المصري اليوم:

د. على الدين هلال يكتب: رؤية مستقبلية للمليشيات المسلحة فى المنطقة العربية

02 September 2023


من المُتفق عليه أن إحدى السمات الرئيسية للدولة المعاصرة هي احتكار القوة المسلحة، أي أنها الجهة الوحيدة التي تمتلك قوات مسلحة وأجهزة شرطة وأمن، وأنها الجهة الوحيدة التي تُدير محاكم وسجونا ولها حق فرض العقوبات على المقيمين في إقليمها. والاستثناء الوحيد على هذا الفهم، هو حالة البلاد الخاضعة للاحتلال، والتى تنشأ بها حركات وتنظيمات مسلحة لمقاومة الاحتلال للحصول على الاستقلال.

ومعنى ذلك، أن وجود تنظيمات مسلحة لا تتبع الدولة أيًا كان نوعها أو سبب وجودها، يعتبر انتقاصًا من سيادتها على إقليمها، ومظهرًا لخلل أو ضعف في بنية هذه الدولة، مما يضعها في قائمة الدول الهشة أو الفاشلة. وهناك عدد من التسميات لهذه الكيانات، مثل المليشيات والتنظيمات والجماعات المسلحة، أو الفاعلين المسلحين أو العنيفين من غير الدول. وتشير هذه التسميات إلى تنظيم مسلح تتوافر لديه عناصر القيادة والاستمرار، يعمل خارج سلطة الدولة ويستخدم العنف وسيلة لتحقيق أهدافه السياسية والأيديولوجية والاقتصادية.

وعادةً ما تنظم هذه الجماعات نفسها في شكل خلايا أو مجموعات صغيرة العدد، تعتمد على سرعة الحركة وتلجأ إلى أساليب حرب العصابات ويعتصم أفرادها في الجبال والمناطق النائية، إلا في الحالات التي يسيطر فيها التنظيم على جزء من إقليم الدولة، كحالة تنظيم داعش في سوريا والعراق. ويخرج عن هذا التعريف شركات الأمن الخاصة، التي تمتلك قوات مسلحة ومعدات قتال مثل شركة «بلاك ووتر» الأمريكية، ومجموعة «فاغنر» الروسية. فهذه التنظيمات تعمل بتنسيق مع الدول التي تنشأ فيها وتكون أحيانًا إحدى أدوات سياستها الخارجية.

واقع المليشيات العربية:

شهدت الدول العربية ظهور العديد من التنظيمات المسلحة، لعل أقدمها «التنظيم السرى» للإخوان في مصر، وأنشطة الحزب السورى القومى الاجتماعى في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى. واستمرت الظاهرة صعودًا وهبوطًا حتى اتسع نطاقها بعد موجة الانتفاضات العربية في مطلع العقد الثانى من القرن الحالى.

وعمومًا، يمكن القول إن الغالبية الساحقة من هذه الجماعات والمليشيات تستند في وجودها واستمرارها إلى دعم خارجى، بالسلاح والتدريب والمال. وباستثناء ذلك، فإنه لا يمكن التعامل معها على أنها كتلة واحدة، إذ تختلف أسباب ظهورها وطبيعة أهدافها وحجم التأييد الاجتماعى لها. وبالطبع، لا يوجد سبب أو عامل واحد يفسر قيام هذه الجماعات، وإنما تتعدد الأسباب ويتقاطع بعضها مع بعض.

ويمكن القول إن الجماعات المسلحة المرتبطة بعامل الهوية، هي الأكثر انتشارًا في البلاد العربية. ويشمل ذلك، الهوية الدينية كالتنظيمات الجهادية على غرار القاعدة وداعش، والجماعات المرتبطة بهما في عدد من الدول العربية، والهوية المذهبية أو الطائفية كمليشيا الحوثيين في اليمن، وحزب الله والمليشيات المسلحة التابعة للأحزاب السياسية في لبنان، وجيش المهدى والحشد الشعبى وغيرهما من المليشيات المماثلة في العراق، والهوية القبلية والمناطقية كبعض الجماعات في اليمن وليبيا والسودان. وتعتبر ولاية دارفور السودانية نموذجًا لتعدد التنظيمات المسلحة القائمة على أسس إثنية وقبلية والتى سيطرت كل منها على جزء من أرض الولاية، ومن أهمها الجنجويد، وجيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، إلى جانب عديد من المليشيات الصغيرة الأخرى.

