الفجوة المدنية ـ العسكرية:

أزمات متنوعة في سياسات الدفاع الأمريكية

19 February 2015


إعداد: مروة صبحي

نشرت مجلة The Atlantic الأمريكية في عددها الأخير الصادر في يناير 2015 دراسة بعنوان: "مأساة الجيش الأمريكي"، وهي الدراسة التي أعدها جيمس فالوز James Fallows الكاتب المعروف والمراسل في مجلة "ذا أتلانتيك".

وينطلق "جيمس فالوز" من نقطة رئيسية مفادها أن "الجنود الأمريكيين لا يزالون يخسرون"، إذ يؤكد أن ثمة أزمات متنوعة بات الجيش الأمريكي يعاني منها، بدءاً من طبيعة الجيش الانعزالية عن مجتمعه واتساع الفجوة بينهما, إلى التطوير غير المنتظم للأسلحة, والنفقات العسكرية الجنونية بدون رقابة شعبية وسياسية.

أزمة جيش بلا شعب "Chickenhawk Nation"

يفترض "جيمس فالوز" أنه إذا تمت إعادة كتابة تاريخ الجيش الأمريكي حالياً، فسيُطلق عليه مصطلح Chickenhawk Nation , وهي صفة غرضها السخرية من المدنيين الذين يؤيدون خوض بلادهم الحروب طالما شخص آخر هو من يذهب بدلاً منهم للحرب. ويشير المصطلح إلى واقع الفجوة بين المدنيين والعسكريين التي يعاني منها المجتمع الأمريكي، والتي يصفها الكاتب بأنها "أزمة مجتمع مُستعد لفعل أي شئ لجيشه باستثناء أن يشارك في الخدمة العسكرية".

ويدلل الكاتب على ذلك بالقول إنه "مع نهاية الحرب العالمية الثانية, كان ما يقرب من 10% من مجمل سكان الولايات المتحدة يرتدون الزي العسكري في ساحات القتال, لكن مع دخول واشنطن حروباً متواصلة خلال الثلاثة عشر سنة الأخيرة في العراق وأفغانستان، شارك نحو 1% فقط في تلك الحروب".

وتتطرق الدراسة إلى الحديث عن الثقافة الأمنية في الولايات المتحدة، مؤكدةً أنها تنبع من تبجيل الأمريكيين للمؤسسة العسكرية أكثر من أي مؤسسة أخرى خاصةً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ففي استطلاع أجرته مؤسسة جالوب الصيف الماضي, أعرب 75% من الجمهور المستطلعة آراؤه عن ثقته بالجيش, بينما وثق 20% فقط في النظام الصحي, و7% فقط أعطوا ثقتهم للكونجرس.

ومن الملفت للانتباه كذلك في السياسة الأمريكية ندرة المساءلة بشأن قرارت الحروب الحديثة، حيث يتلخص موقف مؤسسات الرقابة المدنية مثل الكونجرس والرقابة المجتمعية على المؤسسة العسكرية في جملة: "إننا نحب الجيش, ولكننا لا نحب الحديث عنه", وهو ما يعكس حالة انعزالية الجيش الأمريكي.

وتبرز الدراسة في هذا السياق ما كتبه الجنرال المتقاعد "تشارلز دونلاب", في مقاله المعنون "The Origins of The American Military Coup of 2012"، والذي حذر فيه من تراجع الثقة العامة في مؤسسات الدولة الأخرى؛ مما يزيد من السيطرة غير المباشرة لجنرالات الجيش على العملية السياسية، كما حذر مما أطلق عليه "القبيلة العسكرية", والتي أصبحت واقعاً فعلياً, إذ يعني أن أغلب الجنود المنضمين إلى الجيش الأمريكى يأتون من عائلات معروفة، وهذا الأمر صار تقليداً عائلياً يخالف المبادئ الديمقراطية.

الفجوة بين النفقات العسكرية والنتائج

يشير الكاتب إلى أنه رغم كون الجيش الأمريكي من أفضل الجيوش تجهيزاً وتدريباً وتنظيماً, بيد أنه يتلقى خسائر من خصوم أقل منه تجهيزاً وقدرة قتالية. وبالرغم من عدم الاتفاق على رقم دقيق للإنفاق العسكري، فإن ما يقرب من 1.5 تريليون دولار كانت تكلفة الحرب في العراق وأفغانستان لمدة 12 عاماً. وقد قدرت "ليندا بيلمز" من كلية كيندي بجامعة هارفارد مؤخراً أن هذه التكلفة الإجمالية الفعلية قد تزيد على الرقم المشار إليه ثلاثة أو أربعة أضعاف.

