ميدل إيست أونلاين:

نموذج عن القوة الناعمة الإماراتية في اكسبو دبي

16 February 2022


القوة بمفهومها الشامل هي من أهم القضايا التي شغلت تفكير صانعي القرار في العالم على مر العصور، خاصة بعدما تغيرت أدوات التأثير في المجتمع الدولي، وثبت أن القوة الصلبة لم يعد مفعولها كبيراً، بل إن تداعياتها ونتائجها السلبية لا تضر العدو وإنما الذي يستخدمها أيضاً. وقد توسع هذا المفهوم الجديد للقوة لدرجة أن قوة الدولة العسكرية لم تعد المصدر الوحيد للقوة أو الوسيلة الأضمن لتحقيق أهدافها الخارجية، كما كان في الماضي، بل أصبح ينظر إلى القوة الناعمة على أنها الأكثر أهمية.

انطلاقا من هذه الرؤية يتوقف الكاتب الإماراتي محمد خلفان الصوفي في دراسته "بناء العلامة الوطنية: إكسبو 2020 دبي نموذج لأدوات القوة الناعمة الإماراتية" راصدا ومحللا لمكانة وأدوات القوة الناعمة لسياسة الإمارات الخارجية ومناقشا فرضية رئيسية، هي أن دولة الإمارات تعطي أولوية قصوى لمصادر وأبعاد وآليات القوة الناعمة، بهدف التقريب بين الشعوب في العالم، دون انتقاص من الاهتمام بالقوة الصلبة أو الخشنة المتطورة. ويتخذ الكاتب في دراسته من معرض إكسبو-2020 دبي مدخلاً لرصد وتحليل ملامح وأبعاد هذه القوة الناعمة باعتباره الحدث الأبرز الذي يتواكب مع نشر الدراسة.

ويرى الصوافي أن الإمارات تقدم تجربة تنموية عربية وإقليمية صاعدة، وقوتها الناعمة تتنامى وتتنوع بتسارع على الصعيد الإقليمي بشكل لافت للجميع، حيث جمعت منظومة بناء القوة الناعمة لها بين سهولة وضع الأهداف وتحديد الأدوات وترتيب الأولويات، وهناك العديد من العناصر التي تشكل محددات القوة الإماراتية الناعمة أبرزها، إنتاج الإفكار المستقبلية، ونشر ثقافة التسامح، واتباع نهج الإبهار، علاوة على قيادة التغيير، حيث تمتلك الإمارات قدرة عالية على التكيف مع المتغيرات الجديدة في العالم. 

ويتوج إكسبو عدداً من الأحداث الأخرى التي تم تنظيمها في الإمارات خلال الفترة الماضي. وقد اجتمعت معاً لتفتح الطريق أمام رسم خريطة تنموية اقتصادية جديدة في الإمارات تعتمد على الأفكار الإبداعية والأعمال النوعية والمجالات الجديدة والمستحدثة مثل الذكاء الاصطناعي. وهكذا تثبت الإمارات يوماً بعد يوم، أن استضافتها الفعاليات العالمية الكبيرة ليست طموحاً مؤقتاً. وأن هذا التوجه ليس مقصوراً على الجانب الاحتفالي والبروتوكولي لتلك الفعاليات، وإنما هو جزء من استراتيجية متكاملة تستخدم فيها الدولة كل ما يتاح لها حالياً ومستقبلا من أدوات القوة الناعمة ومصادرها، وفق رؤية شاملة لبناء المستقبل.

ويقول أنه يمكن اليوم ملاحظة أن دولة الإمارات مزدحمة بجدول استضافات للفعاليات الدولية فقد تم اختيارها لعقد المؤتمر الدولي للمناخ العام المقبل  COP28، كما يمكن الملاحظة أنها تعمل ضمن الأطر الدولية أي أنها تعمل بما يخدم برامج الأمم المتحدة على أساس أنها المظلة الأشمل لكل القضايا الإنسانية في العالم وتؤكد أن دورها قائم لدعم المنظمة العالمية. 

وبذلك تستهدف الامارات النهوض التنموي العالمي من خلال تقليل حجم الاختلافات بين المجتمعات لخلق الاستقرار والأمن باعتبارهما عاملين مهمين في البناء والتنمية. كما تهدف إلى الاستحواذ على المزيد من الثقة الدولية من أجل صياغة دورها المحوري الإقليمي والدولي لخدمة الإنسانية وتحقيق أهدافها الاقتصادية والتنموية. 

