المكانة الأخلاقية:

الأدوار المتعددة للفاتيكان في بناء السلام العالمي

06 February 2019


تصاعد دور دولة الفاتيكان خلال العقود الماضية كأحد الأطراف المساهمة في منظومة السلام العالمي. إذ تأسس هذا الدور على الاستدعاء للمفاهيم الأخلاقية والمعيارية في السياق العالمي كمحاولة لتأطير أو وضع حدود للاعتماد المتزايد على المقاربات الواقعية في السياق العالمي، وما أفضى إليه ذلك من تزايد الصراعات والأزمات. 

وفي هذا الإطار، طرح الفاتيكان نفسه باعتباره من القوى الأخلاقية في النظام العالمي التي تخاطب الطبيعة الخيّرة للبشر، وتستحضر هذه الطبيعة كآلية لمعالجة الأزمات. هذه المكانة الأخلاقية للفاتيكان تحدثت عنها "لان تشو" في دراستها عن "دبلوماسية الفاتيكان في الصين وفيتنام"؛ حيث أشارت إلى أن "المكانة الأخلاقية المعيارية التي يحظى بها الفاتيكان، والتعاطي معه على أنه كيان إنساني يحظى بالاحترام العالمي؛ ربما يدفع بعض الدول، مثل الصين وفيتنام، إلى إقامة علاقات مع الفاتيكان كآلية لإضفاء جانب رمزي يساعدها في علاقاتها الخارجية". 

محدِّدات الدور: 

يُشكل تعريف "ليفي" للدور بأنه "بمثابة مركز متميز للفاعل في نطاق نسق أو بنيان اجتماعي معين"، واحدًا من المداخل التفسيرية الهامة للدور الذي باتت تضطلع به دولة الفاتيكان خلال العقود الماضية. فالدولة هي مركز المسيحية الكاثوليكية في العالم التي سعت عبر عقود -بحسب "ألان تشونج"- إلى إحياء رؤية الكنسية كقوة خيرة تخدم المسيح، وتقدم خدماتها الروحية، وتُعزز نفوذها بين أتباعها من الكاثوليك في العالم الذين يُقدر عددهم بأكثر من مليار شخص.

وهذه العلاقة مع أتباع الكاثوليكية جعلت من الفاتيكان نموذجًا للقوة الناعمة التي تحدث عنها "جوزيف ناي"، بحيث يتمكن من تحقيق أهدافه عبر الإقناع ومصادر التأثير الديني. وهكذا تمكن الفاتيكان من صياغة دور له في النظام العالمي يطمح إلى تحقيق السلام والاستقرار. وقد ارتبط هذا الدور بعددٍ من المحدِّدات الجوهرية تتمثل فيما يلي:

1- إعادة صياغة السياسة الخارجية: حيث اضطلع بابوات الفاتيكان عبر عقود بدور كبير في إعادة صياغة دور الفاتيكان في النظام العالمي لإضفاء المزيد من الزخم على السياسة الخارجية للدولة ونفوذها الروحي الخارجي، ولا سيما مع ترويج المجمع الفاتيكاني الثاني لمهمة إنسانية عالمية، والإشارة بأن "الكنيسة يمكن أن تسهم في جعل العالم أكثر إنسانية". وفي هذا الإطار، ربما يكون البابا "يوحنا بولس الثاني"، الذي تولى قيادة الفاتيكان في الفترة من أكتوبر 1978 حتى إبريل 2005، من أبرز النماذج في التاريخ المعاصر للفاتيكان. 

فقد سعى البابا "يوحنا بولس" إلى صياغة دور مؤثر للسياسة الخارجية للفاتيكان في خضم الحرب الباردة، والتزم البابا بالتكريس لدور أكبر للكنيسة الكاثوليكية استنادًا إلى أربعة مبادئ أساسية: حماية استقلال الكنيسة، واحترام كرامة الإنسان، والمشاركة الدينية، والمصالحة مع العديد من الدول، والاهتمام بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما سعى البابا إلى الحفاظ على مهمة رجال الدين ورسالتهم، ولذا حثهم على عدم التورط في السياسة الحزبية، أو حتى تفسير المسيحية على أساس الأفكار الماركسية.

وكشفت تصورات البابا "يوحنا"، الذي وصفته الكثير من الأدبيات بأنه فاعل جيوبوليتيكي هام في السياسة العالمية آنذاك، عن مساحة جديدة للسياسة الخارجية للفاتيكان استمرت في التمدد حتى بعد رحيله وقدوم بابوات جدد دعموا صورة الفاتيكان كمساهم في السلام العالمي، ووسيط في النزاعات التي شهدتها العديد من الدول، فضلًا عن الدعوة إلى نزع السلاح النووي الذي يهدد السلام والاستقرار العالميين.

