أسطورة «أيباك» وبداية التغير

12 July 2020


في عام 1979، تلقيت مكالمة من مساعدة لعضو في الكونجرس الأميركي ممن أيدوا عدداً من قضايانا الأكثر أهمية وممن دأبوا على انتقاد السياسات الإسرائيلية. فقد عارض مراراً مشروعات القوانين التي تعطي إسرائيل المزيد من الدعم، مشيراً إلى سجلها المزري في مجال حقوق الإنسان. وأخبرتني المساعدة أن عضو الكونجرس الذي تعمل معه اجتمع مع ممثلين من «لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية» (أيباك) وأحد مسؤولي السفارة الإسرائيلية، وتلت ذلك مناقشة محتدمة. وذكرت أنه، بسبب ثقة عضو الكونجرس في شخصي، يجب أن أذهب إلى مكتبه وأتحدث معه. وذهبت، لكني لم أقابله. ورغم أننا كنا أصدقاء، فإنه نادراً ما تحدث معي بعدئذ. وليس هذا فحسب، بل على مدار العقود القليلة التالية التي قضاها في الكونجرس، لم يصوِّت قط ضد التشريعات المدعومة من «أيباك» التي أصبحت تتلقى أكبر المساعدات المالية المؤيدة لإسرائيل.

والخوف والتهديد بالهزيمة وقوة المساهمات في الحملات، إما لصالح المرشح (إذا صوت «بالشكل المطلوب»)، أو ضده (إذا صوت «بالشكل غير الصحيح»)، هذا الخوف وذاك التهديد هما ما شكل الطريقة التي يتصرف بها الكونجرس في أمور تتعلق بإسرائيل والفلسطينيين. وليس هناك ما يجعل أعضاء الكونجرس أشجع الناس على الأرض. فبسبب التأثير المفسِد للمال في السياسة والمبالغ التي تتزايد دوماً، وتضخ في الحملات السياسية، يجد المسؤولون أنفسهم متورطين في جمع تمويل لا يتوقف.

وأتذكر ما عبّرت عنه من خيبة أمل إلى عضو الكونجرس السابق جون كونيرز، من أن هناك أعضاء يصوتون باستمرار في سبيل تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، دون التزام بالمبادئ، وأحياناً ضد مصالح الولايات المتحدة. فضحك وقال إنه من اليوم الذي يجري انتخاب العضو فيه، فإن المبدأ الوحيد الذي يسترشد به هو ما يشعر أنه يتعين عليه القيام به ليعاد انتخابه. ومضى يقول: «المصالح القومية للولايات المتحدة تصبح في نظرهم مقابلا لمصالح إعادة انتخابهم».

صحيح أن هناك عدداً من الأعضاء أصحاب مبادئ في الكونجرس، لكن هناك عدداً أكبر بكثير أصبح لديهم جمع المال وإعادة انتخابهم غاية في حد ذاتها. وصحيح أن لدى كثيرين منهم قضايا تحفّز خدماتهم العامة، لكن حين يقومون بحساباتهم الانتخابية يقولون فيما بينهم وبين أنفسهم: «لماذا أعارض نظام البنوك أو التأمين الصحي أو شركات العقاقير أو جماعة الضغط الخاصة بالمسدسات أو إسرائيل، بينما القيام بهذا لن يؤدي إلا إلى جمع المال لإلحاق الهزيمة بي».

صحيح أن المال الذي يجري جمعه ضد أحد المرشحين أمر واقعي، لكنه ليس العامل الحاسم الوحيد. والأكثر حسماً هي الأسطورة الراسخة التي مفادها أن «أيباك» لا تُقهر. فقد رسخت «أيباك» هذه الأسطورة في وقت مبكر في ثمانينيات القرن الماضي. فقد أعلنت أن لها الفضل في إلحاق الهزيمة بجمهوريين بارزين، أحدهما عضو مجلس شيوخ والآخر عضو مجلس نواب. وعلمت من مصدر موثوق فيه أن «أيباك» ضخت مقداراً هائلاً من المال في كلتا الدورتين الانتخابيتين، لكن عوامل حيوية أخرى حسمت السباقين. إلا أن هذا لم يوقف «أيباك» عن التباهي بأنها تغلّبت على خصمها مستخدمة هذا الانتصار لتعزيز المخاوف من سطوتها.

ولعبت هزيمة عضو مجلس الشيوخ دوراً مهماً في أسطورة «أيباك». وفي السنوات التالية، اشتهر عضو مجلس شيوخ مؤيد لإسرائيل بأنه كان يخاطب الزملاء الذين بلا موقف واضح من القضايا المهمة لإسرائيل، ويذكرهم بهزيمة العضو السابق ويقول لهم: «هل تريدون ما حدث له؟».

وعلى مدار عقود جمعتُ قائمة في ذاكرتي لأعضاء الكونجرس الذين قالوا لي على انفراد: «إنني حقاً في صفك، لكني أخشى أن أعارض أيباك». وبعضهم لا يشتهر بالشجاعة وبعضهم مؤيدون معلنون لإسرائيل وليسوا إلا أشخاصاً معادين صرحاء للسامية. وأنا أطلق عليهم اسماً خاصاً: «المعادون للسامية من أجل إسرائيل».

صحيح أن الخوف قد يكسِب التأييد الشعبي، لكنه يؤدي إلى استياء صامت. ولعل هذا بدأ يتغير على الأقل وسط «الديمقراطيين». والفوز الذي حققه «جمال بومان» في الآونة الأخيرة على «إيليوت إنجل» المدعوم من «أيباك»، دفع الجماعة إلى «التصريح» لأعضاء من الكونجرس بأن يعارضوا خطط إسرائيل بضم أراض من الضفة الغربية. ولم يكتف خطاب في الآونة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، من 12 نائباً وسيناتوراً بمعارضة الضم، لكنه وعد أيضاً بتشريع يضع شروطاً للمساعدات الأميركية لإسرائيل تربطها بسياساتها في الضفة الغربية. وكل هذا يقدم دليلاً على أن «أيباك» ربما تفقد سيطرتها على الكونجرس.

وهناك بعض الأسباب التي دفعت إلى هذا التغير، مثل الغطرسة المثيرة للغضب من بنيامين نتنياهو، وأن جماعة الضغط المهيمنة المؤيدة لإسرائيل هي الجناح اليميني المسيحي للحزب الجمهوري، ومثل التحالف القائم بين نتنياهو والرئيس دونالد ترامب. كما أدى الانقسام العميق في الجالية اليهودية إلى انبثاق جماعات قوية جديدة تدافع عن العدل والسلام. ويضاف إلى هذا أن العرب الأميركيين أصبح لهم نفوذ ولا يخافون من الإفصاح عن رأيهم. ومن العوامل أيضاً، الدعم المتزايد للحقوق الفلسطينية بخاصة وسط الناخبين السود والهسبانك والأميركيين من أصول آسيوية والشباب بصفة عامة.

*نقلا عن صحيفة الاتحاد