نظرة مغايرة:

لماذا أخطأت واشنطن بترك العراق للنفوذ الإيراني؟

17 February 2021


عرض: شيماء راشد - باحثة متخصصة في العلاقات الدولية

واجهت العلاقات الأمريكية العراقية تقلبات كثيرة، خاصة بعد شروع الولايات المتحدة في تخفيض أعداد القوات الأمريكية في العراق بدءًا من عام 2011، كما تأثرت العلاقات أيضًا تبعًا لتوجهات الإدارات الأمريكية المتعاقبة خاصة منذ ولاية الرئيس "باراك أوباما" الأولى. وفي هذا الإطار، أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) تقريرًا أعده منقذ داغر،  بعنوان: "العلاقات الأمريكية العراقية: شراكة صحية لا غنى عنها"، يُسلِّط فيه الضوء على مستقبل العلاقات الأمريكية العراقية في ظل إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، وكيفية تجنب أخطاء الماضي؛ لتأسيس العلاقات على أسس جديدة تحافظ على استقرار وسيادة العراق، وتحمي المصالح الأمريكية في المنطقة.

إشكالية العلاقات 

ألقى التقرير الضوء على الإشكالية التي تواجه العلاقات الأمريكية العراقية، موضحًا أن الخلل في العلاقات مع العراق ناتج عن غياب تعريف واضح لما تحتاجه الولايات المتحدة من العراق بعد مرور 18 عامًا على الغزو الأمريكي لأراضيه، وما تحتاجه بغداد من واشنطن، مؤكدًا أن غموض السياسة الأمريكية تجاه العراق وموقع الأخيرة في أولويات السياسة الخارجية، سيشكل خطرًا يساهم في استمرار إيران كأكبر تهديد للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

وأكد التقرير أن أحد الأخطاء الاستراتيجية الرئيسية التي ارتكبتها الإدارات الأمريكية السابقة هو النظر إلى العراق كساحة للتنافس مع إيران، وتطبيق سياسة "إما معنا أو ضدنا"، وينتقد التقرير استمرار رؤية العراق للولايات المتحدة كمحتل – من وجهة نظر الكاتب -، لأن القضية الأساسية هي ما يعانيه النظام السياسي الحالي في العراق من عيوب هيكلية ووظيفية، أبرزها تدني الثقة الاجتماعية والثقة في المؤسسات بسبب التوترات الاجتماعية والسياسية المختلفة على مدى العقود القليلة الماضية. 

وبناء على ذلك، يلفت التقرير الانتباه إلى أهمية التفكير في مراجعة العلاقات بين البلدين وتأسيس شراكة استراتيجية حقيقية، واتباع الولايات المتحدة نهجًا مختلفًا للتعامل مع الوضع في العراق خاصة مع تولي إدارة جديدة، في ظل استمرار أهمية العراق كدولة محورية في الشرق الأوسط؛ وذلك لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة.

أهمية العراق لواشنطن

رصد التقرير 3 أسباب رئيسية تجعل العراق ذا أهمية كبيرة للولايات المتحدة، والتي تتمثل فيما يلي:

أولًا- استمرار تهديد تنظيم "داعش": فرغم هزيمته إلا أن هناك بؤرًا لا تزال نشطة، بدليل قيام فلول التنظيم بشنّ هجمات إرهابية متفرقة، سواء على الوحدات الأمنية أو على المواطنين؛ لإثارة حالة من الخوف والاضطراب. ووفقًا لوزارة الدفاع الأمريكية شنّ التنظيم أكثر من 400 هجوم في الربع الأول من العام الماضي 2020. وفي هذا الشأن، أكَّد التقرير أن هذا التهديد يفرض على بغداد وواشنطن التعاون لتحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية الهشة في العراق، والتي ساهمت في عودة ظهوره، مما يجعل العراق ملاذًا آمنًا وأرضًا خصبة للإرهابيين. وقد أظهر استطلاع للرأي أن نسبة الأشخاص الذين قد ينضمون إلى تنظيم "داعش" قفزت من 2٪ في ديسمبر 2017 إلى 5٪ في ديسمبر 2020، مما يتطلب أن تدرك كل من الولايات المتحدة والعراق أنه لا يمكن هزيمة "داعش" والمتطرفين الآخرين بدون التعاون ومساعدة القبائل المحلية وسكان المناطق التي احتلها "داعش" سابقًا.

