تدهور محتمل:

فرص نجاح سياسة أردوغان الاقتصادية في وقف الاحتجاجات

28 December 2021


شهدت تركيا احتجاجات، في 19 ديسمبر الجاري، فقد تظاهر آلاف الأتراك في أنقرة واسطنبول، استجابةً لنداء اتحاد النقابات العمالية للنزول، وذلك احتجاجاً على غلاء الأسعار وزيادة معدل الفقر وتنديداً بالسياسات الاقتصادية للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فيما طالب المتظاهرون باستقالته. 

أسباب الاحتجاجات:

تواجه حكومة أردوغان في الآونة الأخيرة تهاوياً شعبيتها بشكل كبير؛ بسبب السياسات الاقتصادية لها، وتظهر أسباب اندلاع الاحتجاجات في التالي: 

1- سياسات اقتصادية غير مفهومة: يتبع أردوغان سياسة اقتصادية غير تقليدية تتمثل في إبقاء أسعار الفائدة منخفضة، بغرض عزيز النمو الاقتصادي في تركيا وإمكانات التصدير بعملة تنافسية. وتتمثل المشكلة الأساسية في هذا المنطق في أن انخفاض أسعار الفائدة في ظل ارتفاع التضخم يُقلص القوى الشرائية للعملة التركية، أي انخفاض الدخول الحقيقية للأفراد. 

ومن جانب ثانٍ، فإن الاقتصاد التركي يعتمد بشكل كبير على الواردات لإنتاج السلع من الأغذية إلى المنسوجات، وبالتالي فإن ارتفاع الدولار مقابل الليرة سيرفع أسعار المنتجات الاستهلاكية. فعلى سبيل المثال، لزراعة وإنتاج الطماطم، التي تشكل عنصراً حيوياً في المطبخ التركي، يحتاج المزارعون إلى شراء الأسمدة والغاز المستورد لإنتاجها.

2- تردي الأوضاع الاقتصادية: لم يعد التدهور الاقتصادي في أنقرة يقتصر على الليرة التي خسرت بنسبة 58.8% من قيمتها مقابل الدولار خلال تداولات 2021، حيث يعاني الاقتصاد على كافة مستوياته، سلسلة تدهور ناجمة عن استمرار تدخل أردوغان في السياسات المالية والنقدية للبلاد. فقد انخفض صافي الاحتياطي الأجنبي في البنك المركزي التركي بمقدار 8.5 مليار دولار، في الأيام الثلاثة الأولى فقط من الأسبوع المنتهي في 25 ديسمبر.

3- تمسك أردوغان بسياساته: يسعى أردوغان إلى التأكيد على الإنجازات السابقة لحكومته الاقتصادية لتخطي الإخفاقات الحالية، فقد أكد أنه خفّض التضخم إلى 4% من قبل، كما أكد أنه سيفعل ذلك مجدداً عما قريب، وأشار إلى نجاح حكومته في خفض ديون البلاد لصندوق النقد الدولي منذ وصوله للسلطة، وارتفاع احتياطي النقد الأجنبي في فترة رئاسته للوزراء (2002 – 2014) إلى 135 مليار دولار، وذلك قبل أن تصل مؤخراً في نوفمبر الماضي إلى 125 مليار دولار. 

وتتمثل المشكلة الأساسية في إصرار أردوغان على الاستمرار في تنفيذ سياسته الاقتصادية؛ فقد أعلن في 20 ديسمبر الجاري، عن خطة جديدة لإنقاذ الليرة التركية، والتي بموجبها ستعوِّض الحكومة التركية حاملي الودائع بالليرة، كلما تجاوز انخفاض قيمة العملة سعر الفائدة الذي تقدمه بنوكهم، فيما أعلن في 16 ديسمبر، رفع الحد الأدنى من الرواتب والأجور في تركيا لعام 2022 بنسبة 50%.

تحديات متصاعدة:

على الرغم من أن الموجة الأخيرة من الاحتجاجات ضد أردوغان كانت اقتصادية بالأساس، فإن هذا لا ينفي أن البلاد تشهد مرحلة من عدم الاستقرار، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي: 

1- تصاعد الاحتجاجات الفئوية: تظاهر مئات الأتراك نهاية نوفمبر، ضد خروج أنقرة من اتفاقية حماية المرأة من العنف، فيما خرج آلاف العاملين في الدولة التركية، اعتراضاً على تدني الخدمات الاجتماعية المقدمة للمواطنين.

كما نظمت خمس نقابات تركية للرعاية الصحية تمثل أكثر من 250 ألف عامل صحي وطبيب وعاملين طبيين إضراباً ليوم واحد، في 15 ديسمبر الجاري، احتجاجاً على تدني الأجور وظروف العمل القاسية وسط انهيار العملة، مؤكدين أن الإضرابات ستستمر والاستقالات من المستشفيات العامة ستزداد خلال الفترة القادمة، وقاموا بدعوة الحكومة إلى الاستقالة.

2- استمرار القمع لحكومة أردوغان: أعلنت الحكومة التركية حالة الطوارئ في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان في عام 2016، ونفذت عملية تطهير واسعة النطاق في مؤسسات الدولة بحجة مكافحة الانقلاب، فيما لا تزال أنقرة تقوض الحريات العامة وتتعقب أصحاب الرأي والمعارضين. وبلغت حصيلة الاعتقالات في تركيا خلال الأسبوع المنتهي في 17 ديسمبر الجاري، نحو 176 شخصاً، وذلك بتهمة الإرهاب، التي لطالما أعلنت واشنطن أنها تهمة تستخدم بشكل واسع في تركيا. 