وارتبطت نشأة المليشيات المسلحة بضعف أداء مؤسسات الدولة، وانكشافها وعدم قدرتها على الوفاء بالمهام الرئيسية لها وتوفير الخدمات الأساسية لمواطنيها من توظيف وتعليم وصحة. فعندما تعجز الدولة عن القيام بهذه المهام ويشعر أهالى المناطق المحرومة بالتمييز وعدم العدالة في توزيع الخدمات ثم عدم استجابة الحكومة لمطالبهم من خلال القنوات السياسية السلمية، فإن الظروف تكون مهيأة لنشأة المليشيات المسلحة.

ويزداد دور العوامل الاقتصادية والسياسية في ظروف التمزق الاجتماعى والاضطراب السياسى المُمتد الذي أعقب الانتفاضات الشعبية في عام 2011، ودخول عدد من الدول العربية في دوامة الحروب الأهلية والحروب بالوكالة، والتى أدت إلى ازدياد دور أطراف إقليمية ودولية في دعم المليشيات المسلحة، مثل دور إيران في سوريا واليمن والعراق ولبنان. وساعد على ازدياد أهمية دور المليشيات المسلحة وتأثيرها في الاستقرار السياسى الداخلى والإقليمى، تطور تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وتوظيف تلك التنظيمات لها في نشر أفكارها، والدعاية لأنشطتها، وتجنيد الأعضاء والأنصار.

ولا بد من التمييز بين مليشيات مسلحة تسعى إلى الانفصال عن كيان الدولة القائمة مثلما حدث في حالة جنوب السودان، وبين مليشيات تسعى إلى إسقاط الحكومة القائمة في العاصمة وتغيير شكل نظام الحكم وتغيير السياسات غير العادلة المتبعة.

ولا بد أيضًا عند تقييم أي مليشيا أو جماعة مسلحة، أن نأخذ بعين الاعتبار وضعها الفعلى وهل تسيطر على جزء من إقليم الدولة أم لا، فعلى سبيل المثال، سيطر تنظيم داعش على أجزاء واسعة من أراضى العراق وأجزاء من سوريا وأنشأ نظامًا للحكم حتى إن بعض الباحثين سموا هذا الكيان «شبه دولة»، وكانت له عاصمة في مدينة الرقة، وشرطة ومحاكم وسجون، بل وقام بصك النقود، ومارس مختلف اختصاصات الحكم. واتصالًا بذلك، سيطرت مليشيا الحوثيين على شمال اليمن بما في ذلك العاصمة صنعاء، ومارست الحكم فيها بطريقة غير شرعية، كما تسيطر المليشيات على أجزاء من أقاليم عدد من الولايات في السودان.

وتؤدى سيطرة المليشيات على أجزاء من إقليم الدولة إلى توليها مهام الحكم ومسؤولياته، وممارستها للوظائف التي تقوم بها الدولة ولا يكون القتال أو الحرب هو الدور الوحيد لها، وذلك مقارنة بالمليشيات المتنقلة من مكان آمن لآخر، وتقوم من آن لآخر بعمليات إرهابية كالاغتيال ومهاجمة مبانٍ حكومية كما يحدث في العراق وسوريا الآن.

