فراغ أمني!

دلالات تصاعد العملية الإرهابية الأخيرة في مالي

14 March 2022


أعلن الجيش المالي، في 4 مارس 2022، مقتل 27 من عناصره فضلاً عن إصابة نحو 33 آخرين في هجوم إرهابي استهدف معسكر "موندورو" بوسط البلاد، وهو أكبر هجوم إرهابي تشهده باماكو منذ عدة شهور، كما أنه يأتي بعد إعلان فرنسا والشركاء الأوروبيين بدء سحب قواتهم من مالي، الأمر الذي يعكس مخاوف متزايدة من الانعكاسات الأمنية لحالة الفراغ المحتملة.

نشاط إرهابي متصاعد:

شهدت مالي تصاعداً في وتيرة الهجمات الإرهابية خلال الفترة الأخيرة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي: 

1- رد حازم من مالي: أعلن الجيش المالي في بيان أن هجوم 4 مارس الإرهابي نتج عنه مقتل 47 من العناصر الإرهابية التي شاركت في الهجوم، بالإضافة إلى 23 آخرين خلال عملية تمشيط معاقل العناصر الإرهابية. وأشارت بعض التقارير إلى أن الجيش المالي لم يطلب الدعم من قبل قوة "برخان" الفرنسية، حيث يقع معسكر "موندورو" في منطقة كان الجيش المالي قد طلب من برخان عدم الوجود والعمل فيها، وهو ما قد يعزى إلى وجود عناصر من شركة فاجنر الروسية هناك.

2- هجمات متزامنة: أعلن المتحدث باسم بعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما)، أوليفييه سالغادو، في 7 مارس الجاري، أن قافلة لوجستية تابعة لها قد تعرضت لهجوم بعبوة ناسفة في شمال "مبوتي"، مما أسفر عن مقتل جنديين مصريين من جنود حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، فضلاً عن إصابة أربعة آخرين، وهو الهجوم الذي أدانه مجلس الأمن الدولي. كما أعلن الجيش المالي مقتل اثنين من جنوده في هجوم شنته عناصر إرهابية في منطقة "غاو" بشمال البلاد. 

3- تصفية الجيش الفرنسي للجزائري: أعلن الجيش الفرنسي، في 7 مارس، عن تصفيته أحد قيادات تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، بالقرب من "تمبكتو" بوسط مالي، وهو الجزائري، يحيى جوادي، (المعروف باسم أبو عمار الجزائري)، وهو أحد العناصر التي ساعدت على توسع نطاق انتشار تنظيم القاعدة في منطقة غرب أفريقيا، وبالتالي فمن المتوقع أن يؤثر مقتله على نفوذ القاعدة في هذه المنطقة، كما أنه سيحرم جماعة "نصره الإسلام والمسلمين" بقيادة إياد أغ غالي، من الدعم المقدم لها من شمال مالي.

وفي المقابل، نفي قائد "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" فرع تمبكتو، طلحة أبو هند، أحد التنظيمات الإرهابية المتحالفة مع تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، مقتل الجزائري، في 8 مارس، حيث أصدر بياناً أكد خلاله عدم صحة الإعلان الفرنسي السابق.

انعكاسات إقليمية واسعة: 

عكست الوتيرة المتصاعدة للعمليات الإرهابية التي تشهدها مالي جملة من الدلالات المهمة التي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- انعكاسات محتملة للفراغ الأمني: تشير العمليات الإرهابية المتزايدة التي تشهدها مالي إلى مساعي التنظيمات الإرهابية للاستفادة من حالة الفراغ الأمني التي ربما تتمخض عن خروج القوات الفرنسية والأوروبية من باماكو. ويتسق هذا مع تقارير غربية تشير إلى صعوبة افتراض نجاح عناصر فاجنر الروسية في فرض الأمن في مالي، في مساحة تتجاوز الـ 900 ألف كيلومتر مربع، وذلك نظراً لافتقار هذه العناصر، وفقاً للمزاعم الغربية، إلى قيادة فاعلة وقدرات استخباراتية واستطلاعية مناسبة.

كذلك، ألمح التقرير إلى أن جزءاً من عناصر فاجنر المتمركزين في مالي، ربما يكونون من السوريين أو الليبيين، وبالتالي، فهم أكثر ميلاً لتأمين مورد مالي لهم بدلاً من التركيز على الأبعاد الأمنية ومكافحة التنظيمات الإرهابية.

وأشار تقرير صادر عن صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية إلى أن القوات الفرنسية في مالي وبقية الشركاء الغربيين فقدوا خلال الفترة الأخيرة إمكانية الوصول إلى المناطق التي تنتشر فيها عناصر فاجنر الروسية، كما لم يعد بإمكان القوات الغربية إرسال طائرات فوق القرى المعرضة لهجمات وشكية، ومن ثم الحد من قدرتهم على ردع أي محاولات محتملة للجماعات الإرهابية لشن أعمال عدائية ضد هذه القرى، وذلك في محاولة لتبرير عدم لعب القوات الغربية دوراً في صد الهجمات الأخيرة.

