قيود التطوير:

أثر تكلفة الأفراد العسكريين على قوة المنافسة الأمريكية

30 September 2021


عرض: عبدالمنعم محمد

في إطار المسعى الأمريكي المستمر من إدارة ترامب إلى بايدن لمراجعة الوجود العسكري الخارجي، على أساس تقييم التكلفة والعائد، تشهد المرحلة الراهنة تراجعاً غير مسبوق في قواتها العسكرية خارجياً، كما برز في الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان، مع ذلك، ظلت تكلفة الأفراد العسكريين مرتفعة، ما قد يؤثر على الموارد المتعلقة بتحديث وزارة الدفاع والتأثير على استدامة القوة العسكرية على المدى الطويل.

 لذلك، يُسلط الكاتب شيموس بي دانيلز، في دراسته الضوء على تقييم اتجاهات تكلفة الأفراد العسكريين "Assessing Trends in Military Personnel Costs"، حيث ينظر لها كورقة ضاغطة على ميزانية وزارة الدفاع وقدرتها على مواجهة المنافسة المتصاعدة مع روسيا والصين، إذ يحلل الكاتب أبعاد هذه التكلفة وملامحها وتطورها في ميزانيات وزارة الدفاع، ثم يطرح مداخل لإعادة النظر في تلك التكاليف في ضوء التحولات الجديدة في ضبط الانتشار العسكري الخارجي.

معادلة عكسية:

شهد الانتشار العسكري الأمريكي مؤخراً تقلصاً كبيراً بنسبة 64%، مقارنة بما كان عليه الوضع إبان الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في السنة المالية 1952، بيد أن إجمالي تكلفة طاقم الأفراد العسكريين ارتفع بنسبة 110% بالقيمة الحقيقية، وقد بلغت ذروة تلك الزيادة في السنة المالية 2010. هذا الارتفاع في التكلفة برز بصورة كبيرة بين العامين الماليين 2000 و2012؛ ليصل متوسط التكلفة لكل فرد بالخدمة العسكرية بنحو 64% في ضوء اعتبارات التضخم ومعدلات النمو السنوي، بينما بلغ حجم الزيادة بين السنة المالية 1985 وصولاً للسنة المالية 2000، حوالي 2.2%. تلك المعادلة العكسية بين تقليل الانتشار العسكري وارتفاع تكلفة الخدمة تعود لعدة أسباب أساسية، من أبرزها ما يلي:

1- أعداد متزايدة: يضم الجيش الأمريكي منذ الحرب الباردة نحو 3 ملايين شخص، تتضمن نحو 1.4 مليون فرد بالخدمة الفعلية، و800 ألف مدني إلى جانب الاحتياطيين البالغ عددهم نحو 800 ألف موظف، وذلك وفقاً للسنة المالية 2020، وهو ما ترتبت عليه مخصصات مالية متزايدة من ميزانية وزارة الدفاع تصل تقريباً لنحو ثلث إجمالي الإنفاق السنوي المخصص. وتتضمن تلك التكلفة جوانب عدة منها ما يتعلق بالرواتب والرعاية الصحية ومزايا التقاعد إلى جانب السكن والبدلات العينية الأخرى التي تُمنح لأعضاء الخدمة، وذلك في ضوء رغبة وزارة الدفاع على تجنيد والاحتفاظ بالأعداد المناسبة للخدمة العسكرية لتنفيذ استراتيجية الدفاع الوطني التي تتزامن مع التطورات المتعلقة بالتقنيات الناشئة من ذكاء اصطناعي وتطور نوعي في الأسلحة والأنظمة الذاتية، الأمر الذي تطلب في ضوء إدارة بايدن مراجعة وتطوير الاستراتيجية العسكرية لتحديد الأولويات.

2- ارتفاع النفقات: يُمثل ارتفاع النفقات العسكرية الخاصة بالأفراد، بالإضافة إلى التكلفة المتزايدة لتشغيل وصيانة المعدات، تحدياً جوهرياً أمام إدارة بايدن، والتي تتطلع إلى تحديث واستدامة القوة العسكرية على المدى الطويل. فبرغم انخفاض القوة النشطة للجيش الأمريكي بنحو 62% عما كانت عليه في القوة الإجمالية عام 1985، فإن الميزانية الإجمالية لوزارة الدفاع ارتفعت بنحو 15%، مما كانت عليه إبان فترة الرئيس ريجان، وترتبط النفقات بعدد من البنود المتمثلة في الآتي:

- تكاليف الأفراد: لم تعد تقتصر فقط على الأجور بل تمتد إلى بنودٍ أخرى تتمثل في الرعاية الصحية ومزايا التعاقد والسكن والمعيشة، ففي ضوء ميزانية وزارة الدفاع للسنة المالية 2021 بلغت النسبة المخصصة للأفراد بوزارة الدفاع نحو 217.1 مليار دولار تتضمن التكاليف التقديرية والإلزامية، ويُشكل الراتب الأساسي لأعضاء الخدمة الفعلية نحو 29% من تلك المخصصات المالية، إلى جانب 15% علاوات تتمثل في تكاليف السكن والمعيشة، بالإضافة للميزات الأخرى مثل، الإعفاءات من ضريبة الدخل الفيدرالية، فضلاً عن 2% من الميزانية لتمويل السفر، و3% مخصصة للمخاطر، و11% رواتب أفراد الحراسة والاحتياط، ناهيك عن المزايا العينية الأخرى كما الحال بالنسبة للسكن والذي خُصص له 1.5 مليار دولار لبناء وتشغيل وصيانة المساكن خلال السنة المالية 2021، والخدمات الأخرى المدعمة من جانب وزارة الدفاع والتي تبلغ تكلفتها 1.1 مليار دولار سنوياً.

-  الرعاية الصحية: تتضمن مخصصات مالية بنسبة 15% في الميزانية المخصصة لوزارة الدفاع لتغطية برنامج الصحة المنتظمة ومدفوعات صندوق الرعاية الصحية للمتقاعدين المؤهلين MERHCF، بموجب 4% من إجمالي تكاليف الموظفين.

-  مستحقات المتقاعدين: إلى جانب المخصصات المالية لصندوق الرعاية الصحية للمتقاعدين كما هو مذكور أعلاه، يتم تخصيص حوالي 10% من ميزانية الأفراد في صندوق ائتماني لدفع مستحقات التقاعد المستقبلية لأعضاء الخدمة الحالية، كما يُخصص نحو 4.8 مليار دولار (2%) لمزايا الضمان الاجتماعي المستقبلي، إلى جانب تخصيص تمويل إلزامي – لم يتم تمريره من جانب الكونجرس- حول مزايا المقدمة للمحاربين القدامى، ولعل هذا البند يمثل بعداً متغيراً وفقاً لنسبة الضباط إلى الأفراد المجندين، حيث انخفض حجم الضباط وضباط الصف بنحو 15% من السنة المالية 1978 إلى السنة المالية 2021، في حين أن حجم المجندين انخفض بنسبة 38%..

3- التوجه لزيادة أعداد الضباط: هناك توجه داخل الجيش الأمريكي لزيادة أعداد الضباط في الأسلحة المختلفة مقارنة بنسبة المجندين، وذلك في ضوء الحاجة المتزايدة لبعض المهارات الخاصة التي تتلاءم مع المتطلبات التي وضعتها الاستراتيجية الخاصة بوزارة الدفاع لمواءمة التطورات التكنولوجية والتقنية، وتطورات التخطيط العملياتي داخل المؤسسة العسكرية، الأمر الذي يؤدي إلى آثار مضاعفة في تكاليف الأفراد الإجمالي، وهو ما يرتب عليه أيضاً زيادة في النفقات المتعلقة بالرواتب والأجور، بالإضافة إلى عوامل أخرى تؤثر في زيادة تلك النفقات تتمثل في الرتبة التي يحظى بها الفرد العسكري أو الارتقاء في الرتب إلى جانب مدة الخدمة، وتلك الزيادة السنوية المستمرة في الأجور لها تأثير مركب يؤدي إلى تسريع نمو تكلفة الأجور الأساسية.

4-  تزايد أعداد المدنيين: تضمنت وزارة الدفاع خلال السنة المالية 2020 أعداد تصل ما بين 765000 إلى 805000، وتبلغ القوة المدنية الحالية لوزارة الدفاع نحو 60% من حجم الخدمة العسكرية مقارنة بالسنة المالية 2020، وتتبع تكاليف الأفراد المدنيين في الجيش اتجاهاً مماثلاً لتكاليف الأفراد العسكريين، وهو ما يمثل عبئاً آخر على ميزانية وزارة الدفاع. 

محاولة التوازن:

إن توجهات وزارة الدفاع الأمريكية لتطوير وتحديث قدراتها العسكرية الرئيسية في ضوء التوصيات المُتضمنة باستراتيجية الدفاع الوطني 2018 والتي تتلاءم مع حجم المنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا، تتصادم مع فكرة زيادة الإنفاق والتكلفة المالية الخاصة بالأفراد والموظفين بالمؤسسة العسكرية، فعلى الرغم من تقلص عدد الأفراد في الجيش الأمريكي خلال عام 2010 بنسبة 34% مقارنة بالسنة المالية 1987، فإن إجمالي التكاليف المتعلقة بالموظفين خلال عام 2010 زادت بنسبة 47% مقارنة بالسنة المالية 1987 وتلك الزيادة ارتبطت بصورة كبيرة بتكلفة دفع الأجور ودعم الأفراد.

