"السلام الاستباقي":

سياسة اليابان من يوشيدا إلى شينزو آبي

21 April 2015


إعداد: نوران شريف مراد

ظل الإطار الحاكم لتحركات السياسة الخارجية اليابانية لسنوات طويلة، هي "عقيدة يوشيدا"  Yoshida Doctrine، وذلك نسبةً إلى شيجيرو يوشيدا Shigeru Yoshida رئيس الوزراء الياباني الأسبق خلال فى الفترة من (1946-1947) ومن ( 1948- 1954)، حيث مارست طوكيو في ظل العقيدة المذكورة قدراً من ضبط النفس تجاه الأزمات الأمنية المختلفة، إلا أنه مع تولي "شينزو آبي" Shinzo Abe رئاسة وزراء اليابان، بدأت ملامح التحول تبدو على السياسة الأمنية اليابانية بعد أن ظهرت مؤخراً وثائق أمنية جديدة تحدد أطراً مختلفة للتوجهات الأمنية لليابان.

ومعلوم أن "آبي" يتولى رئاسة الوزراء منذ ديسمبر 2012، كما أعيد انتخابه لولاية ثالثة في 14 ديسمبر 2014. وكان "آبي" قد شغل المنصب من قبل لمدة عام واحد (2006-2007) قبل أن يتقدم باستقالته حينذاك.

ولا يمكن فهم التحولات في السياسة اليابانية الأمنية بمعزل عن التهديدات التي تواجهها اليابان في بيئتها الإقليمية؛ إذ يعتبر الصعود الصيني الاقتصادي والعسكري على رأس العناصر التي تهدد اليابان في محيطها الإقليمي، وكذلك البرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية. هذا إضافة إلى تخوف طوكيو من تراجع دور الولايات المتحدة بالمنطقة أو تراجع درجة التزاماتها الأمنية تجاه اليابان. كما يقلق طوكيو كذلك، ضم روسيا للجزر الخمس في أرخبيل الكوريل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يشكل ضغطاً متواصلاً على العلاقات بين البلدين.

ويعمل "آبي" منذ توليه منصبه على الخروج بالسياسة الأمنية اليابانية من الأُطر التقليدية التي حكمتها لعقود طويلة، حيث بات من الضروري خلق أُطر تتناسب والمتغيرات الإقليمية الجديدة. وإبان زيارته لواشنطن في فبراير 2013، صرح "آبي" قائلاً: "اليابان قد عادت"، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول توجهات الأمنية اليابانية مستقبلاً.

في إطار هذه التطورات، نشر المعهد الألماني للشؤون الأمنية والدولية، دراسة تحت عنوان: "السياسة الأمنية اليابانية.. التحوٌل في المسار تحت قيادة آبي؟"، أعدتها "ألكسندرا ساكاكي" Alexandra Sakaki الباحث المشارك في قسم آسيا بالمعهد الألماني للشؤون الأمنية والدولية.

تأسيس مجلس الأمن القومي

تشير الباحثة إلى أنه في مواجهة التهديدات الأمنية، قامت إدارة "شينزو آبي" بتأسيس مجلس للأمن القومى في ديسمبر 2013، على غرار المجلس الأمريكي. وقد مهد مجلس أمن اليابان The security council of japan لظهور مجلس الأمن القومي، لأن كثرة عدد أعضاء المجلس السابق حدت من فاعليته، الأمر الذي أدى إلى بحث فكرة تأسيس مجلس للأمن القومي بعدد أعضاء أقل. ونُوقشت الفكرة للمرة الأولى إبان الولاية الأولى لآبي 2006- 2007، غير أن القانون المتعلق بإنشاء المجلس لم يصدر سوى في فترة ولايته الثانية.

وبالتزامن مع إنشاء مجلس الأمن القومي، اعتمد البرلمان الياباني في 6 ديسمبر 2013 قانون  يوضح العقوبات التي ترتبط بانتهاك سرية الدولة. واعتبر "آبي" هذا القانون خطوة هامة تُمهد لبدء التبادل الاستخباراتي مع البلدان المختلفة في مجال الأمن. ويكفل القانون لمجلس الأمن القومي القدرة على بلوغ قاعدة بيانات غنية تساهم في جعل المجلس ساحة للمناقشات واتخاذ القرارات المصيرية. ويغلظ القانون الجديد العقوبة المفروضة على تسريب المعلومات السرية لتصل إلى غرامة مالية وسجن لمدة تصل إلى عشر سنوات، بينما لم تكن فترة السجن تتجاوز السنة الواحدة قبل إصدار القانون المشار إليه.

السلام الاستباقي" في الوثائق الاستراتيجية الجديدة

فى ديسمبر 2013، ظهرت وثيقتان استراتيجيتان تعكسان توجهات السياسة الأمنية لطوكيو في ظل قيادة "شينزو آبي"، وهما استراتيجية الأمن القومي NSS وبرنامج الدفاع القومي NDPG. وتوضح الوثيقتان الكيفية التي ستتصدى بها البلاد لأي تهديدات وسُبل تحقيق الاستقرار الإقليمي والعالمي.