2- تأكيد فرنسا على مركزية دورها: أشارت بعض التقديرات إلى احتمالية وجود دور فرنسي مقصود من أجل خلق فراغ أمني في مالي تستغله الجماعات الإرهابية في توسيع نطاق سيطرتها، مما يزيد الضغط على السلطات الانتقالية في باماكو، والتي باتت تفضل التقارب مع روسيا على حساب النفوذ الفرنسي التقليدي هناك.

لذا، يبدو أن هناك محاولات فرنسية للترويج لأهمية دورها في حفظ الأمن والاستقرار في منطقة الساحل، وأن غيابها لا يمكن تعويضه بالدور الروسي، كما اتضح في تصاعد العمليات الإرهابية خلال الفترة الأخيرة، وفقاً لوجهة نظر باريس، فضلاً عن العملية التي أعلنت عنها باريس واستهدفت خلالها تصفية أحد قيادات تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي".

3- احتمالات تعزيز الحضور الروسي في مالي: تشير تقارير إلى أن وزير الدفاع المالي، العقيد ساديو كامارا، ورئيس أركان القوات الجوية، ألو بوا ديارا، قاما بزيارة سرية إلى موسكو، في 6 مارس الجاري. وألمح التقرير إلى أن كل من كامارا وديارا هما مهندسا الاتفاق المبرم بين باماكو وشركة فاجنر الروسية، والتي بموجبها أصبح هناك حوالي ألف من عناصر فاجنر تنشط في داخل مالي في الوقت الراهن. 

وقد تكون الزيارة مؤشراً على محاولة من قبل المجلس العسكري للحصول على مزيد من الدعم الروسي، خاصةً بعدما كانت بعض التقارير قد أشارت إلى أن موسكو عمدت خلال الفترة الأخيرة إلى سحب عشرات من عناصر فاجنر الموجودين في القارة الأفريقية، بما في ذلك من مالي، للمشاركة في الحرب الراهنة في أوكرانيا.

وتبقى هذه الخطوة مجرد ضرورة مرحلية فرضتها ظروف الحرب، إذ يرجح أن تشهد المرحلة المقبلة توسيع الوجود والدور الذي ستقوم به شركة فاجنر في مالي، خاصةً في ضوء ما هو متوقع من تصاعد التنافس الروسي – الغربي في أفريقيا بشكل عام، ومنطقة الساحل والصحراء بشكل خاص، والتي سيكون لشركة فاجنر دور رئيسي فيها.

4- ارتدادات إقليمية أوسع: أشارت بعض التقديرات إلى أن تصاعد وتيرة النشاط الإرهابي في مالي، بالتوازي مع استعداد القوات الغربية المتحالفة للخروج، ربما يؤثر بشكل كبير على الأوضاع الأمنية في السياق الإقليمي المحيط، خاصةً في ليبيا، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة تسهيل طرق الإمداد والتمويل للجماعات الإرهابية عبر الحدود الهشة.

وكذلك، ثمة قلق جزائري متنامٍ من تصاعد التوترات الأمنية في الداخل المالي، وارتداداتها المحتملة على الأوضاع الأمنية للمناطق الحدودية المشتركة، وهو ما عكسته التصريحات الجزائرية الأخيرة والتي عبرت عن قلق الحكومة الجزائرية من تزايد الهجمات الإرهابية في وسط وشمال مالي، خاصةً بعد سلسلة الهجمات الأخيرة التي شهدتها منطقتي "غاو" و"تمبكتو" بالقرب من الحدود الجزائرية. 

وتعد منطقة شمال مالي عمقاً أمنياً بالنسبة للجزائر، وبالتالي فإن تصاعد حدة النشاط الإرهابي في هذه المنطقة سينعكس بالضرورة على الداخل الجزائري، فضلاً عن قلق الجزائر من احتمالات أن تؤدي هذه العمليات الإرهابية المتصاعدة إلى تهديد أي تفاهمات كانت الجماعات المسلحة قد أبرمتها مع السلطات المالية بموجب اتفاقية الجزائر الموقعة عام 2015.

وفي الختام، تمثل المعادلة الأمنية في منطقة الساحل الأفريقي، بما في ذلك مالي، انعكاساً مباشراً للتنافس الراهن بين روسيا والغرب، إذ إن الارتدادات المباشرة وغير المباشرة المتوقعة للحرب الراهنة في أوكرانيا، ستكون لها تأثيرات عديدة على مستقبل التنافس الدولي في منطقة الساحل بأكملها، وعلى المدى القريب يرجح أن تتزايد وتيرة العمليات الإرهابية في مالي وغيرها من دول المنطقة، الأمر الذي سيفرض مزيداً من التحديات على النطاق الإقليمي الأشمل.