كورونا والعودة للتاريخ

15 March 2020


أُغلقت المدارس والجامعات ودور العبادة والمسارح، وأُلغيت المهرجانات والمؤتمرات، وتوقفت حركة الطيران، وخلت الشوارع من المارة، وتهاوت الأسواق المالية، وأُعلنت حالة الطوارئ. مشهد صار مألوفاً في العالم، وبالخصوص في أوروبا التي أصبحت بؤرة انتشار فيروس كورونا المستجد، في وضع لم تشهده القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

عرفت أوروبا في العصور الوسطى «الطاعون الأسود» الذي ذهب ضحيته ما بين ثلث وثلثي سكانها، كما عرفت في نهاية الحرب العالمية الأولى «الأنفلونزا الإسبانية» التي زاد ضحاياها على الخمسين مليوناً.. لكنها اعتقدت أنها أصبحت بمأمن من الأوبئة القاتلة بعد أن نجحت في بناء سياسات أمن صحي ناجعة تكفل حماية الإنسان من مخاطر الموت الجماعي.

يبين ميشال فوكو في أعماله الأخيرة كيف أن نظام السلطة في الغرب الحديث انتقل من الإكراه والقسوة إلى نموذج الضبط والرقابة، بحيث تحول الحكم إلى نمط من السلطة الحيوية يتركز حول نمط حياة وصحة ورفاهية السكان، ومن هنا ميلاد نموذج العيادة كمظهر جديد للسياسات الصحية الحديثة. العيادة من هذا المنظور تجسيد لنظام الحجر والإغلاق الذي يرتبط بإجراءات العقوبة والضبط الحديثة، وهو من جهة أخرى إقصاء للمريض من الحقل الاجتماعي المشترك القائم على اقتصاد المتعة والرفاهية. وما دامت الأمراض أصبحت تدار وفق نظام المتابعة الفردية، وأصبح من المأمول في التقنيات الصحية المتطورة إلغاء الأبعاد المأساوية في المرض، من ألم وعجز مع حلم التغلب على الموت نفسه، فإن الوباء من حيث هو انفلات من سلطة الضبط الحيوي يغدو أفقاً خارج التفكير، من سمات المجتمعات التي لا تزال تعيش غليان التاريخ من حروب ومجاعات كما هو شأن بعض البلدان الأفريقية والآسيوية.

ومن هنا ندرك كيف تعاملت الحكومات الغربية مع الفيروس القاتل لدى ظهوره، معتبرةً أنه شأن صيني شرقي كما كان شأن فيروسات سابقة مماثلة، أو كشأن فيروس إيبولا الأفريقي، قبل أن تكتشف أنها أصبحت مضطرة للرجوع إلى عصور الحجر والحصار والإغلاق القديمة.

وفي رائعته «الطاعون» التي صدرت عام 1947، يحتفظ لنا الروائي الفرنسي الكبير «البير كامو» ببعض مشاهد هذه التجربة المؤلمة من خلال الطاعون المتخيل الذي ضرب مدينة وهران الجزائرية في العهد الاستعماري الفرنسي. في الرواية المذكورة يتحدث كامو عن مفارقة هذا الوباء الغامض الذي بقدر ما يفرق بين الناس ويقطع أوصال عالمهم، يحملهم على التكتل والتضامن والإيثار، ويفسح لهم فرص الشجاعة والبطولة.

تعود أوروبا في عصر كورونا إلى هذه الأجواء وقد تجذرت المفارقة وتعمقت نتيجة لثورة الاتصالات السريعة والشبكات الاجتماعية المفتوحة. ففي الوقت الذي انهار الحاجز المكاني في التواصل وولدت حركية العولمة مجتمع «الشفافية المفتوحة»، يرجع شبح العزلة والانطواء وتغدو الدولة عاجزةً عن تحقيق خلفياتها المرجعية الحديثة، أي التأمين من الخوف والموت العنيف «حسب اصطلاحات مفكري الحداثة السياسية».

ويلاحظ الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جبجك» أن التقنيات الراهنة بقدر ما تجعلنا مستقلين عن الطبيعة، تعرّضنا من وجه آخر لأهواء الطبيعة ونزواتها، ومثال ذلك الفيروسات الجديدة المنتقلة من الحيوانات إلى الإنسان. بيد أن جبجك يلاحظ في الآن نفسه أن أزمة كورونا الحالية تجبرنا على العودة إلى «الأوقات الميتة» التي فقدنا الصلة بها، أي إلى زمنية التأمل والخلوة والانعزال التي اعتبرها الحكماء الأقدمون المسلك إلى تصفية النفس والعقل وتجديد تجارب العيش.

ومع أن الأرقام تتبدل في اليوم الواحد، ورغم اشتداد وطأة العدوى واستفحال الأثر والنتيجة في البلدان التي انتشر فيها الوباء، فإن كل المعطيات تفيد بأن فيروس كورونا المستجد أقل فتكاً وخطراً من الأوبئة القاتلة التي تفتك بحياة الناس يومياً في أفريقيا وآسيا فضلاً عن ضحايا المجاعات والحروب الأهلية والكوارث الطبيعية والمناخية.

ومن هنا يمكن القول إن الرهان الحقيقي في الأزمة الصحية العالمية الراهنة هو إدارة الخوف المنتشر على نطاق واسع كونياً، في مرحلة انتقل فيها الحراك الاحتجاجي في العديد من دول العالم من مستوى الغضب إلى مستوى الاهتياج حسب عبارة «جاك أتالي» الذي يرى أن هذا الاهتياج إذا لم يؤطره مشروع فكري أو أيديولوجي تحول إلى نزعة عدمية مدمرة.

ويبقى الدرس الأخلاقي الكبير في زمن الأوبئة المنتشرة ما قاله البير كامو على لسان أحد أبطال رواية الطاعون: «ما نتعلمه في خضم الكوارث هو أن لدى البشر من الأشياء ما يستحق الإعجاب أكثر مما لديهم مما يثير الاشمئزاز».

*نقلا عن صحيفة الاتحاد