استقالة "الفخفاخ":

هل تشهد تونس عودة لسيناريو "الترويكا"؟

16 July 2020


لا تزال تونس تواجه تعقيدات في تشكيل الحكومة وتسيير أعمالها، على الرغم من مرور عدة أشهر على إجراء الانتخابات التشريعية، حيث لم تتمكن حكومة "الحبيب الجملي" من الحصول على ثقة البرلمان، ليتولي بعد ذلك "إلياس الفخفاخ" رئاسة الحكومة، وتعلقت الآمال بقدرة تلك الحكومة الجديدة على النهوض بالأوضاع الاقتصادية في تونس، خاصة في ظل وجود العديد من التحديات التي ضاعف من صعوبتها اجتياح الأزمة الوبائية العالمية ممثلة في جائحة (كوفيد-19).

وفي خضم تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدولة التونسية، لم تهدأ الأوضاع السياسية، حيث أضافت المزيد من الأعباء على الوضع الاقتصادي، لتنتهي بإعلان رئيس الوزراء التونسي "إلياس الفخفاخ" تقديم استقالته إلى الرئيس التونسي يوم الأربعاء 15 يوليو بعد أن قضى خمسة أشهر فقط في الحكومة، وبعد سجال طويل مع حركة النهضة. ومن ثم، يهدف المقال الحالي إلى استعراض أهم مراحل التصعيد والسيناريوهات المحتملة أمام تونس خلال المرحلة المقبلة.

عوامل التصعيد:

تتمثل أهم عوامل التصعيد بين "الفخفاخ" و"النهضة" وبعض الأحزاب الأخرى التي دعمت الحزب في موقفه تجاه "الفخفاخ" فيما يلي:

1- غياب الظهير السياسي: حيث كشف تشكيل الحكومة التونسية برئاسة "الفخفاخ" من حزب محافظ ومزيج آخر من قوى ديمقراطية وقوميين ووسطيين، وتعمده إقصاء حزبين أساسيين، هما: "قلب تونس" وهو ثاني أكبر حزب في البرلمان (38 مقعدًا)، و"ائتلاف الكرامة"؛ وهو ما أوقعه في فخ افتقاد الظهير السياسي القوي الذي يمكّنه من سهولة تمرير القوانين، والحصول على الدعم البرلماني. وذلك بخلاف حركة النهضة غير الموالية له. فمشاركة كلا الحزبين كانت ستضيف المزيد من القوة لحكومته لتكون حكومة وحدة وطنية ذات حزام سياسي قوي وفاعل مع أهمّية دعم المنظمات الوطنية المتمثلة أساسًا في: اتحاد الشغل، واتحاد الأعراف، واتحاد الفلاحين، لهذه الحكومة لتتمكن من العمل في أجواء من الثقة والاستقرار.

2- تفاقم الأعباء الاقتصادية: في الوقت الذي واجهت فيه تونس منذ الثورة حالة من الركود الاقتصادي، وانخفاض مستويات المعيشة وتراجع الخدمات العامة؛ إلا أن تركيز الأحزاب السياسية انصبّ بشكل كبير على البقاء في منصبها بدلًا من معالجة قائمة طويلة من المشاكل الاقتصادية، وهو ما ضاعف من تلك الأعباء. وعلى صعيد آخر، عمقت الانقسامات الأيديولوجية في حكومة "الفخفاخ" من صعوبة الاتفاق على الإصلاحات الاقتصادية العاجلة التي طالب بها المقرضون الأجانب لتحسين وضع العجز المالي والدين العام في تونس في مسار أكثر استدامة. وقد أدت جائحة (كوفيد-19) إلى تفاقم هذه المشاكل، حيث تتوقع وكالة "بلومبرج" انكماش الاقتصاد التونسي بعد الجائحة بنسبة (6.5٪) في عام 2020، وارتفاع العجز المالي ليعادل (7٪) من الناتج المحلي الإجمالي. 

