عودة "الدولة العميقة":

من يحسم صراع شبكات المصالح في احتجاجات الجزائر ؟

11 March 2019


تزايد الجدل في الجزائر بعد إعلان الرئيس بوتفليقة عدم نيته لفترة رئاسية جديدة عقب تصاعد حدة الاحتجاجات، وتوالي الاستقالات من قبل أعضاء الحزب الحاكم وبعض التنظيمات السياسية الموالية للنظام وإعلان انضمامهم للمتظاهرين، وتصاعدت التساؤلات حول "من يخلف بوتفليقة؟"، ويتخوف البعض من أن يكون البديل أحد أفراد النظام السابق الذين تمت إقالتهم بواسطة الرئيس "بوتفليقة"، حيث يحاول بعضهم العودة مجددًا إلى الحكم من خلال اختراق التظاهرات وإعلان تأييدهم لها.

الدولة العميقة: 

أفرزت الأزمة السياسية التي تشهدها الجزائر حاليًّا ثلاث قوى متعارضة في المصالح، ويعتمد كل منها على الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي لاستعراض قوته وإرسال رسائل لباقي الفئات الأخرى. وتتمثل القوة الأولى في النظام الحاكم بمختلف مكوناته: الرئاسة، وقيادة الجيش، ورجال الأعمال، والنخب المدنية القريبة من النظام، إلى جانب بعض وسائل الإعلام الخاصة، ويلاحظ أن مصالحهم قد تختلف في هذه المرحلة.

أما القوى الثانية فتتمثل في الدولة العميقة وشبكاتها، التي استطاع الرئيس "بوتفليقة" في عام 2015، إبعادها عن دوائر صناعة القرار. وترى بعض التحليلات أنها تضم بعض العناصر من الذين كانوا موجودين داخل نظام الحكم أو في القوات المسلحة وتم إقصاؤهم. وخلافًا لما يتصوره البعض من انهيار الدولة العميقة، فإنها لا تزال تحتفظ بكامل قوتها وأذرعها السياسية الأمنية والمالية، وترتبط أيديولوجيًّا وفكريًّا بباريس، وتوصف بأنها من أدوات تثبيت الهيمنة الفرنسية في الجزائر، كما تمكنت بعض عناصر الدولة العميقة من إنشاء أحزاب سياسية، واختراق المجتمع المدني وجمعياته الأهلية. 

وتتمثل القوى الثالثة في المحتجين المشاركين في الحراك الشعبي الرافض للعهدة الخامسة ولاستمرار نظام الحكم الحالي والمحيطين به، ويفتقد هذا الطرف لقيادة منظمة، بالإضافة إلى غياب الخطاب الموحد باستثناء الإصرار على رفض العهدة الخامسة، كما أن كثيرًا من المشاركين في هذا الحراك لا يدركون طبيعة العلاقة والصراع الدائر بين نظام الحكم وشبكات الدولة العميقة. 

صراع العودة: 

رأت الدولة العميقة وشبكاتها منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في 22 فبراير 2019 أنها أمام فرصة تاريخية لتغيير موازين القوى الحالية، والعودة إلى مراكز صناعة القرار في نظام الحكم، وذلك من خلال احتواء الحراك الشعبي، ومحاولة توظيفه لإسقاط منظومة حكم الرئيس "بوتفليقة". وهو ما أدركته قيادة الجيش، حيث وصف الفريق "أحمد قايد صالح" (رئيس الأركان ونائب وزير الدفاع) الحراك الشعبي بـ"المغرر بهم"، في إشارة إلى شبكات الدولة العميقة، وهو ما يرتبط بتحذير الرئيس "بوتفليقة" للمتظاهرين من مغبة اختراق حراكهم ونشر الفوضى: "اختراق هذا التعبير السلمي من طرف أية فئة غادرة داخلية أو أجنبية التي قد تؤدي إلى إثارة الفتنة وإشاعة الفوضى وما ينجر عنها من أزمات وويلات".

يُضاف إلى هذا تصريح اللواء المتقاعد "علي غديري" الذي قال إنه يراهن على طوفان بشري يحمله إلى قصر الرئاسة، ومن ثم يراهن البعض على الحراك الشعبي للعودة إلى السلطة من جديد. من جانب آخر، قامت بعض الحركات ورجال الأعمال، ممن لهم علاقة متوترة بالنظام، بالانضمام إلى المتظاهرين، على الرغم من أنهم يحملون رؤى وأيديولوجيات مخالفة لهذا الحراك الشعبي. 

