حسابات متباينة:

كيف تفاعل الداخل اللبناني مع مبادرة الراعي؟

03 March 2021


ما زال البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي حريصاً على الترويج إلى مبادرته الخاصة بطرح القضية اللبنانية في مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، موضحاً أن "هذا الإجراء يعد تأميناً لاستقرار النظام، وتلافياً لتعطيل آلة الحكم أشهراً عند كل استحقاق رئاسي أو حكومي"، وتبع ذلك عدة تحركات من جانب الراعي للحصول على تأييد لمبادرته. إذ أرجع، في 21 فبراير الفائت، سبب التدويل إلى استحالة التفاهم بين المرجعيات السياسية لتشكيل حكومة مهمة، ولاتخاذ أى قرار إصلاحي منذ مؤتمر "سيدر"، وإلى فقدان الثقة فيما بين هذه المرجعيات، مشدداً على أن الهدف من المبادرة إعادة إحياء لبنان، عبر تحصين وثيقة الوفاق الوطني الصادرة عن مؤتمر الطائف 1989، وتطبيقها نصاً وروحاً، وتصحيح الثغرات الظاهرة في الدستور المعدل على أساسها سنة 1990.

كما دعا الراعي لتحرك شعبي عبر عقد تجمع مركزي في ساحة بكركي في 27 من الشهر نفسه، شارك فيه جموع من المواطنين، إضافة إلى رجال دين مسلمين ومسيحيين إلى جانب وفود درزية، وعدَّد في كلمته أمام تلك الجموع مطالبه، التي يأتي على رأسها عقد مؤتمر دولي لدعم لبنان، والتأكيد على ضرورة حياد الدولة عن المحاور الإقليمية، إضافة إلي مواجهة محاولات الانقلاب من بعض القوى السياسية على وثيقة الوفاق الوطني 1989 والدستور اللبناني، مطالباً بنزع السلاح غير الشرعي، وتوفير الدعم للجيش اللبناني ليكون المدافع الوحيد عن لبنان، فضلاً عن عدم توطين اللاجئين في لبنان.

مواقف مناوئة:

وقد أثارت مبادرة "التدويل" ردود فعل متباينة ارتبطت بحسابات القوى السياسية. إذ أبدى حزب الله وجبهة المعارضة قلقاً من المبادرة، وذلك لكونها نجحت في توحيد كلمة العديد من اللبنانيين باختلاف طوائفهم، ومنهم الشيعة المعارضين، خاصة وأن تحرك الراعي شمل العديد من البنود التي ستؤثر على نفوذ حزب الله داخلياً، وذلك فيما يتعلق بتحييد لبنان ونزع السلاح غير الشرعي، كما أن مبادرته لاقت استجابة الرأى العام، والقيادات الروحية المختلفة، فضلاً عن القوى السياسية والتيارات المدنية، مما يعيد طرح تأسيس جبهة معارضة موحدة ضد السلطة الحالية، وهى التي حاولت العديد من القوى السياسية تأسيسها خلال الفترة الماضية، ولكن لم تحقق أى تقدم يُذكر في هذا الصدد لعديد من الاعتبارات الداخلية والخارجية.

وقد سعى الحزب، بدعم من بعض حلفاءه في قوى "8 آذار"، إلى عرقلة مبادرة الراعي من خلال خطاب سياسي وإعلامي يروج إلى أن تلك المبادرة تدعو للتدخل الدولي في لبنان، كما أنها تثير النعرات الطائفية، في ظل عدم وجود إجماع من كافة الطوائف، في إشارة ضمنية إلى الطائفة الشيعية، والتيار السني الذي يقوده تكتل المستقبل، إضافة إلى مناصري التيار الوطني الحر، وبعض الطوائف الأخرى مثل تيار طلال ارسلان الدرزي. كما أشار الحزب إلى أهمية تحقيق الاستقرار السياسي الذي يدعو إليه الراعي عبر مؤسسات الدولة الدستورية، وليس من خلال تحركات الشارع، وهو ما يتحسب منه الحزب، لأن اندلاع انتفاضة ثانية في ذلك التوقيت، مصحوبة باحتقان الشارع من الوضع الداخلي، قد يسفر عن مواجهات تؤدي إلى عدم استقرار أمني، خاصة مع توحد الجبهات بمختلف الطوائف والمناطق والانتماءات السياسية ضد السلطة الحالية.