3- الدعوة لانتخابات مبكرة: تصاعدت الدعوات التركية بإسقاط أردوغان وإجراء انتخابات مبكرة. فقد جدد زعيم المعارضة، رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، في 18 ديسمبر، مطالبته بالتوجه إلى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة في أسرع وقت، محذراً من وقوع فوضى في البلاد، إذا استمر الصمت على انهيار الاقتصاد. 

وحذر رئيس حزب "الديمقراطية والتقدم" المعارض، علي باباجان، من انتشار الفقر بشكل أكبر بسبب الأزمة الناجمة عن انخفاض قيمة الليرة وزيادة التضخم، مشدداً على أنه يتعين إجراء انتخابات مبكرة على الفور للخروج من الأزمة الاقتصادية، فيما توقع إمام أوغلو، رئيس بلدية اسطنبول منذ عام 2019 بأن حكومة أردوغان تقترب من نهايتها.

تداعيات ممتدة:

يتوقع في حالة استمرار إصرار أردوغان على سياسته الحالية وإخفاقها في انتعاش الاقتصاد التركي أن يترتب على ذلك تداعيات مباشرة عليه، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1- تراجع شعبية أردوغان: من المرجح أن ينجم عن استمرار أردوغان في سياسته الاقتصادية أن تتراجع شعبيته، بما يفتح الباب أمام هزيمته في الانتخابات القادمة، الرئاسية والبرلمانية، على حد سواء. وأشار تقرير لوكالة رويترز مؤخراً إلى أن خصوم أردوغان أصبحوا في وضع أقوى الآن، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن ثلاثة منافسين محتملين له، من بينهما رئيسا بلدية اسطنبول وأنقرة، وكلاهما من حزب الشعب الجمهوري المعارض. 

ومن جهة ثانية، سوف يواجه حزب أردوغان، لأول مرة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، حزبين معارضين منشقين عن حزب العدالة والتنمية، وهما حزب المستقبل، وحزب الديمقراطية والتقدم، وجميعهم لديهم فرصة للإطاحة بأردوغان حال تحقق سباق نزيه للانتخابات.

2- استمرار تدهور الليرة التركية: ترجح تقديرات أن السياسات الاقتصادية الجديدة لأردوغان لن تنجح وستستمر الاحتجاجات ضده. ويرى الاقتصاديون أن خطة الإنقاذ الجديدة لأردوغان سوف تنجح على المدى القصير، إذ استعادت الليرة بعضاً من خسائرها؛ حيث ارتفعت قيمتها مقابل الدولار خلال الأيام التالية للإعلان عن الخطة الجديدة لأردوغان، لتصل إلى 11.40 ليرة للدولار الواحد في 24 ديسمبر، وذلك بعد أن كانت سجلت في 17 ديسمبر أكثر من 17 ليرة مقابل الدولار الواحد. ومع ذلك، لا تزال العملة منخفضة بأكثر من 40% مقابل الدولار منذ بداية هذا العام وحتى الآن.

أما على المدى الطويل، فإن هذه السياسة سوف تتسبب في أزمة اقتصادية عميقة، فبموجب خطة الادخار التي أعلنها أردوغان، ستضمن الحكومة عوائد على الودائع بالليرة بمعدل مماثل لما قد تكسبه من الاحتفاظ بالعملة الأجنبية، وذلك لتعويض أي انخفاض إضافي في قيمة الدولار، وفي المقابل، سيتعين على الأتراك الاحتفاظ بالليرة الخاصة بهم في البنك لمدة 3 أو 6 أو 9 أو 12 شهراً، على غرار شهادة الإيداع. 

فبموجب الخطة الجديدة، ستعوض الحكومة التركية حاملي الودائع بالليرة كلما تجاوز انخفاض قيمة العملة سعر الفائدة الذي تقدمه بنوكهم. وعلى سبيل المثال، إذا تراجعت الليرة بنسبة 30% مقابل الدولار في عام واحد، فإن صاحب حساب بالليرة في بنك بمعدل فائدة 14% سيحصل على الفارق من البنك المركزي التركي، وبمعنى آخر فإن الحكومة التركية تضمن حصول المودعين على عوائد أموالهم بالبنوك، وفق سعر الفائدة الحقيقي وليس الاسمي.

 ويعني ما سبق أن العبء على الخزانة سوف يتزايد، وسيكون دافعو الضرائب الأتراك هم من يتحملون مخاطر التقلبات الشديدة في سعر الصرف، أي سيتم تحميل تكلفة انخفاض قيمة الليرة للمجتمع ككل. 

ومن جهة ثانية، فقد أعلنت الحكومة التركية زيادة الحد الأدنى من الرواتب والأجور في تركيا لعام 2022 بنسبة 50%، وهو الأمر الذي ليس فقط سوف يثقل كاهل المالية العامة، ولكن سوف تترتب عليه زيادة السيولة بالسوق، ومما قد يزيد نسبياً الضغوط التضخمية في البلاد. بالإضافة لما سبق، ليس مؤكداً، أن تُثمر سياسية خفض سعر الفائدة في تنشيط الاستثمارات أو زيادة فرص العمل، في ظل حالة اللايقين التي يعانيها الاقتصاد التركي. 

وفي التقدير، فإنه من المرجح استمرار الاحتجاجات في تركيا، لاستمرار تدني الأوضاع الاقتصادية للأتراك، حيث إن خطة أردوغان الجديدة، تغامر باحتمالية جعل الأمور أسوأ، فأي انخفاض كبير آخر في قيمة الليرة، يعني أن البنك المركزي قد ينتهي به الأمر إلى عدم وجود خيار سوى طباعة النقود لتعويض المودعين بالليرة، بما سيؤدي إلى انهيار كامل للاقتصاد التركي، الذي سيتمخض عنه تراجع شعبية أردوغان وخروجه وحزبه من المشهد السياسي.