ارتدادات مباشرة:

التأثيرات الاقتصادية المحتملة لمقتل سليماني

06 January 2020


يفرض التصعيد المتزايد بين إيران والولايات المُتحدة الأمريكية خلال الأيام الماضية، بعد مقتل قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في 3 يناير الجاري، تحديات ومخاطر عديدة على الاقتصاد، ليس فقط اقتصاد منطقة الشرق الأوسط، ولكن الاقتصاد العالمي ككل، في ظل العديد من المعطيات، التي تكشف الأهمية والدور المحوري الذي تمارسه منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للاقتصاد العالمي، باعتبارها المتحكم في الاحتياطيات الأكبر لمصادر الطاقة التقليدية، والمنتج الرئيسي لها، بجانب الأهمية الجيوسياسة التي تمتلكها، نظراً لموقعها وتشابك مصالحها وأدوارها الاقتصادية مع مختلف الاقتصادات المتقدمة والصاعدة، ناهيك عن النامية، حول العالم.

بداية الأزمة:

رغم أن الاستهداف الأمريكي لقاسم سليماني مثَّل الحلقة الأقوى في سلسلة التصعيد الأمريكي-الإيراني الأخير، لكن هذه العملية جاءت رداً على استهداف ميليشيا "الحشد الشعبي" العراقية المدعومة والمُمولة إيرانياً لقاعدة عسكرية أمريكية في كركوك شمال العراق، بعشرات القذائف، ورداً أيضاً على اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، في عملية هى الأولى من نوعها مُنذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.

وتتزايد أهمية تلك الخطوة في ظل الدور الذي كان يقوم به سليماني وموقعه في النظام الإيراني، لاسيما أن "فيلق القدس" الذي كان يقوده هو الذي يدير العمليات الخارجية في الحرس الثوري، ويعد "رأس الحربة" في التدخلات الإيرانية في دول المنطقة، كما هو الحال في العراق وسوريا، وبشكل أو بآخر في لبنان واليمن. ورغم تركُز التصعيد الأمريكي ضد إيران في الجانب العسكري خلال الأيام الماضية، لكنه يأتي ضمن سياسة أمريكية تستخدم الضغوط الاقتصادية كنهج لمعاقبة وممارسة ضغوط على إيران، وقد شملت هذه الضغوط عقوبات على القطاعين المالي والنفطي الإيرانيين، ما تسبب في تأزيم الأوضاع الاقتصادية الداخلية في إيران.

أبعاد متشابكة:

إذا كانت العقوبات الاقتصادية الأمريكية تركزت آثارها على الاقتصاد الإيراني، فإن التصعيد الأخير بين الطرفين سوف ترتد آثاره الاقتصادية السلبية على منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام. وقد بدأت تلك الآثار في الظهور بشكل جلي على أسواق النفط العالمية، التي شهدت ارتفاعاً في الأسعار تجاوز الـ 4% في أول جلسات التداول بعد مقتل سليماني، وسجلت الأسعار أعلى مستوى لها منذ شهور، وجاء هذا الارتفاع في ظل ترقب سوق النفط لمدى احتمالية أن يقود التصعيد إلى تعطل المعروض النفطي سواء من منطقة الشرق الأوسط ككل أو من بعض أو أحد منتجي النفط الرئيسيين في المنطقة.

ويعتمد ذلك بالطبع على رد الفعل الإيراني، ومدى استهدافه وتأثيره على البنى التحتية لقطاع النفط في المنطقة. وفي العموم، فإن إيران قد تلجأ إلى استهداف بعض البنى التحتية للقطاع في المنطقة، خصوصاً وأنها ليس لديها الكثير لتخسره فيما يتعلق بالنفط، فهى تعاني صعوبة كبيرة في تصدير نفطها بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. وفي حال حدوث ذلك، فإن أسواق النفط قد تتعرض لصدمة تفقدها حالة الاستقرار النسبي التي تمتعت بها على مدى الشهور الماضية.

