Ungoverned Spaces:

استراتيجيات التعامل مع المناطق غير المحكومة

21 January 2015


إعداد: إسراء إسماعيل

نشر معهد "كاتو" الأمريكي، دراسة في شهر ديسمبر 2014، بعنوان: "وهم الفوضى.. لماذا تعتبر المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومات غير محكومة، وما أهمية ذلك؟"، للباحثة بالمعهد "جنيفر كيستر" Keister Jennifer، يتناول تعريف المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومات، والمفاهيم الخاطئة بشأنها، وأسباب خروجها عن السيطرة، والسياسات المقترحة للتعامل معها، وأبرز التحديات التي تعيق هذه السياسات.

وتعني "المناطق الخارجة عن السيطرة" Ungoverned Spaces، تلك التي تتسم بوجود سيطرة حكومية محدودة أو غير مكتملة داخل الدولة، إلا أن هذه المناطق وإن كانت لا تخضع لسيطرة الحكومات، فهي تخضع لسيطرة جهات أخرى غير حكومية. وتتصاعد المخاوف من هذه المناطق خشيةً من أن تتسبب في ظهور جهات فاعلة غير حكومية تتبنى العنف  violent non-state actors، وتؤثر سلباً على المصالح السياسية الأمريكية، أو قد تتسبب في تعطيل حركة التجارة العالمية، أو تعيق الوصول إلى الموارد الطبيعية الحيوية، أو تتسبب في انتشار الاضطرابات، كما أنها قد توفر مأوى للإرهابيين، علاوة على إمكانية تحالفهم مع المهربين.

الدول الضعيفة والمناطق غير المحكومة

دفعت الانتقادات التي أُثيرت حول الصلة بين الدول الفاشلة والتهديدات الأمنية، إلى إعادة صياغة مفهوم "الدولة الفاشلة"، وبدلاً من تصنيف الدول بشكل ثنائي ينحصر بين الفشل من عدمه، تطور التصنيف ليشمل: "هشاشة" Fragility و"ضعف" weakness و"عدم استقرار" Instability.

كما تم توجيه النقد أيضاً للربط بين فشل الدولة والجماعات التي تتبنى العنف، حيث إن هذه الجماعات قد ترى أن وجود درجة معينة من سيادة القانون، وتوفُر قدر ما من البنية التحتية، يقع في صالحها ويسهل عملياتها، بشكل أفضل من الفوضى التي قد تسببها الدولة الفاشلة، أي أنها قد تفضل الدول الضعيفة وليس الفاشلة.

كما تحول النقاش أيضاً من التركيز على مناطق داخل الدول بدلاً من بلدان بأكملها، وغالباً ما تقع هذه المناطق داخل الدول الضعيفة، وتنطلق هذه المخاوف نفسها على مناطق أصغر تسمى "الدول غير المعترف بها" States Unrecognized.

وتوضح الكاتبة أن الغرب يفضل نوعاً ودرجة معينة من التسلسل الهرمي داخل الدول، يتفق مع مفهوم السيادة بالمعنى "الويستفالي" Westphalian، بحيث تكون سلطة الحكومات نهائية وغير قابلة للتجزئة داخل أراضيها المُعترف بها قانوناً. ونظراً للجدل حول تقسيم السلطة ضمن فروع ومستويات الحكومة، وبين الدولة والمجتمع؛ يلجأ معظم المحللون إلى مفهوم الدولة وفقاً لـ"ماكس فيبر" بأنها تعني "احتكار الاستخدام المشروع للقوة" داخل منطقة محددة. وهذه التفضيلات الغربية لمفهوم الدولة ترتبط بمواجهة التهديدات الأساسية المتعلقة بأمن الولايات المتحدة، والتي تتمثل في الانحرافات عن هذا الشكل المفضل.

مفهوم خاطئ حول المناطق غير الخاضعة للحكومات

ترى الدراسة أن وجود مناطق غير خاضعة لسيطرة الحكومة في أي دولة لا يعني أنها غير خاضعة للحكم بشكل مطلق، ولكنها محكومة بشكل مختلف عن طريق جهات فاعلة أخرى في الدولة، مثل: النخب التقليدية أو الدينية، وأُمراء الحروب، والجماعات المتمردة. وترتبط هذه السلطات البديلة بنوعين من التهديدات:

1- تتيح إمكانية دخول العصابات والإرهابيين وزعماء الحروب والمتمردين، وممارسة أنشطتهم الإجرامية داخل الدولة، مما يتسبب في عدم الاستقرار وانتشار العنف. والأمثلة على ذلك عديدة منها: نشاط حركة طالبان في أجزاء من أفغانستان وباكستان، وسيطرة تنظيم (داعش) على العديد من المناطق في سوريا والعراق.

