الناتج المحلي في إفريقيا.

وعلى الرغم من هذه المؤشرات، تشهد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الغابون تردياً ملحوظاً، دفع الحكومة عام 2018 لتبني سلسلة من الإجراءات التقشفية تماشياً مع خطة تنشيط الاقتصاد المُقررة من جانب صندوق النقد الدولي، والتي أعقبتها معاناة البلاد من التداعيات الاقتصادية السلبية لجائحة "كورونا" منذ عام 2020، والتي لا تزال الكثير من آثارها قائمة حتى الآن. أضيف لهذا الواقع الاقتصادي، ما يشهده الرأي العام في البلاد من سخط تقليدي بشأن التداعيات الاقتصادية لسيطرة عائلة بونغو على الحكم منذ تولي عمر بونغو الحكم عام 1967، قبل أن يخلفه ابنه بعد وفاته عام 2009، في ظل انتشار تقارير تفصيلية بشأن هيمنة العائلة الحاكمة على اقتصاد الغابون لأكثر من 50 عاماً، فضلاً عما ارتبط بهذه السيطرة من منافسات بينية بلغت ذروتها بين الرئيس علي بونغو وشقيقته باسكالين وشقيقه فريدريك.

ويسهم هذا الوضع في تيسير مهمة الحكم الجديد بالغابون واجتذاب حد أدنى من القبول الشعبي لخطوة الإطاحة بعلي بونغو من الرئاسة على الأقل. فمن ناحية، جرت تعبئة الرأي العام في الغابون على مدار سنوات ضد السياسات الاقتصادية للرئيس علي بونغو، وهو ما شكّل دافعاً رئيسياً لتنامي تأييد مرشحي المعارضة للرئاسة في انتخابات 2016 و2023. ومن ناحية أخرى، وعلى العكس من حالة دول الساحل الإفريقي، تمتلك المجموعة العسكرية الحاكمة في الغابون أداة فعالة لتثبيت موقعها في السلطة من خلال إعادة هيكلة الإنفاق العام والتوسع السريع في الإنفاق الاجتماعي، مُستفيدة من الدخل الوفير المنتظم الذي تحصل عليه البلاد من صادرات النفط، وكذلك من إجراءات مصادرة الأرصدة والأصول التي ستضطلع بها بحق الرئيس بونغو وأفراد عائلته أو العناصر المُقربة منه. وقد تكون هذه النيات لدى الحكم الجديد في الغابون سبباً في التحفظ على الرئيس علي بونغو وابنه الأكبر نور الدين، فضلاً عن اعتقال كبير موظفي الرئاسة جيسلاين نغولو ونائبه محمد علي ساليو واتهامهم بالفساد والاختلاس وتزوير توقيع الرئيس.

مما سبق، يمكن القول إن الانقلاب الأخير في الغابون قد جاء ليقطع الطريق على تفاقم أزمة داخلية حادة كادت أن تنفجر بفعل الانتخابات الرئاسية وما شهدته من تفاعلات فاقمت من الاستقطاب الداخلي وأنذرت بالسقوط في دائرة العنف. وبينما تبدو فرص تثبيت الخطوات التي أعلنت عنها القيادة العسكرية الجديدة أكبر من أي احتمالات لعودة الرئيس بونغو لممارسة مهامه لولاية جديدة، لا يزال المستقبل السياسي للغابون يكتنفه الكثير من الغموض الذي ترتهن مآلاته على المدى المتوسط والبعيد بنجاح الحكام الجدد في إدارة عملية انتقالية توافقية وحاسمة وسريعة.

*د. أحمد أمل

أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الدراسات الإفريقية العليا، جامعة القاهرة

*لينك المقال في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين*