عودة المحاربين القدامى:

هل بدأ انطلاق "الساموراي" الياباني في العالم؟

24 August 2014


لا يمكن وصف القرار الياباني بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي سوى أنه تحول استراتيجي كبير، سوف يثير تساؤلات مختلفة خلال الفترة المقبلة حول دوافعه الحقيقية، وأهدافه الداخلية والخارجية، وتداعياته المتوقعة في القارة الآسيوية وفي العالم، بل إنه سوف يدخل في صلب السياسات الداخلية والتنافس الحزبي في أية انتخابات يابانية قادمة.

إن أول ما يلفت النظر منذ إعلان الحكومة اليابانية، بزعامة رئيس الوزراء شينزو آبي، في شهر يوليو الماضي، قراراً يسمح لقوات الدفاع الذاتي الياباني بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي، أنه بمنزلة خطوة تاريخية من شأنها إعادة عسكرة اليابان، وبعث "الساموراي" (طبقة المحاربين القدامى) من جديد، وهو ما كان قد انتهى مع هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية.

مضمون القرار الياباني

ويأتي هذا القرار في ظل تفسير جديد من جانب صانعي القرار في طوكيو للمادة التاسعة من الدستور السلمي الصادر في عام 1947. وكان التفسير القديم لهذه المادة، التي شكلت الركيزة الأساسية للسياسات الأمنية والخارجية لليابان طوال العقود الستة الماضية، يقوم على نبذ اليابانيين إلى الأبد اللجوء إلى الحرب، والتهديد باستخدام القوة العسكرية أو استخدامها كوسيلة لتسوية المنازعات الدولية؛ وهو التفسير الذي تمت ترجمته عملياً في السنوات الماضية بحظر مشاركة القوات العسكرية اليابانية في المهام الخارجية، أو تقييد هذه المشاركة في أضيق الحدود، وجعلها مرتبطة في الغالب بموافقة مسبقة من البرلمان الياباني (الدايت).

أما التفسير الجديد للمادة التاسعة، وفقاً لحكومة آبي، فيقوم على السماح لها باستخدام الحد الأدنى الضروري من القوة العسكرية في الخارج، عندما يقع اعتداء مسلح على دولة أجنبية ترتبط معها اليابان بعلاقات وثيقة، وعندما يكون هناك خطر واضح يهدد الحقوق الأساسية للشعب الياباني بشكل جوهري. وبذلك التفسير الجديد، سوف يكون في مقدور رئيس الوزراء الياباني استخدام قواته العسكرية إلى جانب حلفائه في ثمانية سيناريوهات محتملة وضعتها الحكومة باعتبارها الحالات التي ينبغي فيها على طوكيو ممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي.

ومن بين هذه الحالات، حماية السفن الأمريكية التي تتعرض لهجوم مسلح، والمشاركة في عمليات إزالة الألغام، واستخدام الدفاع الصاروخي لإسقاط صاروخ باليستي مصوب إلى الولايات المتحدة. كما ستتاح للحكومة اليابانية أيضاً، وفقاً للتفسير الجديد، إمكانية إرسال قواتها العسكرية إلى "المناطق الرمادية" التي لم تصل الأوضاع فيها إلى حد اندلاع حرب شاملة، وهو ما لم يكن متاحاً لها من قبل من دون موافقة البرلمان. كما ستتوفر للحكومة أيضاً إمكانية تخفيف القيود المفروضة على الأنشطة التي يُسمح لليابانيين بالقيام بها في إطار عمليات حفظ السلام التي تقودها الأمم المتحدة.

وقد دافع رئيس الوزراء الياباني عن قرار حكومته بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي، مؤكداً أنه "سوف يساعد في تقليل المخاطر والتهديدات التي يمكن أن يتعرض لها الأمن القومي الياباني، وبالتالي خفض احتمالات دخول اليابان مستقبلاً في أي حرب، فضلاً عن أنه سيدعم التنسيق الأمني والدفاعي مع الولايات المتحدة وباقي الدول الصديقة في العالم".

ردود فعل متباينة

أثار القرار التاريخي للحكومة اليابانية بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي ردود فعل متباينة. ففي الوقت الذي سارعت فيه الولايات المتحدة للترحيب به على اعتبار أنه "خطوة مهمة في إطار مساعي اليابان الرامية للمساهمة بشكل أكبر في تحقيق الأمن والسلم على الصعيدين الإقليمي والعالمي"، حسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي تشاك هاجل، كان جيران طوكيو الآسيويون أقل ترحيباً وقبولاً له. فاليابان لديها حالياً منازعات حدودية متعددة مع الصين وكوريا الجنوبية وروسيا، مما جعل الكثير من دوائر صنع القرار في هذه الدول تتخوف من إمكانية زيادة حدة التوتر مع طوكيو عقب هذا القرار. وكان الوصف العام في هذه الدول تجاه القرار الياباني الأخير هو أنه "تهديد للاستقرار الإقليمي"، بل وانتقدته وسائل الإعلام الصينية بشدة، قائلة إن وراءه "نوايا شيطانية".

ولم يقتصر التحفظ على القرار الياباني الأخير بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي على الدول المجاورة، وإنما امتد أيضاً إلى قطاعات واسعة من الرأي العام الياباني؛ مما دفع عدداً من المراقبين إلى القول إن "الرفض الداخلي الواسع لإعادة عسكرة اليابان وتوسيع دورها العسكري في الخارج عن طريق ممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي، ربما يكون السبب الرئيس وراء إجبار رئيس الوزراء الياباني على عدم محاولة إجراء أي تعديل دستوري يسمح بزيادة الدور العسكري الخارجي"، خاصة أن مثل هذا التعديل يتطلب أغلبية برلمانية خاصة لا يملكها الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في الوقت الحالي. هذا فضلاً عن ضرورة إجراء استفتاء شعبي على التعديل الدستوري المقترح، بعد موافقة البرلمان، وهو ما لا يبدو مضموناً أيضاً بالنسبة لرئيس الحكومة اليابانية، في ظل استطلاعات الرأي المختلفة التي تشير إلى أن أكثر من نصف اليابانيين لا يرحبون بتعديل الدستور السلمي الياباني، تخوفاً من أن يؤدي ذلك إلى استدراج اليابان إلى حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل، نتيجة تحالفها الأمني والاستراتيجي مع الولايات المتحدة.

لماذا الآن؟

ويمكن تفسير القرار الأخير للحكومة اليابانية بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي بعاملين رئيسيين، وهما: ـ

أولاً: العامل الداخلي: ويتعلق بالشعار الذي رفعه شينزو آبي، الذي يوصف بكونه أحد الصقور القومية المتشددة، منذ توليه منصبه في 26 ديسمبر 2012، وهو شعار "استعادة اليابان القوية" اقتصادياً وعسكرياً. فمن أجل تنفيذ هذا الشعار على أرض الواقع، قرر آبي بمجرد وصوله إلى السلطة إنشاء مؤسسة جديدة لتعزيز الأمن القومي، على غرار مجلس الأمن القومي الأمريكي، على الرغم من أن هذه المؤسسة كانت مطروحة للنقاش منذ أكثر من عشر سنوات دون أن يتم اتخاذ قرار نهائي بشأنها. ثم وافق مجلس الوزراء الياباني، بزعامة آبي، على زيادة الميزانية العسكرية اليابانية للمرة الأولى منذ 11 عاماً، لتصل إلى 52 مليار دولار في العام المالي 2012/2013، كما رفعت حكومة آبي أيضاً عدد قوات الدفاع الذاتي البرية لأول مرة منذ ثماني سنوات.

وعلى الصعيد الميداني، وافق آبي على إجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة في أوائل عام 2013 على ساحل كاليفورنيا. وقد وصف المراقبون هذه التدريبات بأنها "تاريخية" و"غير مسبوقة"، لأنها ركزت على عمليات غزو الجزر والمناطق الساحلية، في وقت يتصاعد فيه التوتر بين اليابان والصين بشأن الجزر المتنازع عليها إلى ذروته.

وجاءت أهم الإشارات على توجهات اليابانية الأمنية الجديدة في 17 ديسمبر الماضي، عندما أصدرت حكومة آبي استراتيجية جديدة للأمن القومي الياباني، بدلاً من تلك التي كانت قائمة منذ عام 1957. وتشير هذه الاستراتيجية، التي ستكون بمنزلة الأساس المحوري للسياسات الأمنية والخارجية خلال السنوات العشر القادمة، إلى أن دوائر صنع القرار اليابانية لم تعد تعتبر روسيا أكبر تهديد لأمنها القومي، وإنما أصبحت تنظر إلى القوة العسكرية الصينية المتنامية (والتهديدات النووية والصاروخية من جانب كوريا الشمالية) باعتبارهما أخطر التهديدات التي تواجهها اليابان في الوقت الراهن، بل ومصدر قلق لشرق آسيا والمجتمع الدولي بأسره.

ومن أجل تنفيذ هذه الاستراتيجية، التي تتضمن إمكانية المبادرة بشن هجوم استباقي على مصادر التهديد المحتملة للأمن القومي الياباني، على أرض الواقع، وافقت حكومة آبي على تخصيص 24.7 تريليون ين (240 مليار دولار تقريباً) للإنفاق على برنامج الدفاع الياباني في الفترة من عام 2014 إلى عام 2019، وهو ما يمثل زيادة نسبتها 5% مقارنة بالأعوام الخمسة الأخيرة.

ثانياً: العامل الخارجي: حيث يتوافق القرار اليابني بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي مع استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والتي تعرف باسم "الانعطافة نحو آسيا" أو "إعادة التوازن إلى آسيا"، والتي تؤكد أهمية تحويل التركيز العسكري والاقتصادي لواشنطن نحو منطقة آسيا – الباسيفيكي، التي تشهد بروزاً لقدرات الصين العسكرية، في وقت تتزايد فيه التوقعات بأن تصبح هذه المنطقة قاطرة النمو الاقتصادي في العالم خلال القرن المقبل.

ومن أجل تنفيذ هذه الاستراتيجية، تطالب واشنطن حلفاءها في المنطقة، وفي مقدمتهم اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والفلبين، بضرورة تحمل جزء أكبر من التكاليف المالية والعسكرية المرتبطة بتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، خاصة مع تراجع المخصصات المالية لوزارة الدفاع الأمريكية في ظل الأزمة المالية التي تعاني منها الولايات المتحدة في الوقت الراهن.

ومن هنا، يرى عدد من المراقبين أن القرار الياباني الأخير سيعزز بشدة من التحالف الأمني والاستراتيجي بين طوكيو وواشنطن في الأيام المقبلة، خاصة أن اليابان، على الرغم من دستورها السلمي، تحتفظ بواحد من أكبر الجيوش في العالم؛ فالجيش الياباني يأتي في المرتبة الثامنة عالمياً من حيث الإنفاق العسكري، وهو بذلك يأتي سابقاً على جميع الجيوش الآسيوية، باستثناء الجيش الصيني.

ويصنف الجيش الياباني أيضاً ضمن أفضل عشرة جيوش في العالم وفقاً للمؤشر العالمي لقوة النيران Global Firepower index. ومن المتوقع أن يتحسن هذا التصنيف في ضوء الخطط اليابانية الحالية بامتلاك مزيد من المقاتلات الحربية والمدمرات البحرية وطائرات الاستطلاع من دون طيار، حيث اتفقت طوكيو مع واشنطن مؤخراً على شراء 42 طائرة جديدة من طراز الشبح إف – 35، بتكلفة إجمالية تبلغ 10 مليارات دولار.

الخروج من القمقم

من المتوقع أن يطلق القرار الياباني الأخير بممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي المارد العسكري الياباني من قمقمه الذي قبع فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث يبدو أن هذا الخروج قد أصبح ضرورة، من وجهة نظر صانعي القرار في طوكيو، من أجل استعادة توازن القوى "المهزوز" في منطقة شرق آسيا. ففي الوقت الذي تشهد فيه المنطقة تزايداً في القوة العسكرية والاقتصادية للصين، يوجد تراجع ملموس في مكانة الولايات المتحدة عالمياً وإقليمياً، بفعل المصاعب الاقتصادية التي تواجهها واشنطن من ناحية، وتورطها في المستنقعين الأفغاني والعراقي من ناحية أخرى، وعدم قدرتها على الحسم في الأزمة الأوكرانية المتفجرة مع روسيا من ناحية ثالثة.

ولكن انطلاق "الساموراي" الياباني في العالم لن يأخذ الضوء الأخضر قبل الخريف القادم، وهو موعد انعقاد البرلمان الياباني، الذي سيكون عليه إلغاء الحواجز القانونية الحالية التي تقف أمام إمكانية القيام بدور عسكري ياباني أكبر في الخارج. فمن الضروري، على سبيل المثال، قيام البرلمان الياباني بتعديل قانون قوات الدفاع الذاتي وقانون الاستجابة لمواقف الهجمات المسلحة. كما أنه من الضروري أيضاً وضع قانون دائم لإرسال قوات الدفاع الذاتي اليابانية في مهام خارجية. كما ستكون للقضاء الياباني أيضاً كلمته بشأن التعديلات القانونية التي سيوافق عليها البرلمان فيما يتعلق بالدور العسكري الياباني في الخارج، في إطار سلطته الخاصة بالمراجعة الدستورية للقوانين... فهل يستطيع آبي تخطي العوائق الشعبية والتشريعية والقضائية والإقليمية التي تنتظره حتى ينطلق المارد العسكري الياباني في العالم؟!