كما تقدمت بطلب إلى عدد من الدول لتأجيل سداد الديون. وفي الأجزاء الأفقر من البلاد، وفي ظل توقعات بارتفاع معدلات البطالة لأكثر من خُمس القوى العاملة، انطلقت الاحتجاجات للمطالبة بالمزيد من الوظائف وبصفة خاصة في قطاع النفط، وهو ما أسفر عن توقف العمل في محطة لضخ النفط في منطقة الكامور. كما اتهم الاتحاد العام التونسي للشغل في منطقة تطاوين، الحكومة بعدم الوفاء بالوعود السابقة. وأخيرًا، سيؤدي انهيار حكومة "الفخفاخ" بعد أقل من خمسة أشهر من تشكيلها إلى تأخير الإصلاحات الاقتصادية العاجلة، وتعقد جهود استعادة النشاط السياحي الذي يساهم بنحو (10%) من الناتج المحلي الإجمالي، حيث انخفضت عائدات السياحة في الأشهر الستة الأولى من عام 2020 بمقدار النصف مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. كما تُعرقل الاستقالة جهود التعامل مع أي موجة جديدة من حالات الإصابة بفيروس (كوفيد-19)، بعد أن سيطرت تونس على الموجة الأولى.

3- تأجج الصراع السياسي: تشير العديد من المصادر إلى أن الرئيس التونسي "قيس سعيد" هو من طلب من "الفخفاخ" الاستقالة، حيث أنه مع تصاعد الاتهامات للفخفاخ بسبب التضارب في المصالح من خلال امتلاك شركة أو أسهم في شركات حصلت على عقود حكومية من خلال صفقات بقيمة (15 مليون دولار) من الدولة. بالإضافة إلى إعلانه عن خطط لإعادة تشكيل الحكومة. ومن ثم، فإن استقالته في ذلك التوقيت تحرم النهضة من الحق في ترشيح رئيس وزراء جديد في حال نجاح حجب الثقة عن الحكومة، والذي كان على وشك التحقق من خلال انضمام حزبين معارضين إلى النهضة في مسعاها، هما: قلب تونس، وائتلاف الكرامة، بالإضافة إلى عدد من المستقلين، وهو ما يعني جمع (105) من التوقيعات الـ(109) اللازمة لبدء التصويت لسحب الثقة. وفي المقابل، سارع رئيس الوزراء في وقت لاحق، إلى إقالة كافة وزراء حركة النهضة من حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها حاليًّا بعد الاستقالة، وإعفائهم من مناصبهم بل وتكليف غيرهم.

ما بعد استقالة "الفخفاخ":

يمكن القول أن هناك عدد من السيناريوهات المتوقعة لما بعد استقالة "الفخفاخ" تتمثل فيما يلي:

1- اللجوء لحكومة الرئيس: حيث يتعين على رئيس الجمهورية في الوقت الحالي أن يختار خلال 10 أيام من الآن مرشحًا جديدًا لمنصب رئيس الوزراء الذي سيكون أمامه شهر لتشكيل الحكومة. إلا أن حالة الانقسام المتأجج في البرلمان التونسي قد لا تجعله مؤهلًا للتوافق حول شخصية واحدة في محاولة لإرضاء أكبر عدد من الأحزاب في البرلمان المشتّت. كما أنه من غير المتوقع أن ينجح أي مرشح في تشكيل ائتلاف حكومي آخر لإجراء انتخابات. أما السيناريو الأسوأ الذي من الممكن أن يترتب على الفشل في بناء ائتلاف آخر فهو اللجوء إلى الانتخابات التشريعية المبكرة، وهو الأمر الذي قد يضع تونس في موضع الانزلاق لمستقبل سياسي غير مضمون العواقب، فثمة تحديات كبرى تحيط بتونس، في ظل تزايد التدخل الأجنبي في ليبيا، والذي من المحتمل أن يصبح تهديدًا دائمًا، كما ستواجه تونس وضعًا صعبًا في الداخل والخارج، في ظل غياب توافق سياسي يستطيع أن يدير الأزمة. واقتصاديًا، وفي ظل حاجة تونس إلى عقد صفقة جديدة مع صندوق النقد الدولي في غضون الأشهر الثلاثة أو الأربعة المقبلة؛ فإنه ليس من المتوقع موافقة الصندوق على أي قروض نتيجة عدم استقرار الأوضاع.

2- الترويكا الجديدة: قد يخضع الرئيس "قيس سعيد" لضغوط حركة النهضة، ومحاولة فرض مرشحها وتشكيل تحالف سيتكون أساسًا من حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس، مع إمكانية الانفتاح على بعض الكتل الأخرى على غرار كتلة المستقبل، وربما لاحقًا حركة "تحيا تونس" وبعض المستقلين، وهو ما سيغير المشهد السياسي لأكثر من 360 درجة.

وفي الختام، يمكن القول إن استقالة "الفخفاخ" تعيد المشهد التونسي لما بعد الانتخابات التشريعية، الأمر الذي لا تتحمله تونس مطلقًا في الوقت الحالي، وفي ظل مشهد عالمي شديد الضبابية.