اختبار البلديات:

كيف تهدد خسارة رئاسة إسطنبول مستقبل نظام "أردوغان"؟

29 June 2019


تعرض حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بزعامة الرئيس "أردوغان"، لضربة كبرى بعد خسارته انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول، أكبر مدن تركيا وعاصمتها الاقتصادية، التي أُجريت يوم الأحد 23 يونيو. حيث فاز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض "أكرم إمام أوغلو" برئاسة البلدية بعد حصوله على نسبة 54.21% من أصوات الناخبين، في حين حصل مرشح حزب العدالة والتنمية "بن علي يلدرم" على نسبة 44.99%، وذلك بفارق بلغ نحو 806 آلاف صوت، ليفقد بذلك حزب العدالة والتنمية سيطرته على إسطنبول للمرة الأولى في تاريخه منذ وصوله للحكم في عام 2002. وقد أُعيدت هذه الانتخابات بعد الطعون التي تقدم بها حزب العدالة والتنمية للجنة الانتخابات بعد خسارة مرشحه "بن علي يلدرم" رئاسة إسطنبول في الانتخابات المحلية التي أُجريت في 31 مارس الماضي، وذلك على أمل انتزاعها مرة أخرى من المعارضة.

وتشكل خسارة إسطنبول هزيمة شخصية للرئيس التركي "أردوغان" الذي أصرّ على إعادة الانتخابات، ومارس ضغوطًا على اللجنة العليا للانتخابات في هذا الصدد، وقدم دعمًا غير محدود لمرشحه "بن علي يلدرم"، على أمل استعادة المدينة مرة أخرى من المعارضة، فضلًا عن كون إسطنبول المدينة التي بدأ منها "أردوغان" مشواره السياسي عندما ترأس بلديتها في التسعينيات، وكانت سببًا في صعود نجمه على الساحة السياسة التركية لما حققه من إنجازات كبرى بالمدينة خلال رئاسته لها.

شعبية متراجعة:

أُعيدت انتخابات رئاسة مدينة إسطنبول بناء على قرار اللجنة العليا للانتخابات، في 6 مايو 2019، بإلغاء فوز مرشح المعارضة "أكرم إمام أوغلو" برئاسة البلدية في الانتخابات المحلية التي أُجريت في 31 مارس الماضي، بدعوى تعيين رئيس ومدراء لجنة الانتخابات في إسطنبول أعضاء ورؤساء لصناديق اقتراع من غير موظفي الدولة بالمخالفة للقانون، وقد جاء قرار اللجنة بعد طعون تقدم بها حزب العدالة والتنمية، وضغوط سياسية مارسها الرئيس "أردوغان" على اللجنة بمطالبته أكثر من مرة بإعادة الانتخابات، بدعوى "أن هناك عمليات تلاعب واحتيال"، ليصل الأمر إلى حد مطالبته صراحة اللجنة العليا للانتخابات، في 4 مايو 2019، قبل يومين من قرارها بشأن الطعون، بإعادة الانتخابات قائلًا: "من الواضح أنه تم ارتكاب تجاوزات وفساد. وعبر إلغاء كل ذلك، ستريح اللجنة الانتخابية العليا ضمائر مواطنينا".

وقد أسفرت انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول، التي أُجريت في 23 يونيو الجاري، عن فوز مرشح تحالف الأمة المعارض، الذي يضم حزبي الشعب الجمهوري والجيد، "أكرم إمام أوغلو"، برئاسة البلدية بعد حصوله على 54.21% من الأصوات بواقع 4 ملايين و741 ألفًا و868 صوتًا. فيما خسر مرشح تحالف الشعب، الذي يضم حزبي العدالة والتنمية الحاكم والحركة القومية، "بن علي يلدرم"، بعدما حصل على نسبة 44.99% من الأصوات بواقع 3 ملايين و935 ألفًا و453 صوتًا، أي إن "إمام أوغلو" تقدم على "يلدرم" بفارق 806 آلاف و385 صوتًا بنسبة 9.22%.

وبمقارنة عدد الأصوات والنسب التي حصل عليها كلا المرشحين في انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول بتلك التي حصلا عليها في الانتخابات المحلية التي أُجريت في 31 مارس الماضي، نجد تراجعًا كبيرًا في شعبية حزب العدالة والتنمية. ففي انتخابات مارس الماضي، فاز "أوغلو" برئاسة إسطنبول بفارق 0.16% بواقع 13 ألفًا و729 صوتًا فقط، بعدما حصل على 4 ملايين و169 ألفًا و765 صوتًا بنسبة 48.77% من الأصوات، مقابل حصول "يلدرم" على 4 ملايين و156 ألفًا و36 صوتًا بنسبة 48.61% من الأصوات، في حين فاز "أوغلو" في انتخابات الإعادة بفارق 806 آلاف و385 صوتًا، أي إن الفارق زاد بنحو 792 ألفًا و656 صوتًا. 