ووفقاً لما تضمنته الدراسة، تؤكد الوثائق الصادرة حديثاً على كون اليابان راعية لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون على الصعيد الدولي، ومن ثم ينبغي عليها كدولة مُحبة للسلام أن تتبنى سياسة أمنية دفاعية غير هجومية، وألا تصبح قوة عسكرية تمثل تهديداً للدول الأخرى المجاورة، وتلتزم في هذا السياق بالمبادئ غير النووية الثلاثة (لا تمتلك السلاح النووي، ولا تنتج السلاح النووي، ولا تسمح لطرف ثالث بإدخال ذلك السلاح إلى أراضيها).

وجدير بالذكر أن هذه المبادئ نصت عليها الوثائق الاستراتيجية السابقة أيضاً، بيد أن الأمر الجديد هو ظهور فكرة "السلام الاستباقي"Proactive Pacifism  كفكرة أساسية في الوثائق الاستراتيجية الحديثة. وتستند الفكرة على مبادئ مضادة لتلك التي يستند عليها مبدأ "يوشيدا"، والذي في ظله كانت سياسة اليابان الخارجية مبنية على "السلام السلبي"، الأمر الذي حدَّ من قدرات طوكيو في مجال السياسات الأمنية والدفاعية، حيث اقتصر استعمال القوات المسلحة فقط على مجالات الحظر والمنع.

وتحت شعار "المسالمة الاستباقية"، ترفع إدارة "شينزو آبي" القيود العسكرية التي فرضتها اليابان على نفسها على مدار السنوات الماضية، وذلك عبر العمل على ثلاثة مستويات، وهي كالتالي:

1- تفسير جديد للمادة (9) من الدستور: بموجب إعادة التفسير، فإن طوكيو من الممكن أن تشن عملاً عسكرياً بمقتضى حق الدفاع المشترك collective self-defense. فلم يعد الأمر مقصوراً على حق الدفاع الفردي فحسب، ولكن يتم اللجوء لذلك الحق إذا تم شن هجوم مسلح في مواجهة بلد ما على صلة قوية باليابان؛ الأمر الذي سيترتب عليه تهديد وجود اليابان وحق مواطنيها في الحياة والحرية والسعادة. ولا يجوز اللجوء لذلك الحق إلا إذا كان الخيار الأخير. وفي حالة اللجوء إليه، يجب أن يتم استخدام الأسلحة في أضيق الحدود.

2- مراجعة قوانين تصدير الأسلحة: في الأول من أبريل 2014، قامت إدارة "آبي" بتخفيف القيود المفروضة على تصدير الأسلحة. وبموجب المراجعات، سوف يكون تصدير الأسلحة مباحاً طالما يساهم في كفالة أمن اليابان ويتوافق مع مبدأ "السلام الاستباقي".

3- ميثاق التعاون الإنمائي الجديد: في 10 فبراير 2015، قام رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي" بالتصديق على ميثاق جديد للتعاون في المجال الإنمائي، وهو يحل محل الميثاق الموضوع منذ عام 2002، ليكون نبراساً تتبعة طوكيو في مساعدتها للدول النامية. ووفقاً للوثيقة الجديدة، من الممكن أن تقدم اليابان المساعدات للقوات العسكرية الأجنبية، على أن تكون مساعدات لأهداف غير عسكرية، كالإغاثة في حالات الكوارث. غير أن الباحثة تؤكد على عدم وجود ضامن لعدم ذهاب المساعدات لأهداف عسكرية، كما تشير إلى تنامي اتجاهات يابانية معارضة لرفع تلك القيود العسكرية.

الأسس الثلاثة للسياسة الأمنية لليابان

تشير الباحثة إلى ثلاثة عناصر يُعمل بها منذ عقود، وتمثل قوام السياسة الأمنية اليابانية، غير أنه في ظل إدارة "شينزو آبي"، وعلى الرغم مما تواجهه اليابان من مشكلات اقتصادية واعتراضات محلية ودولية، فإن آبي يعمل على تحقيق الأهداف الثلاثة بصورة أكثر حزماً من الإدارات السابقة، وهذه الأسس هي:

1- امتلاك اليابان للقدرات والتدابير الدفاعية: في هذا الإطار يأتي اهتمام مجلس الأمن القومي بقوات الدفاع الذاتي Self-defense forces، والتي وُصفت من قِبل المجلس بكونها "الضامن الوحيد" لحماية الأمن القومي من أي تهديدات.