وعند تقييم النتائج التي حققها الجيش الأمريكي من منظور استراتيجي, تنقل الدراسة عن "جيم جورلي" ضابط سابق في المخابرات العسكرية قوله: "إن الجيش الأمريكي قد فشل في تحقيق أي أهداف استراتيجية في العراق".

وتضيف الدراسة أنه خلال حروبها الأخيرة المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط, لم تحقق الولايات المتحدة إلا انتصاراً واحداً في أطول حرب خاضتها في تاريخها الحديث، وهي المداهمة العسكرية التي أدت إلى قتل بن لادن. ولفتت إلى أنه حتى على مستوى بعض الانتصارات التكتيكية (مثل إسقاط صدام حسين) لم يتحقق الاستقرار في البلاد التي دخلتها القوات الأمريكية, ولم تعزز من مصالحها في المنطقة عموماً.

وفي هذا الصدد، يرى الكاتب أن عزل الجيش عن مجتمعه يحول دون التعلم من أخطاء المؤسسة العسكرية في الحروب السابقة، فالجيش قد يُتنقد من خلال أعضاءه أو من الساسة, ولكنها انتقادات خاصةً وغير مسموعة, وهي ليست بذات الطريقة التي يتحدثون بها علناً عن أبطال الجيش.

وفي السياق ذاته, كتب وليام ليند - المؤرخ العسكري الذي ساهم في تطوير مفهوم "حروب الجيل الرابع" خلال تسعينيات القرن الماضي-  قائلاً: "في الآونة الأخيرة.. الشي الأكثر غرابة عن هزائمنا في الصومال والعراق وأفغانستان، هو الصمت التام بين ضباط الجيش الأمريكي، إذ لا يُسمع صوت عسكري يدعو إلى تغيير جوهري مدروس، ولكن يطلب فحسب المزيد من المال".

ولهذا لا يقابل ارتفاع تكلفة الدفاع أي معارضة سياسية أو مناقشة عامة تُذكر، ويكفي القول إن ثمة توقعات بأن يبلغ مجموع الإنفاق الأمريكي على الأمن القومي هذا العام أكثر من تريليون دولار، وسيرتفع مجموع الإنفاق العسكرى أكثر من 50% مما كانت تنفقه واشنطن خلال سنوات الحرب الباردة وحرب فيتنام. ويشمل ذلك حوالى 580 مليار دولار في الميزانية الأساسية للبنتاجون, بالإضافة إلى 20 مليار دولار تكلفة المعاشات العسكريين المتقاعدين, ووزارة شؤون المحاربين القدامى, وغيرها من النفقات.

ويعكس ذلك هذا الأمر خللاً في عملية وضع ميزانية الدفاع, إذ إنه حتى مع ارتفاع مستويات النفقات العسكرية, يواجه البنتاجون أزمات متزامنة في التدريب والتمويل والمعاشات ورعاية قدامى المحاربين. ومثال على ذلك الخلل, ارتفاع الإنفاق على التكنولوجيا العسكرية بما لا يتوافق مع قيمة هذة المعدات على واقع الحرب، كما يبرز في مشروع إنتاج طائرة F-35، إذ كان من المفترض أن تنتج الولايات المتحدة قذائف عسكرية هي الأقوى, لكن المشروع انتهى بمشكلات في التصميم والتشغيل والإطلاق, مما حمَّل دافعي الضرائب الأمريكيين خسائر تقدر بحوالى تريليون ونصف التريليون دولار، أي ما يعادل تكلفة الحرب على العراق.

أزمة العلاقات المدنية - العسكرية الأمريكية

يزعم الساسة أن الأمن القومي هو أولى واجباتهم المقدسة, ولكنهم عادة لا يتصرفون وفقاً لذلك. وبطبيعة الحال يتم تمرير ميزانية الدفاع الأمريكية بدون أى نقاش يُذكر حولها, وذلك ما حدث عند تمرير ميزانية الدفاع الأخيرة بمجلس النواب.

وقد طلب الرئيس باراك أوباما عام 2011 من أكثر أعضاء الحزب الديمقراطى خبرة في شؤون إصلاح المؤسسة العسكرية "جاري هارت"، تشكيل فريق من خبراء عسكريين لإعداد تقرير سري يُرفع إليه، متضمناً توصيات بشأن كيفية ترتيب أوضاع البنتاجون وإصلاح سياساته إذا فاز بولاية ثانية في الانتخابات. وهنا تؤكد الدراسة أنه كثيراً ما يُعرض على البيت الأبيض توصيات، ولكنه لا يستجيب إلا للتوصيات التي يعتبرها أكثر إلحاحاً, والتي يعتبر قضية إصلاح الدفاع من ضمنها.