2- الانحراف عن الشكل الغربي المُفضل، وهو ما يمكن أن يحد من قدرة واشنطن على التصدي للتهديدات الناجمة عن ذلك، حيث يصبح من الصعب استخدام أساليب الردع أو حتى اتباع الطرق الدبلوماسية مع المتحكمين في هذه المناطق، نظراً لكونهم يعملون خارج الإطار القانوني الرسمي، الأمر الذي يقود بدوره إلى ضعف مصداقية الاتفاقات التي يتم التفاوض بشأنها.

أسباب خروج بعض المناطق عن السيطرة

قد تفتقر الدول للقدرات والموارد اللازمة لفرض سيطرتها على كامل أراضيها، ولكن هذا الافتقار ناتج أيضاً عن قرار يتمثل في اختيار تكريس الموارد لأولويات ومناطق أخرى، مما يعني أن خروج بعض المناطق عن السيطرة ليس ناتجاً فقط عن عدم المقدرة، ولكن مرده كذلك افتقاد الإرادة.

وتحدد الدراسة أسباب ترك بعض الحكومات لمناطق خارج سيطرتها، في الآتي:

1- قد تكون العائدات من وراء فرض السيطرة على مناطق معينة منخفضة جداً، حيث ترغب بعض الحكومات في السيطرة على المناطق عندما تكون مصدراً لتوسيع القاعدة الضريبية أو الوصول إلى موارد أخرى.

2- قد تكون تكلفة بسط السيطرة على بعض المناطق مرتفعة، نظراً لأنها قد تتضمن مقاومة الجهات غير الحكومية القائمة، الأمر الذي يستدعي القيام بحملة عسكرية مُكلفة.

3- قد يعمل إخضاع هذه المناطق على تخفيف حدة بعض المخاطر، ولكنه من ناحية أخرى قد يتسبب في إثارة تهديدات أخرى كبيرة.

حلول سياسية

إن الحل السياسي للمناطق الخارجة عن سيطرة الحكومات يتمثل في محاولة بسط سيطرة الدولة في هذه المناطق، عبر توفير الحكومة للخدمات لهذه المناطق، والتمثيل السياسي العادل. وفي هذا الإطار تشير الكاتبة إلى ثلاثة خيارات:

1- بمقدور صُناع القرار السعي إلى استبدال أو إصلاح Replace or Reform النظام القائم واستيعاب المنطقة داخل الدولة، وهذه الجهود غالباً ما تعتمد بشكل كبير على استخدام القوة. فعلى سبيل المثال، قدمت الولايات المتحدة الدعم لكل من كينيا وإثيوبيا وقوات الاتحاد الأفريقي للقضاء على حركة الشباب في الصومال.

2- منافسة الحكام القائمين Out-compete، والسعي لكسب الولاء المحلي من خلال إقناع المواطنين بفكرة أن الانضمام للدولة يعد خياراً مفيداً. فعلى سبيل المثال، قامت الحكومة الباكستانية باتباع سياسة "الاختراق السلمي" لقبائل البشتون في الفترة من 1951– 1955، و1972 - 1977، حيث قدمت لهم مجموعة متنوعة من مشاريع التنمية، وتجنبت المواجهة مع السلطات القائمة، بهدف إظهار مزايا توطيد العلاقات مع الحكومة.

3- يمكن للدولة أن تعمل على استقطاب co-opt هياكل السلطات البديلة واستمالتها، بحيث يتم الاتفاق معها، بدلاً من توسيع نظام الحكم المركزي بشكل مباشر. ويأتي هذا النوع من بسط السيطرة تحت العديد من المسميات مثل: "الحكم غير المباشر" أو "الحكم بالوكالة". ومن أبرز الأمثلة على ذلك سيطرة القوى الاستعمارية قديماً، خاصة البريطانية، على مستعمراتها، بالاعتماد على الزعماء التقليديين.

وتشير الدراسة إلى أن الكثير من الجهود تجمع بين السياسات الثلاث السابقة، وإن كان النهجان الأول والثاني يواجهان تحديات عديدة، أما النهج الأخير فهو يحاول تلافي هذه المشاكل.

وتتمثل المشاكل التي تواجه "سياسة الاستبدال أو الإصلاح"، و"سياسة منافسة السلطات القائمة"، في التحديات التالية:

1- قد تتحمل السلطات البديلة تكاليف أقل وفوائد أعلى من تلك التي قد تتحملها الحكومة الرسمية للدولة، كما قد تواجه السلطات البديلة مقاومة أقل من السكان المحليين، مما يعمل على تخفيض تكاليف الحكم. ومثال على ذلك، أنه على الرغم من دعم واشنطن والأمم المتحدة للحكومة الاتحادية الانتقالية في الصومال، إلا أنها واجهت مقاومة كبيرة من الصوماليين. وعلاوة على ذلك، قد يكون للسلطات البديلة طرق أفضل أو أرخص في الوصول إلى المعلومات المجتمعية اللازمة لممارسة الحكم أكثر من السلطات الرسمية للبلاد.