رؤية مستقبلية:

ماذا إذن عن مستقبل هذه المليشيات؟، وما هي البدائل المُتاحة أمامها؟، وهنا تختلف الإجابة بحكم طبيعة هذه المليشيات وطبيعة المجتمع والدولة التي نشأت فيها، وشكل التوازنات والتحالفات الإقليمية والدولية المؤثرة فيها، كالتالى:

1- في حالة الدول التي تتمتع بدرجة عالية من التكامل الاجتماعى ووجود مؤسسات دولة قوية، فإن هذه المليشيات ليس أمامها سوى سيناريو واحد وهو الهزيمة، كما حدث في الجزائر التي نجحت الدولة فيها بعد «العشرية السوداء» أن تحقق سيطرتها على كامل إقليم الدولة بالحرب ثم بالعفو العام. وكما حدث أيضًا في مصر، التي نجحت مؤسساتها في إجبار هذه الجماعات على الخروج من المدن والوادى واللجوء إلى صحارى سيناء وجبالها، حيث أمكن أيضًا محاصرتها وتصفية الجزء الأكبر منها.

2- في حالة الدول التي تتسم بعدم التكامل الاجتماعى وتعدد مكوناتها الاجتماعية المذهبية والإثنية والقبائلية المتصارعة، فإن الحل يبدو أكثر صعوبة لأن الانقسام السياسى يجد جذوره في المجتمع ذاته، ويكون على مؤسسات الدولة أن تعمل على عدم تسييس هذه الانقسامات باتباع سياسات عادلة ومنصفة تجاه سائر المواطنين في كل المحافظات والولايات دون تمييز لفئة دون أخرى. وهنا لن يكون الأمر سهلًا، ومن الأرجح أن هناك دولًا وقوى خارجية تجد مصلحتها في استمرار هذا الصراع، ويقوم كل طرف بدعم إحدى المليشيات والمجموعات المسلحة. كما أن مؤسسات الدولة تكون قد أصابها الخوار والفساد، مما يجعل قدرتها على تصحيح صورتها أمام المواطنين محدودة.

3- في حالة الدول التي ارتبط ظهور المليشيات فيها بالاختلافات والانقسامات السياسية التي أعقبت أحداث عام 2011، فإن استمرار المليشيات المسلحة فيها يرتبط أساسًا بتوازن القوى والعلاقات بين الدول المُدعمة لأحد أطراف الصراع. ففى سوريا مثلًا، يوجد عديد من الأطراف المتحاربة؛ فهناك الجيش السورى وحلفاؤه من القوات الروسية وقوات الحرس الثورى الإيرانى وحزب الله اللبنانى، والمجموعات الأخرى كألوية النجباء والفاطميين وأبوالفضل العباس، ومليشيات الجيش الحر وجبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، وقوات سوريا الديمقراطية «قسد» ذات الأغلبية الكردية التي تتلقى دعمًا أمريكيًا، فضلًا عن القاعدة العسكرية الأمريكية في شمال سوريا، وكذلك القوات التركية الموجودة في سوريا تحت مبرر حماية الحدود من الأعمال الإرهابية لحزب العمال الكردستانى.

مُجمل القول، إذا عُدنا إلى الأُطر النظرية في العلاقات الدولية طلبًا للنصيحة في هذا الشأن، فسوف لا يخرج الأمر عن مجموعتين من الحلول: المدرسة الواقعية، التي تعتبر مصلحة الدولة وأمنها الوطنى قدس الأقداس، والتى سوف تنصح بضرورة استخدام الدولة قوتها العسكرية لفرض سيطرتها السياسية والأمنية، ومن موقع الانتصار يمكن لها أن تقوم ببعض الترضيات. أما المدرسة الليبرالية التعددية، فإنها سوف تنصح بمحاولة احتواء العناصر المُتمردة والتى ترفع السلاح والوصول إلى مساومات مُرضية للطرفين. وكُل مدرسة لها حُججها ومُناصروها، ولكن إذا كان مطلب المليشيات المسلحة هو الانفصال عن الدولة أو الاستيلاء على السلطة في العاصمة، فلا بديل عن اللجوء إلى القوة للتعامل معها.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

*لينك المقال في المصري اليوم*