مأزق الصّور:

لماذا استقال وزير الخارجية الإيراني "جواد ظريف" من منصبه؟

26 February 2019


الصور لا تتحدث، لكنها توحي بمعانٍ ودلالات تكون -في أحيان عديدة- أكثر تأثيرًا من الكلمات. وبدا ذلك جليًّا في حالات كثيرة كان آخرها تغيب، أو ربما بمعنى أدق، تغييب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن اللقاءات التي عقدها كبار المسئولين الإيرانيين، وفي مقدمتهم المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي والرئيس حسن روحاني مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي قام بزيارة إيران، في 25 فبراير 2019، وهو السبب "المُعلن" الذي دفعه إلى تقديم استقالته في اليوم ذاته عبر حسابه على موقع "إنستجرام".

ورغم وجاهة هذا السبب الذي يعطي انطباعًا مباشرًا بأن وزارة الخارجية الإيرانية لم يعد لها دور بارز في إدارة علاقات إيران الخارجية، إلا أن ذلك لا ينفي أن الصور ربما تطرح دلالات أخرى لا تقل أهمية عن الخطوة الأخيرة التي اتخذها ظريف، والتي قد يعدل عنها في النهاية، وفقًا لتقارير عديدة نشرتها وكالات الأنباء الإيرانية.

تهميش روحاني:

أهم هذه الدلالات، هو تعمد عدم إشراك الرئيس حسن روحاني نفسه في اللقاء الذي جمع المرشد خامنئي مع بشار الأسد، وهو اللقاء الذي حضره كبار المسئولين في مكتب المرشد، على غرار مدير مكتبه آية الله محمدي كُلبايكاني، ومستشاره للعلاقات الدولية وزير الخارجية الأسبق علي أكبر ولايتي.

وهنا، فإن هذه الخطوة توحي بأن القيادة العليا في إيران، ممثلة في خامنئي، كانت تريد توجيه رسالة مباشرة بأن الملف السوري ليس من صميم صلاحيات الرئيس، وإنما يدخل ضمن الملفات التي يتحكم خامنئي نفسه في إدارتها وضبط إيقاع تحركات إيران فيها. 

والمفارقة هنا أن هذه الرسالة لا تبدو موجهة فقط إلى الخارج، وإنما إلى الداخل أيضًا، باعتبار أن القيادة كانت تريد تأكيد أن الضغوط التي تتعرض لها إيران، خاصة على المستوى الاقتصادي، لن تدفعها إلى التراجع عن تقديم الدعم لحليفها السوري، وهو الدعم الذي يعتبره النظام حيويًّا لمواصلة أدواره في الخارج.

كذلك، لا يقل أهمية ما تطرحه الصورة الثانية التي جمعت روحاني مع الأسد من معانٍ عما تضمنته الأولى من رسائل. فقد التقى روحاني مع الأسد في حضور قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني. 

وهنا، فإن المعنى المباشر لذلك، هو أن الحرس الثوري، وليس وزارة الخارجية، هو الجهة التي تدير وتضبط اتجاهات الحضور الإيراني في سوريا، أو بعبارة أدق تنفذ السياسات التي يضعها المرشد، باعتباره أنه الذي يتولى في الأساس صنع القرار الإيراني في هذا الملف.

ولذا، كان أول تعليق لظريف على صور لقاءات الأسد في طهران، هو تأكيده أنها "أفقدته اعتباره كوزير خارجية أمام العالم"، وذلك في رده على سؤال لصحيفة "انتخاب" الإيرانية، مشيرًا -في سياق آخر- إلى أن هذه الخطوة تهدف إلى الدفاع عن الدور الذي تقوم به وزارة الخارجية. كما كان أول رد فعل من جانب الرئيس روحاني على استقالته هو تأكيده أن الرئيس السوري قدم الشكر لوزارة الخارجية، وهو تأكيد لا يخلو من مبالغة بدليل تغيب رئيس الجهاز الدبلوماسي عن لقاء الأسد، وربما عدم علمه أصلًا بالزيارة، بعد أن أشارت تقارير عديدة إلى أنه كان يجتمع بوفد من النشطاء الأجانب في التوقيت ذاته تقريبًا.