وتؤكد الوثائق الاستراتيجية الحديثة على أهمية تمكين تلك القوات، بحيث تكون قادرة على التدخل السريع في المناطق المتنازع عليها مع الصين بصورة تتسم بالمرونة والسرعة والديناميكية والتكامل، بما يُمكَّن القوات البرية والبحرية والجوية من التوحد معاً في مواجهة أي تحرك صيني مفاجئ. وتظهر القدرات العسكرية اليابانية جلية في سياق الصراع على جزر سينكاكو senkaku islands مع الصين، وهي الجزر التى تتبع اليابان وتطالب بها الصين.

2- التحالف مع الولايات المتحدة: تعد العلاقات الأمريكية – اليابانية هي حجر الزاوية للسياسة الخارجية اليابانية، وتستند تلك العلاقات على المصالح الاستراتيجية والقيم المشتركة، فواشنطن تتعهد بكفالة أمن طوكيو، وفي المقابل تسمح اليابان للولايات المتحدة بالإبقاء على قواعدها العسكرية في شبه جزيرة أوكيناواOkinawa  وهونشو Honshu.

وحسب ما أردته الوثائق الاستراتيجية، فإنه يتعين على اليابان أن تحرص في علاقاتها مع الولايات المتحدة على إيجاد تعاون سلس يساهم في كفالة التمركز الناعم والفعال للقوات الأمريكية. ومن هذا المنطلق، بذل "آبي" جهوداً كبيرة في حل أزمة قاعدة فوتنما Futenma الأمريكية في شبه جزيرة أوكيناوا، ولاقت جهوده استحساناً كبيراً من جانب واشنطن، حيث كان السكان المحليون وحاكم الجزيرة يعارضون الوجود الأمريكي فيها.

3- التعاون الدولى: في ظل قيادة "شينزو آبي"، أدركت اليابان أنه لا يمكن الاعتماد على واشنطن فقط لكفالة أمنها، فهي عملية تتطلب تعاوناً أكثر من فاعل، ولهذا تؤكد الوثائق الحديثة على مبدأ التعاون الدولي مقارنةً بالوثائق السابقة.

وفي هذا السياق، ذكرت الدراسة أنه يمكن التفرقة ما بين صورتين للتعاون بدأت تتبعهما اليابان:

أ ـ التعاون الثنائي: حيث عرضت الباحثة صور التعاون الثنائي ما بين اليابان وعدد آخر من الدول بقدر من التفصيل، ومن تلك الدول: (أستراليا، والهند، وكوريا الجنوبية، وكوريا الشمالية، وروسيا، والفلبين، وفيتنام، وأندونيسيا). وتُظهر الوثائق الاستراتيجية الأخيرة أن اليابان تُولي قدراً من الاهتمام لبناء قدرات دول جنوب آسيا وتقديم المساعدة لها.

ب ـ التعاون متعدد الأطراف: تطرقت الباحثة إلى العلاقات ما بين طوكيو والكيانات الدولية الأخرى مثل منتدى الآسيان الإقليمي ARF، وقمة شرق آسيا EAS. وتوضح كيف أن اليابان بدأت تسعى للقيام بمشروعات تستهدف خلق مزيد من التكامل في منظمة الآسيان، رغبةً منها في أن يتبنى الأعضاء مواقف موحدة تجاه الصين، وتخصص طوكيو لذلك الهدف مبالغ مالية طائلة.

أخيراً تشير الباحثة إلى أن أوروبا يجب أن تنظر إلى جهود طوكيو في المجال الأمني على أنها فرصة للقيام بقدر من التنمية المشتركة، فاليابان وأوروبا يعتمدان اقتصادياً على الاستخدام غير المحدود لأعالي البحار والمجال الجوي والفضاء السيبراني. ومن ثم، فإن نشوب أي نزاع إقليمي مسلح في المنطقة من شأنه تعريض طرق التجارة العالمية للخطر. وبالتالي، قد يكون من المفيد أن تسعى أوروبا لتكثيف حواراتها الأمنية مع دول آسيا، مع دمج الصين فيما يتم تنظيمه من مبادرات، حتى لا تشعر بكين بأن تلك التحركات موجهة ضدها.

وتؤكد الباحثة أن السياسة الخارجية والأمنية اليابانية تتحرك على أرض الواقع بما يتوافق ومبادئ "السلام الاستباقي" منذ فترة طويلة؛ فالتغيير الذي نحن بصدده الآن لم يحدث فجأة، بل إن السياسة الأمنية اليابانية في حالة تحول تدريجي منذ نهاية الحرب الباردة، وما تقوم به الوثائق الاستراتيجية الأخيرة هو فقط إقرار وتقنين ما هو مُطبق بالفعل.

* عرض مُوجز لدراسة تحت عنوان "السياسة الأمنية اليابانية.. التحوٌل في المسار تحت قيادة آبي؟"، الصادرة في مارس 2015 عن المعهد الألماني للشؤون الأمنية والدولية.

المصدر:

Alexandra Sakaki, “Japan’s Security Policy: A shift in direction under Abe?” (Berlin, German institute for international and security affairs, March 2015).