وفي هذا الإطار، قام المتظاهرون برفع لافتات وشعارات تنادي بإسقاط الدولة العميقة ومرشحيها، وتندد بأتباع فرنسا في الجزائر، وفي الوقت الذي رفعت فيه الجماهير الجزائرية سقف مطالبها من إنهاء العهدة الخامسة إلى الدعوة لإقامة الجمهورية الثانية، يُحاول نظام الحكم والدولة العميقة اختزال الصراع في ثنائية بوتفليقة-غديري، حيث يبذل نظام الحكم جهودًا جبارة لإقناع الحراك الشعبي بأن مشروع العهدة الخامسة سيحول دون عودة شبكات الدولة العميقة إلى مراكز القرار، ومن ثم فإن رفض استمرار منظومة حكم "بوتفليقة" سيُمكّن الدولة العميقة من العودة إلى السلطة من جديد.

وحاولت شبكات الدولة العميقة تحريف الحراك الشعبي عن مقاصده التي اندلع من أجلها، وحصر مطالب المتظاهرين في تغيير النظام واستقالة الرئيس "بوتفليقة"، من خلال تفعيل المادة 102 من الدستور وإعلان منصب رئيس الجمهورية شاغرًا، وقد يحقق هذا المطلب أهداف المتظاهرين بشكل جزئي، إلا أنه يصب في مصلحة الدولة العميقة وشبكاتها، لأن أهم مطلب خرج من أجله غالبية الجزائريين هو إسقاط العهدة الخامسة، وتأجيل الانتخابات وتشكيل حكومة كفاءات وطنية تتولى الإشراف على المرحلة الانتقالية.

استقالات متعددة: 

سُربت مقاطع صوتية مسجلة يزعم البعض أنها محادثة بين مدير الحملة الانتخابية للرئيس "بوتفليقة" "عبدالمالك سلال" ورئيس منتدى أرباب الشركات، وتدور حول احتمالية اللجوء إلى استخدام العنف للسيطرة على المتظاهرين وتحجيمهم. وبغض النظر عن صحة هذا التسجيل من عدمه فإنه قد أثار جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى إثر هذا قام النظام بإقالة "عبدالمالك سلال"، وتصاعدت التساؤلات حول هوية من قام بالتسريب، سواء أكان مزيفًا أو صحيحًا، ويميل البعض إلى الاعتقاد بأنه من صنع شبكات الدولة العميقة لإحداث تصدعات في معسكر الرئيس ومنظومة حكمه.

وتوالت الانشقاقات والاستقالات بعد هذا التسريب في صفوف العديد من الأحزاب السياسية، ونوادي رجال الأعمال، والنقابات، والجمعيات الأهلية، حيث أعلن عدد كبير من أعضائها استقالتهم وانضمامهم إلى الحراك الشعبي الرافض للعهدة الخامسة، وهو ما ينطبق على منتدى رجال الأعمال الذي يُعتبر أهم كيان مالي موالٍ للرئاسة، حيث أعلن أكثر من 60 عضوًا من كبار المقاولين (الذين كان بعضهم مقربًا من المسئولين الذين تم إقصاؤهم) استقالتهم وتأييدهم للحراك الشعبي الرافض للعهدة الخامسة، الأمر الذي ترتب عليه إضعاف منتدى رجال الأعمال الممول الرئيسي لحملات الرئيس "بوتفليقة".

كما شهدت تنظيمات أخرى الظاهرة ذاتها، فقد أعلنت العديد من الفروع النقابية المحلية المنضوية تحت لواء الاتحاد العام للعمال الجزائريين انشقاقها عن القيادة، وتأييدها للمتظاهرين الرافضين لعهدة خامسة، وهو الأمر ذاته الذي حدث في نقابات التربية المستقلة التي أعلنت تأييدها لمطالب الحراك الشعبي. 

من جانب آخر، أعلنت منظمة المجاهدين (قدماء المحاربين في الثورة)، إلى جانب منظمات أبناء الشهداء، وجمعية قدماء عناصر الاستخبارات (وزارة التسليح والاتصالات العامة)، ونقابة المحامين، عن دعمها للحراك الشعبي ضد استمرار حكم الرئيس المنتهية ولايته. كما تقدم بعض النواب الأعضاء في الحزب الحاكم وأحزاب جبهة القوى الاشتراكية وحزب العمال باستقالتهم من الحزب الحاكم.

ختامًا، كان من المتوقع أن ينتهي مشروع العهدة الخامسة، ويتم تأجيل الانتخابات الرئاسية حيث كان يصعب عقدها في موعدها المقرر في أبريل 2019 بالنظر إلى حالة الانقسام المجتمعي التي تشهدها الجزائر حاليًّا، كما أن المجلس الدستوري كان يواجه العديد من الضغوط لرفض ملف ترشح الرئيس "بوتفليقة" لأسباب صحية، بالإضافة إلى أن عنوان مجلة "الجيش" في عددها الأخير الصادر في مارس 2019 جاء كالتالي "تعزيز الرابطة جيش - أمة"، وأكدت افتتاحية المجلة "مدى تماسك الشعب مع جيشه، وتلاحمهما، وترابط مصيرهما، وتوحد رؤيتهما للمستقبل".