غياب العَلَم:

فضلًا عن ذلك، أثارت الصور جدلًا واسعًا حول تغيب العلم السوري عن لقاءات الأسد في طهران وما يكشفه من دلالات. وإذا كان هذا الأمر ربما يكون معتادًا في لقاءات المرشد الأعلى مع المسئولين الأجانب، فإنه كان مثيرًا لتساؤلات عديدة خلال لقاء الرئيس مع الأسد تحديدًا.

وهنا، ربما يمكن القول إن ذلك مثّل مؤشرًا على حرص إيران على تأكيد نفوذها داخل سوريا، باعتبار أن لها دورًا في صنع قرارها وتحديد مستقبل نظامها، أو دعمها للأسد شخصيًّا في مواجهة الأطراف التي تنادي بإخراجه من السلطة بعد تغير توازنات القوى لصالح النظام في الفترة الأخيرة.

جبل الجليد:

مع ذلك، لا يمكن القول إن تغييب ظريف عن لقاءات الأسد في طهران كان السبب الوحيد الذي دفعه للاستقالة. إذ يبدو أن هذه الخطوة تمثل قمة جبل الجليد الذي تظهر قمته، فيما يختفي القسم الأكبر منه في المياه. ورغم أن ذلك لا يبدو سببًا قليل الأهمية، باعتبار أنه يعني أن وزارة الخارجية الإيرانية لم تكن هي الجهة المخوّلة من الجانب الإيراني بترتيب الزيارة؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة أسبابًا أخرى ربما دفعت ظريف إلى اتخاذ هذه الخطوة الأخيرة.

فقد تعرض ظريف لضغوط سياسية داخلية لا تبدو هينة خلال الفترة التي تلت قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 8 مايو 2018، بالانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية مجددًا على إيران، حيث تم تحميله قسمًا من المسئولية عن تراجع العوائد الاقتصادية التي أكدت الحكومة أن إيران ستحصل عليها بعد الوصول إلى الاتفاق النووي مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015.

واستند تيار المحافظين الأصوليين إلى اللقاءات مع بعض المسئولين الأمريكيين، في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وعلى رأسهم وزير الخارجية الأسبق جون كيري، لاتهامه بتقديم تنازلات أمام الضغوط الأمريكية مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية وتكنولوجية متواضعة ثبت أنها لا تتوافق مع الطموحات التي روجت لها الحكومة في مرحلة ما بعد الإعلان عن الصفقة النووية.

كما مارس الأصوليون ضغوطًا قوية على ظريف بدت جلية في استدعائه أكثر من مرة لتوجيه أسئلة إليه داخل مجلس الشورى، وعرقلة محاولاته، إلى جانب الرئيس روحاني، لتمرير توقيع إيران على بعض الاتفاقيات الدولية الخاصة بمكافحة غسيل الأموال ودعم الإرهاب. 

بل إن هناك من كان يشكك في الأساس في توجهات ظريف، سواء بسبب اجتماعاته المتعددة مع جون كيري، أو إقامته لفترة طويلة داخل الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تعليمه الجامعي وعمله السابق كمندوب لإيران في الأمم المتحدة.

وفي ضوء ذلك، يمكن القول -في النهاية- إنه بصرف النظر عما إذا كانت استقالة ظريف نهائية أم لا، في ظل المساعي التي تُبذل لإقناعه بالعودة إلى ممارسة مهام منصبه؛ فإنها على الأقل ألقت حجرًا في مياه راكدة، باعتبار أنها كشفت عن عمق الأزمة السياسية داخل إيران، بفعل الأزمات الداخلية والضغوط الخارجية التي تتعرض لها، والتي ربما تتصاعد حدتها في المرحلة القادمة.