كما تُظهر هذه المقارنة نجاح "أوغلو" في رفع نصيبه من الأصوات بأكثر من 5% بواقع حوالي 572 ألف صوت، مقابل تراجع نصيب "يلدرم" من الأصوات بنسبة 3.6% بأكثر من 220 ألف صوت. ويضاف لما سبق، أن نتائج البلديات الفرعية الـ39 في إسطنبول تُظهر بوضوح أن "يلدرم" قد تراجع فيها جميعها، وأن "إمام أوغلو" قد تقدم فيها جميعها بلا استثناء، فضلًا عن نجاح "أوغلو" في الحصول على الأغلبية في 28 بلدية فرعية، مقابل 11 بلدية فاز فيها "يلدرم"، وهو ما يعكس حجم التراجع الكبير في شعبية حزب العدالة والتنمية.

أسباب الخسارة:

يمكن إرجاع أسباب هزيمة مرشح حزب العدالة والتنمية إلى مجموعة من الأسباب والتي يمكن توضيحها فيما يلي:

1- إنقاذ الديمقراطية في تركيا: فقد تحولت انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول من مجرد تنافس على منصب رئيس البلدية إلى معركة لإنقاذ الديمقراطية في تركيا من ممارسات حزب العدالة والتنمية والرئيس "أردوغان" بعد الضغوط التي مارسوها على اللجنة العليا للانتخابات لإلغاء فوز مرشح المعارضة "إمام أوغلو"، وهو ما أثار استياءً كبيرًا لدى الناخبين الأتراك الذين اعتبروا القرار تهديدًا للمسار الديمقراطي في تركيا، وأن التصويت لصالح مرشح المعارضة هو إنقاذ للديمقراطية التركية، وتعبير عن رفضهم لقرار إعادة الانتخابات، وقد نجحت المعارضة في تحويل المعركة الانتخابية في هذا الاتجاه.

2- تكتل أحزاب المعارضة التركية خلف "إمام أوغلو": فبجانب تحالف حزبي الشعب الجمهوري والجيد في "تحالف الأمة"، فقد سحبت بعض أحزاب المعارضة الصغيرة مرشحيها في انتخابات الإعادة معلنة دعمها "إمام أوغلو" في مواجهة مرشح حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسها: اليسار الديمقراطي، والشيوعي التركي، والحزب الديمقراطي التركي، هذا فضلًا عن دعم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي منذ الجولة الأولى للانتخابات، حيث لم يقدم من الأساس مرشحًا في مواجهة "أوغلو".

3- فشل محاولات "أردوغان" استمالة الصوت الكردي: فقد أعلنت الحكومة التركية، في 13 مايو، إلغاء القرارات التي كانت تحظر لقاء زعيم حزب العمال الكردستاني "عبدالله أوجلان"، بمحاميه، حيث يقضي عقوبة السجن مدى الحياة في سجن "إمرالي". وفيما يبدو أنها تفاهمات قد حدثت بين الحكومة التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني، حيث وجّه "أوجلان"، في 20 يونيو، رسالة إلى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي دعاه فيها إلى التزام الحياد في انتخابات الإعادة لرئاسة إسطنبول، وهي الدعوة التي رفضها حزب الشعوب الديمقراطي، متهمًا الرئيس "أردوغان" بمحاولة الوقيعة بين الحزب و"أوجلان"، بهدف تعزيز فرص مرشحه "يلدرم" في الانتخابات.

وقد انعكست محاولات "أردوغان" لجذب أصوات الأكراد أو على الأقل ثنيها عن دعم مرشح المعارضة "إمام أوغلو" سلبًا على حظوظ مرشحه "يلدرم" في الفوز بالانتخابات، حيث أدى ذلك إلى عزوف عدد من القوميين الأتراك، خاصة أنصار حليفه حزب الحركة القومية المعادي للأكراد، عن منح أصواتهم لـ"يلدرم"، وربما استشعر "أردوغان" ذلك قبل انطلاق الانتخابات، ما دفعه للخروج لينفي وجود "عملية سلام داخلية" جديدة في تركيا.

4- استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد: فبحسب معهد الإحصاء التركي الحكومي، وصل معدل التضخم في تركيا إلى 18.71% في مايو 2019، مقارنة بـ12.15 في مايو 2018. وبلغت نسبة البطالة 14.1% في مارس 2019، ليرتفع عدد العاطلين في تركيا إلى نحو مليون 334 ألفًا مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.

كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2019 بنسبة 2.6% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، وانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 4% في أبريل 2019 مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق. ويضاف لما سبق فقدان الليرة التركية نحو نصف قيمتها أمام الدولار، منها أكثر من 30% العام الماضي ونحو 15% منذ بداية هذا العام، ليبلغ سعر صرف الدولار الواحد أكثر من 6 ليرات تركية.