كما اتجهت بعض التيارات السياسية لإحداث توازن في مواقفها تجاه مبادرة الراعي، وذلك لعدم تصعيد الصدام معه ومع الرأى العام الداخلي، وفي الوقت نفسه الحفاظ على مكتسباتها على الأرض، وأهم تلك التيارات هى التيار الوطني الحر، الذي أكد على احترام توجهات الراعي، مشيراً في الوقت نفسه إلى خطورة التدويل، وبرر ذلك بأن التدويل قد يسفر عن "الإضرار بمصالح المسيحيين في لبنان"، وذلك من خلال توطين اللاجئين الذي قد يحدث خللاً في التوازن الطائفي، فضلاً عن ضياع حقوقهم السياسية بسبب تعزيز مبدأ الدولة المدنية بواسطة خصوم التيار الحر.

تحركات رمادية:

في الإطار نفسه، سعى تيار المستقبل لإبداء موقف مؤيد للراعي، مع التحفظ على فكرة التدويل، الأمر الذي يعكس محاولات المراوحة التي يقوم بها التيار لتحقيق أكبر مكاسب سياسية ممكنة، عبر تجنب تبني مواقف تصعيدية ضد الخصوم السياسيين، على نحو قد يعزز من احتمالات نجاح سعد الحريري في تشكيل حكومة متوازنة تلقى قبول الداخل والخارج، إلا أن الرهان على ذلك الأمر محفوف بالعديد من المخاطر، لأن المواقف الرمادية في ذلك التوقيت سيكون لها مردود سلبي من الداخل قبل الخارج، خاصة أن توجهات المستقبل والوطني الحر تُفرِغ، وفقاً لرؤية اتجاهات عديدة، مبادرة الراعي من مضمونها، أى تدويل الملف اللبناني، وهو الأمر الذي قد يضع التيارين في مرمى الانتقادات الداخلية.

ومن الواضح أن هناك تحركات استباقية من جانب النخبة الحاكمة، لإطلاق حملة مضادة ضد مبادرة الراعي، تحسباً من أن تكون نواة لثورة لبنانية حقيقية ضد نظام الحكم الحالي، وليس "انتفاضة" على غرار احتجاجات أكتوبر 2019، لأن نتائجها لن تصب في مصلحة تلك النخبة بأى حال من الأحوال، وستخصم من نفوذ قوى "8 آذار"، وذلك في ظل الانتقادات الداخلية والخارجية لسياسات لتلك النخبة التي أدت إلى تدهور اقتصاد لبنان والانتقاص من سيادة الدولة، الأمر الذي قد يدفع لتحرك جاد على الأرض لتشكيل الحكومة بأى ثمن، لأن الرهان على عدم نجاح مبادرة الراعي ستكون تكلفته مرتفعة، وهو أمر غير مقبول من جانب النخبة الحاكمة وبعض القوى السياسية التي لازالت تطمح في أن يكون لها دور في المشهد الداخلي مستقبلاً.

ختاماً، تتيح مبادرة الراعي الفرصة الأكبر لإحداث اختراق في المشهد اللبناني، وذلك مقارنة بمحاولات داخلية وخارجية سابقة لم تحقق تقدماً ملموساً في هذا الشأن، إلا أن محاولات عرقلتها بكافة الطرق قد تُقوِّض من فعاليتها، خاصة وأن المبادرة تمس ملفات شديدة الحساسية في الداخل اللبناني، الأمر الذي لا يمكن توقع تبعاته بسبب التحركات المضادة من معارضيها، وكيفية تدارك الراعي لتلك التحركات ومواجهتها، في ظل ارتباك داخلي وعدم تحمس خارجي إزاء فكرة التدويل بشكل عام، مما يفرض الخيار الأمثل لاحتواء التصعيد الحالي عبر تشكيل حكومة في أسرع وقت لتهدئة الشارع وتجنب مواجهة أزمة سياسية جديدة.