2- قد يتمتع وضع المناطق غير الخاضعة للسيطرة الحكومية بالاستقرار النسبي، من حيث حفاظ القائمين على الحكم فيها على مصالحهم الخاصة، أو تمكنهم من إدارة مخاطر العنف الذي قد ينتج عن منافسة النخبة. ومن ثمّ فإن تطبيق "سياسة الاستبدال" أو "منافسة السلطات البديلة" قد يؤدي إلى وقوع اضطرابات تتسبب في حالة من عدم اليقين السياسي التي قد تدفع "سماسرة السلطة" إلى الصراع فيما بينهم، كما أن التغيير قد يهدد مصالح المنتفعين سياسياً واقتصادياً من الوضع القائم، الأمر الذي قد يدفعهم إلى تكوين جماعات تتبنى العنف للدفاع عن مصالحهم.

3- قد تُولَد المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومات بسبب صفقات بين السلطات البديلة والحكومات الرسمية، بحيث يتم التوصل لترتيبات تحد من التهديدات التي تشكلها السلطات البديلة للدولة، من خلال إيجاد تصورات مشتركة حول الحدود الجغرافية والعلاقات السياسية والاقتصادية. وفي ظل هذه الظروف، فإن السياسات التي تهدف إلى دمج المناطق غير الخاضعة للسيطرة الحكومية قد تؤدي إلى فقدان سيطرة الدولة على وكلائها، أو تلهم مقاومة أولئك الذين يعتمدون على العنف لتحقيق أهدافهم.

"سياسة الاستقطاب" ومشاكلها

تعمل "سياسة الاستقطاب" على تجنب العديد من التكاليف والمخاطر السابقة، فمن خلال البناء على هياكل السلطة القائمة واستمالتها، يمكن تسخير الفوائد التي تتمتع بها، كما يمكن أن تعمل السلطات البديلة في هذه الحالة على تخفيض حجم المقاومة ضد السلطات الرسمية. ولكن حتى "سياسة الاستقطاب" تواجه العديد من المخاطر:

1- في حين أنها لا تشكل تحدياً كبيراً للمصالح الخاصة كما هي الحال بالنسبة للسياسات السابقة، إلا أن "الاستقطاب" قد يؤدي إلى تفضيل بعض الأجهزة المحلية عن غيرها أو الجهات الفاعلة عن غيرها من المنافسين، مما يهدد مصالح هؤلاء الذين لم يتم اختيارهم، ويقود إلى حالة من عدم اليقين والصراع.

2- قد لا تكون المؤسسات أو الجهات التي تم استقطابها من قِبل الحكومة، قادرة على الإدارة وحل جميع المشكلات القائمة.

3- قد تتسبب "سياسة الاستقطاب" في زيادة تمكين الفاعلين المحليين إلى الحد الذي يقود إلى تراجعهم عن الاتفاقات التي تم إبرامها مع الدولة، أو يؤدي إلى خروجهم عن السيطرة.

4- اختيار شركاء محليين لاستمالتهم يتطلب معلومات دقيقة وتفصيلية حول اللاعبين المحليين الرئيسيين، ومصالحهم ونواياهم، وإمكانياتهم، لكن مشكلات رصد وفهم المناطق غير الخاضعة للسيطرة الحكومية يجعل من الصعوبة بمكان الحصول على مثل هذه المعلومات؛ الأمر الذي قد يقود إلى استقطاب جهات غير فعالة أو تؤدي عملها بطرق غير شرعية. كما أن سعي الغرب وتفضيله لنظام وهيكل إداري معين قد يدفعه لاستقطاب شركاء يميلون إلى النمط الغربي، ولكن من دون أن يتمكنوا من تحقيق النتائج المرجوة.

ختاماً، تتساءل الكاتبة هل يُقدِّر صناع القرار عند صياغة السياسات تجاه المناطق غير الخاضعة للسيطرة الحكومية، التكاليف الاقتصادية والمخاطر السياسية المحتملة من جراء إخضاعها لسيطرة الدولة؟ مؤكدةً أنه يتعين على صُناع القرار عدم الضغط على الدول لاستيعاب هذه المناطق، مضيفةً أنه كلما زاد مستوى التهديد الذي يرونه والمنبثق عن المناطق الخارجة عن السيطرة الحكومية، كلما زاد تبنيهم لسياسات تعمل على إدراجها وإخضاعها للسيطرة، حتى لو كان لهذه السياسات تكاليف سياسية واقتصادية كبيرة ونتائج غير محددة.

** عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "وهم الفوضى .. لماذا تعتبر المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومات غير محكومة وما أهمية ذلك؟"، والصادرة في شهر ديسمبر 2014، عن معهد "كاتو" وهو مركز فكر أمريكي.

المصدر:

Jennifer Keister, The Illusion of Chaos: Why Ungoverned Spaces Aren’t Ungoverned, and Why That Matters (Washington, Cato Institute, December 2014).