كما يشير "جيم ويب", من قدامى المحاربين في فيتنام ونائب ديمقراطي سابق, إلى أن العديد من الجنرالات المتقاعدين يتم توظيفهم في شركات الصناعات العسكرية، ليصبحوا بمثابة جماعة ضغط على وزارة الدفاع، تضغط من أجل العديد من القضايا الذين كانوا مسؤولين عنها حينما كانوا لا يزالون فى الخدمة العسكرية، وذلك ما يطلق عليه "سياسة الباب الدوار" The Revolving Door (يُستخدم هذا المصطلح لوصف الأشخاص الذين يبدلون مناصبهم، والمشاركة في جماعات الضغط).

ويرتبط ذلك بما حذر منه الرئيس الأمريكى ذو الخلفية العسكرية "أيزنهاور" في ستينيات القرن الماضي، مما أسماه "المركب العسكري الصناعي"، حيث اعتبر أن المال والسياسة سيفسدان الجيش، والعكس صحيح. ويبدو أن ما حذر منه "أيزنهاور" قد أصبح اليوم واقعاً محتوماً، إذ تقوم العلاقة بين الجيش وأصحاب الصناعات العسكرية والكونجرس على صفقة متبادلة تتشابك خيوطها بين الأطراف الثلاثة.

ختاماً، تبرز الدراسة ثلاث توصيات تنصح بأخذها في الاعتبار لإصلاح سياسات الدفاع الأمريكية، وهي:

1- تعيين لجنة لتقييم الحروب طويلة الأجل: وذلك بهدف استخلاص الدروس المستفادة من الحروب في أفغانستان والعراق بشأن الطبيعة غير النظامية للصراع هناك, وتقييم هياكل القيادة, وفعالية العمليات الاستخباراتية, وتدريب القوات المحلية, وأداء الوحدات القتالية، وستعزز تلك اللجنة من قدرات الجيش الأمريكي في تحديد متى وأين وكيف تبدأ التدخلات المستقبلية.

2- توضيح عملية صنع القرار فيما يتعلق باستخدام القوة: فمثل هذة القرارات الحاسمة ينبغي أن تتم بطريقة منهجية من قبل السلطة المختصة، واستناداً لفهم المصالح الأمريكية على أساس حقائق القرن الحادي والعشرين.

3- استعادة العلاقات المدنية - العسكرية: إذ يجب على الرئيس بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة, القيام بمهمته في شرح دور الجندي للمواطن, وبالعكس، وذلك بعد أن أصبحت العلاقة التقليدية بين الجيش والمدنيين متوترة وغير محددة، وأضحت الهياكل والمؤسسات العسكرية تبتعد أكثر عن المجتمع المنوطة بحمايته, وبالتالي يجب إيجاد السبل لتحقيق التناغم بين المجتمع والقوة العسكرية التي تحميه.

تعقيب على الدراسة

دحض "جيمس جيفري" السفير الأمريكى السابق في العراق, مقولة "جيمس فالوز" بشأن خسارة الجيش الأمريكي. وتستند جحة "جيفري" الأساسية في طرح تعريف مخالف لتعريف "فالوز" عن الانتصار، إذ يرى "جيفري" أن الفوز أو الانتصار هو: "إجبار الجانب الآخر على وقف جميع عملياته العسكرية أو معظمها وكسب القيادة على الأرض المعنية"، وهو بذلك يعتبر أن الجيش الأمريكي قد فاز في جميع حملاته من منظور عسكري منذ الحرب العالمية الثانية باستثناء هجوم عام 1950 على كوريا, ومعركتين صغيرتين في بيروت 1983, والصومال 1993.

وفي هذا الصدد، يؤكد "جيفري" أنه مع الاعتراف ببعض إخفاقات الجيش الأمريكي، فإنه ليس وحده المسؤول عنها, بل إن المسؤولية تقع على عاتق رؤساء الولايات المتحدة؛ وبالتالي, يعتبر أن الفشل الذي لحق بالجيش الأمريكي ربما يكون ناجماً عن تعريف القيادة السياسية الخاطئ للنصر، إذ إنها قد وضعت أهدافاً غير عسكرية شبه مستحيلة أرادت تحقيقها عن طريق الوسائل العسكرية, وهي إصلاح المجتمعات المستهدفة وتشكيلها طبقاً للنمط الأمريكي، مع عدم تخصيص القيادة للموارد الكافية لزيادة فرص تحقيق هذه الأهداف.

ويبدو أن "جيفري" قد أثبت صحة حجج "فالوز" عن غير قصد، إذ إنه قد وقع في فخ تمجيد الجيش الأمريكى وتنزيهه عن أي أخطاء, بل وتبرير إخفاقاته.

* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "مأساة الجيش الأمريكي"، والمنشورة عن مجلة "ذا أتلانتيك" الأمريكية في يناير 2015.

المصدر:

James Fallows, The Tragedy of the American Military (Washington, The Atlantic, January/ February 2015).