وقد أدت هذه الثقة إلى تزايد دور الإمارات في الانخراط في المسؤوليات الدولية، سواء برغبة منها أو من خلال الاستعانة بها من الدول الكبرى نتيجة للمكانة والاحترام اللذين تحظى بها. فغير المساعدات الإنسانية الدولية هناك أدوار وساطة في عدد من النزاعات السياسية في العالم منها الوساطة بين إثيوبيا وأريتريا بعد أكثر من ثلاثة عقود من الحرب، وهناك أيضا دورها الأساسي في المشاركة في الحرب ضد الإرهاب والتطرف في العالم ولا يمكن نسيان دورها الجديد في مجال دعم الدور الدولي في المناخ من خلال قمة كوب 27. ومثل هذه المواقف تعزز من مكانتها الدولية ولكن باستخدام القوة الناعمة. واليوم تقود الامارات الجهود الدولية في مجالات تخفيف التوتر والاحتقان بل تعتبر المساهم الأكبر في المساعدات الدولية.

ويؤكد الصوفي أن الإمارات تطرح تصورها هذه الأيام حول ما هو النموذج الأفضل للتعايش والاستقرار الدولي من دون أن تعيش في القالب التقليدي للأدوار الكبيرة للدول والقائمة على المساحة والكثافة السكانية والإرث التاريخي وإنما تنطلق من رؤية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بأن الإدارة هي أساس كل شيء. فهي تفعل ذلك من منطلق أنها دولة أهل للثقة وتتحلى بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الإنسانية وذات مصداقية شعبية ورسمية، لذلك لا تقف كثيرا أمام انتقادات وسلبية البعض ولا هي متسرعة في إثبات صحة موقفها، لأن مع مرور الزمن يثبت أن موقفها ورؤيتها كانت الأصح. 

ومع أن الإمارات تفضل العمل مع حلفائها وأشقائها وفق منطق توافقي بين الجميع، لذلك تجد أنها تدخل في شراكات إقليمية ودولية من خلال بناء منظومات من الروابط القيمية والثقافية لأن المصلحة تخص الجميع ولكن حينما تجد التردد والارتباك من الحلفاء فإنها تتبنى رؤيتها الخاصة انطلاقاً من قناعة أن مصالح الدول تختلف وفقاً لمتغيرات وحسابات خاصة لكل دولة، وهي تعمل ذلك لقناعتين. الأولى: أنها تتبع من بداية تأسيسها ما يعرف بالتأثير بـ "القدوة الحسنة". والثانية: أنه لا يوجد إرغام لأحد على موقف معين. وفي الحالتين كان الآخرون يستنسخون تجربتها، وهنا يتضح تأثير القوة الناعمة. وحدث هذا حتى مع استضافة إكسبو 2020 دبي، فهناك في المنطقة من يسعى لتكرار استضافة إكسبو بعد الإمارات وهذا مؤشر مهم.

ويلفت الكاتب إلى أن الإمارات دولة غير صدامية وتحاول الابتعاد عن الأزمات من منطلق أن نهضتها التنموية تحتاج إلى استقرار كي تستمر بل تحاول أن تبعد نفسها عما يسبب لها المصاعب أو استثارة الآخرين لكنها في المقابل لا تتردد في مواجهة الأخطار التي يمكن أن تتعرض لها أو تخرب عليها تجربتها، مثل مواجهة تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي ومن يدعمه، وكذلك التهديد الاستراتيجي لإيران انطلاقاً من اليمن عبر "الحوثيين". وفيما يخص الإقليم بما فيه الدول العربية، لا تخفي الإمارات عدم رضاها على ما وصلت إليه الأوضاع في المنطقة من تدهور نتيجة للفراغات السياسية والأمنية، ما أدى إلى انفلات الوضع الداخلي وتغلغل دول إقليمية فيها؛ لذلك نجدها تسعى إلى تغيير الوضع الداخلي فيها من خلال دعم الدولة باعتبارها أساس العمل السياسي من أجل التغيير نحو الأفضل للشعوب والمنطقة.