تداعيات متعددة:

تلعب مدينة إسطنبول، العاصمة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لتركيا، دورًا هامًّا في تحديد ورسم مستقبل من يحكم تركيا، عملًا بقاعدة "من يفُزْ بإسطنبول يَفُزْ بتركيا كلها"، ويرجع ذلك إلى كونها أكبر مدن تركيا من حيث عدد السكان الذين يتجاوز عددهم 15 مليون نسمة ليشكلوا 18.4% من عدد سكان تركيا، وتعد مركزها الاقتصادي والمالي، فهي تملك نحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي لتركيا، وهو ما يجعلها مقياسًا لتوجهات الناخبين الأتراك في أي انتخابات مقبلة. ومن هذا المنطلق، من المتوقع أن تكون لنتيجة هذه الانتخابات تداعيات هامة على مستقبل حزب العدالة والتنمية والمشهد السياسي في تركيا عمومًا.

فعلى صعيد حزب العدالة والتنمية، من المرجّح ضغط عددٍ من القيادات التاريخية المؤسِّسة للحزب، وعلى رأسهم: رئيس الوزراء الأسبق "داود أوغلو"، ورئيس الجمهورية الأسبق "عبدالله جول"، لإجراء عملية مراجعة شاملة لأداء الحزب وسياساته في الفترة الأخيرة للوقوف على الأسباب التي أدت إلى تراجع شعبيته، ومحاسبة واستبعاد المسئولين عن ذلك، خاصة وأن "أوغلو" و"جول" وجَّها مؤخرًا انتقادات علنية لأداء الحزب وسياساته، وتراجع الديمقراطية والحريات في تركيا، فضلًا عن رفضهما قرار إعادة انتخابات إسطنبول.

ومن المتوقّع اتجاه "أوغلو" و"جول" وغيرهما من القيادات التاريخية التي تم تهميشها في السنوات الأخيرة، للانشقاق عن حزب العدالة والتنمية، وتأسيس حزب جديد إن لم يتم إدخال التغييرات اللازمة على سياسات الحزب وهيكله القيادي، بحيث تترجم هذه التغييرات ملاحظاتهم وتمنحهم أدوارًا قيادية داخل الحزب.

وفيما يتعلق بمستقبل المشهد السياسي في تركيا، تُشكّل نتائج انتخابات إسطنبول دفعة قوية للمعارضة في مواجهة حزب العدالة والتنمية الذي لم يتعرض لأية هزيمة انتخابية منذ عام 2002، وحافزًا لها لإمكانية هزيمته في الاستحقاقات الانتخابية القادمة عبر نفس الاستراتيجية التي انتهجتها في الانتخابات المحلية الأخيرة وانتخابات إسطنبول المعادة، وهي توحيد مرشحيها والتنسيق الجيد فيما بينها في مواجهة مرشحي الحزب الحاكم لمنع تفتيت الأصوات، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالية توسيع تحالف الأمة المعارضة ليضم أحزابًا أخرى بجانب حزبي الشعب الجمهوري والجيد.

وانطلاقًا من أن "حكم تركيا يبدأ من البلديات"، فقد أصبحت المعارضة، برئاستها بلدية إسطنبول وغيرها من البلديات الكبرى التي انتزعتها من حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية التي أُجريت في مارس الماضي، أمام اختبار حقيقي لإثبات أنها قادرة على أن تكون بديلًا لحزب العدالة والتنمية، وقيادة تركيا في المستقبل، والاستعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها في عام 2023، وذلك من خلال تنفيذ برامجها وتقديم مزيد من الخدمات للمواطنين، وتحقيق إنجازات في البلديات التي تديرها، وفي حال فشلها في ذلك فسيكون من السهل على حزب العدالة والتنمية استعادة زمام المبادرة مرة أخرى.

كما أن رئيس بلدية إسطنبول "إمام أوغلو"، باتت أمامه فرصة كبيرة لطرح نفسه كمنافس للرئيس "أردوغان" في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2023، شريطة أن يحقق العديد من الإنجازات في إسطنبول التي تثبت أنه قادر على حكم تركيا، بما يوسع ويرسخ قاعدته الشعبية في عموم البلاد، خاصة وأن البعض يشبه بداية صعود "إمام أوغلو" بقصة صعود الرئيس "أردوغان" عندما فاز برئاسة بلدية إسطنبول في عام 1994، وحقق العديد من الإنجازات بالمدينة خلال فترة رئاسته لها، ما ساهم في صعود نجمه على الساحة السياسية التركية، ليتمكن من حكم تركيا لنحو 16 عامًا متواصلة.

وفي الختام، فقد أكدت خسارة حزب العدالة والتنمية لانتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول بفارق أكبر عن خسارته لها في الانتخابات المحلية التي أجريت في شهر مارس الماضي، التي خسر فيها أيضًا رئاسة نحو 10 بلديات كبرى وولايات، التراجع المستمر لشعبية الحزب في الشارع التركي، وهو ما يشكل فرصة كبيرة لأحزاب المعارضة لتعزيز تواجدها في الشارع التركي استعدادًا لانتخابات عام 2023.