وفي حالة استمرار تفاقم الأوضاع الجيوسياسية والتصعيد المضاد بين الجانبين الأمريكي والإيراني، فإن أسواق النفط ستشهد المزيد من مظاهر عدم الاستقرار، وقد تتعرض الأسعار إلى ارتفاعات استثنائية لم تشهدها منذ سنوات، وهو ما سيكون سبباً في زعزعة الاستقرار الاقتصادي العالمي ككل، لاسيما وأن التوترات في المنطقة لا تنعكس على أسعار النفط بشكل مباشر فقط، بل إنها ترفع تكاليف النقل والتأمين بشكل يفرض آثاراً سلبية على نمو الاقتصاد العالمي وخاصة على الصين والدول الصناعية الصاعدة التي تعتمد على استيراد النفط من المنطقة. كما أن الدول المتقدمة كذلك تواجه ضغوطاً إضافية على الاقتصاد الكلي وعلى شركاتها التي تعتمد على التصدير بشكل كبير، ولاسيما إلى منطقة الشرق الأوسط.

ولا تقتصر الآثار السلبية المحتملة للتصعيد الأمريكي- الإيراني، ولاسيما في حال تحوله إلى نزاع مفتوح وحرب صريحة بين الطرفين، على الجانب النفطي، بل إنها قد تمتد إلى جميع القطاعات الاقتصادية غير النفطية، ولن تقتصر على منطقة الشرق الأوسط، بل ستطال مختلف مناطق العالم.

وقد شهدت أسواق المال الإقليمية والعالمية بدايات وإرهاصات تلك الآثار، لتعكس التأثير السلبي للتصعيد الأمريكي- الإيراني على معنويات المستثمرين حول العالم، الذين يرون في هذا التصعيد بمثابة "الشرارة" التي يمكن أن تشعل فتيل أزمة جديدة معقدة في المنطقة.

ففي تعاملات الأسواق الأوروبية انخفض مؤشر داكس الألماني بنسبة 1.25%، وخسر مؤشر بورصة باريس 0.52%، وفي آسيا تراجع مؤشر نيكاى الياباني بنسبة 0.76%، وسجلت بورصة هونغ كونج انخفاضاً بنسبة 0.32%. وفي الولايات المتحدة تراجع مؤشر ستاندرد آند بورز بنسبة 0.71%، وفقد مؤشر داو جونز ما نسبته 0.81%. 

وتشير هذه التطورات إلى أن أى تصعيد عسكري بين الطرفين من شأنه أن يدفع إلى المزيد من الخسائر في أسواق المال، والتأثير بالسلب على معنويات المستثمرين حول العالم، الذين سيتجهون بشكل أكبر إلى الملاذات الآمنة، حيث ستظل التخوفات من التداعيات المتوقعة مسيطرة على قراراتهم.

وبالفعل، فقد قفزت أسعار الذهب خلال الأيام الماضية إلى أعلى مستوياتها في أربعة أشهر، واخترقت حاجز 1,550 دولاراً للأوقية. كما هبطت عوائد السندات الحكومية في منطقة اليورو، فتراجعت عوائد السندات الألمانية لأجل 10 سنوات، إلى أدنى مستوياتها في أسبوعين، وسجلت عوائد السندات الإسبانية أدنى مستوى لها في شهرين. وفي الولايات المتحدة سجلت عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات أقل مستوى لها في ثلاثة أسابيع.

وختاماً، فإن الحالة الاقتصادية العالمية الآن تتسم بحساسية عالية، بما يجعلها عرضة لانتكاسات كبيرة في حال اندلاع أى صدام عسكري بين طرفين في أى منطقة من العالم، وهذه الحساسية تزداد كلما ازدادت أهمية المنطقة التي تشهد هذا الصراع، ونظراً للأهمية الكبيرة لمنطقة الشرق الأوسط، فإن حساسية الاقتصاد العالمي لأى صدام عسكري بها كبيرة للغاية، وهو ما سيعكسه ما تحمله الأيام المقبلة من تصعيد أو هدوء محتمل في النزاع بين طهران وواشنطن.