ويرى الصوفي أنه بالرغم من ارتكاز استراتيجية الامارات للقوة الناعمة على مجموعة من الأفعال الإنسانية، مثل المساعدات واستضافة الجاليات والعيش بسلام وممارسة ثقافاتهم بكل حرية، فخلال الفترة الماضية وربما بعد دخول عالم الطاقة النظيفة من خلال البرنامج النووي السلمي وكذلك غزو الفضاء واستضافة هذه المهرجانات العالمية الضخمة، تبلور نوع جديد من القوة الإماراتية تعدت التأثير على الشعوب والرأي العام العالمي إلى متخذي وصانعي القرار في العالم ما دفع دولا كبرى مثل الصين والولايات المتحدة إلى عقد شراكات استراتيجية معها، باعتبارها حلقة وصل لاستراتيجيتها العالمية. كما بادرت دول إقليمية إلى استنساخ التجربة الإماراتية التي باتت تتنافس مع أرقى التجارب التنموية في العالم مثل التجربة السنغافورية.

ويتابع بإن أهداف استضافة هذه الفعاليات الكبرى تتراوح من دولة إلى أخرى، وتركز أغلبها على تحسن صورتها أمام الرأي العام العالمي، خاصة تلك الدول في منطقة الشرق الأوسط، فيما تهتم دول أخرى بإعادة إحياء مدن تاريخية معينة كما في الغرب، إلا أن أهداف الإمارات تختلف تماماً من ناحيتين: أولاهما أنها ترسل للعالم إشارات بقدرة هذه البقعة من العالم أولا على إخراج أفكار إنسانية، وثانياً استضافة فعاليات ضخمة لا تقل قيمتها عن تلك التي يتباهى بها الغرب. والناحية الثانية هي إحياء الأمل لدى الإنسان العربي الذي أرهقته الحروب والنزاعات وجعلته يفكر في الهجرة بدلا من البقاء في منطقته للاستثمار الفكري والاقتصادي فيها. 

أما في مرحلة ما بعد إكسبو-2020 دبي، فإن آليات القوة الناعمة الإماراتية ستستند على متغير جديد في التأثير عبر الإبهار في تنظيم المهرجانات الدولية الضخمة. ونعني بالمهرجانات الضخمة كل الفعاليات الرسمية أو الشعبية، مثل بطولات رياضية عالمية لأن البنية الأساسية باتت متوفرة بكل مواصفاتها: السمعة والابهار والقبول والموقع الجغرافي. فالاستعداد الخاصة باستضافة إكسبو بدءاً من المفاوضات مع الدول لاستضافتها مروراً بالبنية الأساسية، أتاح لدولة الإمارات آليات جديدة تستعمل لامتلاك قوة ناعمة متعاظمة والتحكم بالتفاعلات الإقليمية والدولية. وبالتالي إحداث تغيير وعمل فارق مع المتنافسين معها، كونها دولة مختلفة عن بقية دول منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بفضل مكانتها وتركيبتها الديمغرافية وبالتالي امتلاكها مساحة للدبلوماسية والحركة والتواصل والتأثير بشكل مختلف مع الآخرين.

ويخلص الصوفي إلى أن إكسبو دبي 2020 يتوج عدداً من الأحداث الأخرى التي تم تنظيمها في الإمارات خلال الفترة الماضية. وقد اجتمعت معاً لتفتح الطريق أمام رسم خريطة تنموية اقتصادية جديدة في الإمارات تعتمد على الأفكار الإبداعية والأعمال النوعية والمجالات الجديدة والمستحدثة مثل الذكاء الاصطناعي. 

وقد ثبتت جدوى الأساليب الجديدة في ممارسة العمل وتنظيم الأنشطة بغض النظر عن أهمية الوجود الفعلي، خاصة بعد نجاح تجربة العمل عن بعد خلال أزمة كورونا "كوفيد 19" - والتي أعطت الإمارات زخماً إعلامياً جعلها إحدى الدول القليلة في العالم التي أدارت الأزمة واستفادت منها، حيث طرحت مجموعة أفكار وأسس لنظام اقتصادي عالمي جديد، قائم على الحياة الافتراضية والقدرة على العمل من دون الوجود في مقرات العمل التي باتت تعتبر حالياً منهجية قدمية. بل إنها تضعف قوة الدولة أحياناً أكثر ما تعطيها مرونة، فالعمل حالياً يحتاج إلى وضع سياسات خاصة تتناسب ومرحلة ما بعد كورونا.

*لينك المقال في ميدل إيست أونلاين*