ثانيًا- هيمنة إيران والدول المعادية على العراق: أوضح التقرير أن من أبرز تداعيات غزو العراق الفراغ السياسي الذي سعى العديد من الفاعليين الإقليميين والدوليين لملئه، مما حوّل العراق إلى ساحة للتنافس والصراع بين مختلف القوى الإقليمية والدولية، خاصة خلال إدارة الرئيس الأسبق "باراك أوباما"، مؤكِّدًا أن توجيه الاهتمام الأمريكي إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والحروب الفاشلة في أفغانستان والعراق؛ ساهم في إبعاد واشنطن عن شركائها الإقليميين المعتدلين في الشرق الأوسط.

وأشار التقرير إلى أن هذا الأمر أدى إلى تنامي الدور الروسي في المنطقة، فضلًا عن تصاعد دور الصين، عبر إطلاق مبادرة "الحزام والطريق" التي ضمت العديد من دول الشرق الأوسط، فضلًا عن تعاظم النفوذ الإيراني في سوريا واليمن والعراق، والذي ألحق الضرر بالتوازن الاستراتيجي والاستقرار في المنطقة. فقد أصبحت إيران اللاعب الرئيسي في سوريا واليمن والعراق، حيث شكّلت طهران من 60 إلى 100 مليشيا مسلحة منذ عام 2010 في العراق، يقدَّر عدد الأفراد بها من 81 - 84 ألفًا. وفي دراسات أخرى تقدر عدد الأفراد في هذه المليشيات بأكثر من 120 ألفًا.

ثالثًا- دور العراق في سوق الطاقة العالمية: رغم تراجع أهمية النفط العراقي لواشنطن في ضوء الزيادة الكبيرة في إنتاج النفط الصخري الأمريكي، وانخفاض وارداتها من النفط (أصبح النفط العراقي لا يشكل سوى 5% من وارداتها)، إلا أن العراق لا يزال يُعد سادس أكبر منتج للنفط في العالم، وثاني أكبر مصدِّر للنفط في أوبك، وبالتالي فإن الاحتمالات المتعلقة بتوقف إنتاجه أو منعه من الوصول لسوق الطاقة العالمي يُنذر بأزمة كبيرة للاقتصاد العالمي.

استراتيجية أمريكية جديدة

اقترح التقرير عند وضع استراتيجية أمريكية جديدة للتعامل مع العراق، التركيز على ثلاثة قطاعات رئيسية، يمكن رصدها فيما يلي:

أولًا- الأمن: ينفق العراق من 9٪-11٪ من الناتج المحلي الإجمالي على قواته العسكرية سنويًا، وهذا يجعله من بين أكبر دول العالم في الإنفاق العسكري. ففي عام 2019 أنفق العراق حوالي 20 مليار دولار على قطاع الأمن والدفاع، ويخطط لإنفاق نفس المبلغ تقريبًا في عام 2021، وقد ساعد ذلك على هزيمة "داعش"، واستعادة الجيش العراقي وقوات الأمن ثقة الكثير من المواطنين. وأكَّد التقرير أنه بالرغم من هزيمة الجيش العراقي لداعش، إلا أنه بحاجة إلى المساعدة الأمريكية حتى يصل إلى مستوى الجاهزية والمهنية التي تُمكّنه من مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، ولا سيما استمرار التهديدات المتعلقة بداعش والمليشيات الإيرانية. 

كما أوصى التقرير بالحفاظ على بعض القوات الأمريكية في العراق لاستعادة الأمن، لأن قرار الرئيس السابق "ترامب" بتخفيض الوجود الأمريكي في العراق، لا يعني أن قوات الأمن العراقية أصبحت قادرة على القيام بعمليات مستقلة بمفردها ضد فلول "داعش"، بل تحتاج القوات العراقية إلى المساعدة في مجالات المراقبة الجوية والاستخبارات والتدريب.

ثانيًا- استقرار النظام السياسي في العراق: أكد التقرير أن الانتخابات أصبحت حجر الزاوية الأساسي للنظام السياسي في العراق بعد عام 2003، فقد ذهب العراقيون إلى صناديق الاقتراع 6 مرات، بما في ذلك التصويت على دستور 2005. وبالرغم من ذلك تراجعت نسبة المشاركة في الانتخابات من 80% إلى 29% في آخر انتخابات. 

وقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن العراقيين بشكل عام، والشباب على وجه الخصوص، فقدوا ثقتهم في العملية الانتخابية، وأصبحوا لا يرون فيها آلية موثوقة لتغيير المستقبل السياسي أو إيصال أصواتهم للنخب السياسية. كما أشارت الاستطلاعات أيضًا إلى توقُّع تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية المبكرة المقرر إجراؤها في أكتوبر 2021، والتي دعا لها رئيس الوزراء "مصطفى الكاظمي" للاعتقاد السائد بأن الانتخابات لن تتمتع بالنزاهة والشفافية، ولعدم الثقة في السلطات، وبسبب تزايد قوة ونفوذ الميليشيات المدعومة من إيران.