ولعل الارتباط الحقيقي بين زيادة التكلفة المالية مقارنة بالأعداد الفعلية في المؤسسة العسكرية يتضح بصورة كبيرة خلال المحطات الحرجة في سياسة واشنطن الخارجية، كما هي الحال للفترة التي لحقت هجمات 11 سبتمبر عام 2001، وما تبعها من تحرك عسكري خارجي في العراق وأفغانستان (خلال الفترة من 2000 إلى 2012) وهو ما تتطلب معه زيادة التكلفة لكل عضو في الخدمة، والتي شهدت زيادة سنوية مركبة قدرها 4.2%، إلى جانب ذلك فقد تباينت خلال تلك الفترة خطوط الاتجاه لحجم القوة والتكاليف، فقد شهد ذلك التاريخ ارتفاعاً للمخصصات المالية للأفراد العسكريين متضمنة تمويل عمليات الطوارئ الخارجية بنسبة 76% مقارنة بالسنبة المالية 1999، في مقابل ذلك نما الحجم الفعلي للقوة العسكرية بنسبة 3% فقط. 

اتصالاً بالسابق؛ يخلق هذا الوضع معادلة صعبة تتمثل في الضغط السياسي والمخاوف المختلفة بين المشرعين الأمريكيين حيال وضعية التحديث للقدرات العسكرية على المدى القصير، مع تطوير هيكل القوة العسكرية وتطوير الاستثمارات العسكرية الجديدة، والتي تؤثر على الميزانية العسكرية في المستقبل المنظور، مما يتطلب معه سن سياسات تحد من نمو تكاليف الموظفين في مقابل تحقيق ومعالجة استدامة القوة على المدى الطويل، وتحقيقاً لإحراز توازن في تلك المعادلة، فقد اتخذت إجراءات متعددة كالآتي:

1- تخفيض الأعداد: دعت وزارة الدفاع لاتخاذ عدد من الإجراءات لتوفير التكاليف، على رأسها الدعوة للتخلص من 100 وظيفة نشطة في مارس 2011، والتي اتخذ على أثرها الكونجرس إجراءات تمثلت في خفض التفويض في عدد الضباط العامين وضباط العلم (GOFOs)  بنسبة 2% داخل نحو 21 موقعاً في السنة المالية 2012، كما أن قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA) نص على تخفيض أعداد الضباط العامين وضباط العلم (GOFO) من 963 إلى 852 بحلول 31 ديسمبر عام 2022.

2- تقاسم تكاليف الإسكان: نفذت وزارة الدفاع خلال عهد أوباما تدابير تقاسم التكاليف عن طريق التخفيض التدريجي للمبلغ الشهري للخدمات الإسكانية ويتحمل الأعضاء 5% من متوسط تكلفة الإسكان الوطنية وذلك حسب درجة الأجور.

3- التحول المرحلي في الرعاية الطبية: اتجهت الوزارة إلى إجراءات التخفيض في القوة النهائية للموظفين الطبيين، حيث تم تخفيض عدد 7422 فرداً في الخدمة الفعلية عام 2021 ونحو 3644 موظفاً مدنياً عاملين بدوام كامل، وذلك في إطار التحول المرحلي إلى مزيد من الرعاية المدنية أو المتعاقدة في مرافق العلاج العسكري أو تحت مظلة رعاية الشبكة الوطنية أو المحلية، بالإضافة إلى فرض وزارة الدفاع والكونغرس بعض رسوم التسجيل على الخدمات الصحية وعالجت تلك الإصلاحات بعضاً من الإنفاق المتزايد، وعلى ضوء ذلك تم توفير ما يقرب من 5.4 مليار دولار سنوياً.

ورقة ضاغطة:

تُمثل تكاليف الأفراد العسكريين البالغة (217.1 مليار دولار) والتي تُعادل قرابة 30% من إجمالي ميزانية وزارة الدفاع للعام المالي 2021، ورقة ضاغطة على توجهات الوزارة في تطوير قدراتها العسكرية بغرض مواكبة التطورات المتلاحقة في القدرات العسكرية الصينية والروسية، الأمر الذي يتطلب معه إعادة النظر في تلك التكاليف، خاصة في ضوء التحولات الجديدة في ضبط الانتشار العسكري الخارجي.

نتاجاً لهذه المعضلة، وضع الكاتب توصيات من أبرزها، العمل على تغيير هيكل الجيش والعمل على إعطاء الأولوية للتوظيف للأفراد ذوي الخبرات والمهارة، فضلاً عن العمل على تطوير وسائل التقييم، مع العمل على تنفيذ جدول أجور الوقت في الدرجة بدلاً من جدول خدمة الوقت الحالي، مع تعزيز تدابير خفض تكاليف الأفراد المرتفعة عبر تعزيز مبدأ تقاسم التكاليف في الجانب الطبي.

يوصي الكاتب أيضاً بضرورة اتخاذ وزارة الدفاع نهجاً شاملاً على مستوى الإدارة لمعالجة تكاليف الأفراد المرتفعة التي لا تتناول فقط المزايا العسكرية بشكل مباشر، ولكن أيضاً قرارات إدارة القوة التي تؤثر على التكاليف الإجمالية والبيانات التي توجه تلك السياسات مع دراسة فرص تقاسم التكاليف في المزايا، وكذلك الزيادة التدريجية في عدد سنوات الخدمة العسكرية.  

المصدر:

Seamus P. Daniels, Assessing Trends in Military Personnel Costs, CSIS Defense Budget Analysis Program, The Center for Strategic and International Studies (CSIS), September 2021.