وفي ضوء ذلك، أكَّد التقرير أن العراق بحاجة إلى ضمان نزاهة الانتخابات المرتقبة، لافتًا الانتباه إلى أن واشنطن يمكنها مساعدة العراق في هذا الشأن، عبر تشكيل بعثة دولية تحت إشراف الأمم المتحدة، كما أنه بإمكان جهاز المخابرات الأمريكية المساعدة في مراقبة ومنع التدخل الخارجي في الانتخابات، ويمكن نقل هذه الخبرة إلى أجهزة المخابرات العراقية.

ثالثًا- مساعدة العراق للخروج من أزمته الاقتصادية: تواجه بغداد أزمة اقتصادية راهنة بسبب تداعيات جائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط العالمية؛ ومن المتوقَّع استمرار تقلص معدلات النمو، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي من النفط والقطاعات غير النفطية، مثل السياحة الدينية التي تأثرت بأزمة كورونا، وعجز الحكومة عن دفع الرواتب والأجور، حيث قدرت نسبة الأجور بـ74٪ من إجمالي النفقات المالية لعام 2020، وشهدت الموازنة المالية لعام 2021 عجزًا يُقدر بـ41,7%.

وانتقد التقرير طريقة استجابة الحكومة العراقية للأزمة الاقتصادية؛ حيث اتخذت قرارات اقتصادية تسببت في تراجع التأييد الشعبي لها، أبرزها تخفيض قيمة العملة العراقية بنحو 22٪؛ مما تسبب في زيادة معدل التضخم، ودفع كثيرًا من العراقيين تحت خط الفقر، مع ارتفاع نسبة العراقيين الذين يعيشون بأقل من دولارين في اليوم إلى حوالي 35٪. ولفت التقرير الانتباه إلى احتمالية أن تتسبب الأزمة الاقتصادية في اندلاع أعمال شغب، من شأنها عرقلة مهمة الحكومة العراقية، كما أنها قد تفتح بابًا لعدم الاستقرار والفوضى، مما يرجح عودة ظهور "داعش"، واكتساب الميليشيات الموالية لإيران مزيدًا من القوة.

وفي الوقت الذي لا تستطيع فيه الإدارة الأمريكية الجديدة تقديم مساعدات اقتصادية مباشرة للعراق، في ضوء التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا؛ اقترح التقرير تقديم المساعدات من خلال الدور المحوري لواشنطن في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لضمان اتباع أفضل الممارسات في إدارة الموارد العراقية. كما أشار التقرير إلى ضرورة تقديم المساعدة للقطاع المصرفي العراقي الذي يعاني من نقص كبير في رأس المال مقارنة بدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأخرى، حيث تقدر أصول القطاع إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 58٪ فقط مقارنة بـ122٪ بالمتوسط  للمنطقة.

كما شدَّد التقرير على ضرورة تنفيذ الاتفاقيات التي وقَّع عليها رئيس الوزراء العراقي إبّان زيارته لواشنطن في سبتمبر 2020، والتي تُقدر بحوالي 10 مليارات دولار، فضلًا عن أهمية تنشيط اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تم توقيعها عام 2008، وخاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي. 

وختامًا، أكد التقرير على خطأ الإدارة الأمريكية السابقة بتقليل التزامها تجاه العراق والشرق الأوسط، وضرورة حفاظ الولايات المتحدة على دورها في المنطقة، وضمان مستوى الردع والتأثير اللازمين لحماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية الرئيسية، بما يحقق استراتيجية الأمن القومي الأمريكي  في الشرق أوسط التي تتمحور حول ثلاثة أهداف، تتمثل في ألا يكون الشرق الأوسط ملاذًا آمنًا أو أرضًا خصبة للإرهابيين، وعدم خضوع المنطقة لسيطرة أي قوة معادية للولايات المتحدة، فضلًا عن استقرار سوق الطاقة العالمية. وأكد التقرير أهمية العراق في تحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة؛ مما يوجب على الإدارة الأمريكية الجديدة اتباع نهج مختلف يحترم استقلال وسيادة العراق، ويأخذ في اعتباره العوامل الجيوسياسية والثقافية التي تؤثر على السياسة العراقية. كما طالب التقريرُ العراقيين بضرورة طرح عقد اجتماعي وسياسي جديد، يشمل جميع أصحاب المصلحة في العراق دون تدخل أو تأثير خارجي.

المصدر: 

Munqith Dagher, The U.S.-Iraqi Relationship: A Healthier Partnership is Indispensable, Center for Strategic &International Studies, February 1, 2021.