2- إعادة بناء الصورة: تطلّب الحفاظ على سمعة الفاتيكان وصورته الأخلاقية التعامل مع الإرث التاريخي  للكنيسة الكاثوليكية، ولا سيما مع التحولات التي شهدتها أدوات السياسة الخارجية والعلاقات بين الدول والمجتمعات، والتركيز على الصورة الخارجية للفاعلين العالميين. أو بمعنى آخر، بحسب "فان بيتر هام"، "الانتقال من عالم الحداثة القائم على الجغرافيا السياسية والسلطة إلى عالم ما بعد الحداثة المستند بشكل جوهري إلى الصور والنفوذ".

حيث اعتذر البابا "يوحنا بولس الثاني" أثناء قداسٍ له في ديسمبر 2000 عن العنف الذي ارتكبته الكنيسة الكاثوليكية في الماضي. وكرر هذا الاعتذار البابوات اللاحقون بمن فيهم البابا الحالي، البابا "فرانسيس"، الذي تقدم باعتذار علني وطلب المغفرة عن "الخطايا الجسيمة" التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية لخدمة الاستعمار.

3- الانفتاح الخارجي: إذ سعى الفاتيكان إلى تبني سياسة الانفتاح الخارجي على كافة القوى العالمية، ومحاولة تقليل الخلافات التاريخية مع بعض الدول مثل الصين، وهي خلافات تعود إلى سنوات طويلة نتيجة للسياسات الشيوعية التي انتهجتها بكين، وإخضاع الكنيسة المحلية لسيطرة الحزب الشيوعي الصيني، ورفض إقامة علاقة بين الكنيسة المحلية في الصين والفاتيكان، وخصوصًا مع قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. 

وقد أفضت سياسة الانفتاح التي تبناها الفاتيكان تجاه الصين إلى التوقيع على اتفاق بين الدولتين في سبتمبر 2018، بموجبه يمكن للفاتيكان الإدلاء برأيه في تعيين الأساقفة، ويمنح البابا سلطة رفض المرشحين. وبالرغم من أن هذا الاتفاق وصفه الفاتيكان بأنه اتفاق "رعويّ" وليس "سياسيًّا"، إلا أنه يحمل في طياته احتمالات عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين.

واستكمل الفاتيكان سياسة الانفتاح الخارجي بالانفتاح على الأديان والمذاهب الأخرى والتعايش معها، متجاوزًا بذلك أطروحات الصراع والصدام بين الحضارات والأديان. وفي هذا السياق، تبرز أهمية وثيقة الأخوة الإنسانية التي تم التوقيع عليها بحضور شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان يوم 4 فبراير 2019 في ختام منتدى حوار الأديان بدولة الإمارات. فالوثيقة تدعو إلى التسامح والتصالح بين أتباع الديانات المختلفة. 

الوساطة في الصراعات:

منحت المعطيات السابقة للفاتيكان رصيدًا للتدخل في الصراعات، وبذل جهود الوساطة لتحقيق الاستقرار العالمي، ناهيك عن الحذر في تأييد قرارات الدول بالدخول في حروب على غرار ما حدث إبان حرب العراق 2003، حينما رفض الفاتيكان الذي كان يترأسه آنذاك البابا "يوحنا بولس الثاني" الغزو الأمريكي للعراق، ورأى البابا حينها أن "الأمر بمثابة اعتداء على الأرواح والممتلكات لبلد مستقل". 

وظهر دور الفاتيكان في منظومة السلام العالمي من خلال عدد من الملفات الهامة، منها على سبيل المثال: الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ يقيم الفاتيكان علاقات مع كل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ويتبنى موقفًا من الصراع يقوم على تدويل القدس، وبالتالي رفض الاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، بالإضافة إلى التأكيد على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم ضمن إطار حل الدولتين. وفي يونيو 2015، وقّع الفاتيكان اتفاقية مع السلطة الفلسطينية دعم من خلالها الفاتيكان موقفه الملتزم بحل الدولتين، وقد عُدَّت الاتفاقية بمثابة اعتراف ضمني بفلسطين كدولة.

وتُشير الخبرة التاريخية لمسار وساطة الفاتيكان إلى استحواذ أمريكا اللاتينية على اهتمام كبير من جانب الكنيسة الكاثوليكية، وقد تجلى ذلك الأمر في الوساطة التي تزعمها الفاتيكان بين الأرجنتين وتشيلي خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لتسوية نزاعهما حول حقوق السيادة في قناة بيغل. فقد تدخل الفاتيكان في النزاع بين الدولتين من خلال إرسال البابوية الكاردينال "أنطونيو ساموري" إلى الدولتين لقيادة جهود الوساطة التي بدأت بشكل رسمي أثناء احتفالية بالفاتيكان في مارس 1979. ونجحت جهود الوساطة في إقناع تشيلي والأرجنتين بالتوقيع على اتفاقية عام 1984 داخل الفاتيكان لينتهي النزاع بين الدولتين.

وقام الفاتيكان أيضًا بدور في الانفتاح الأمريكي على كوبا أثناء إدارة الرئيس الأمريكي السابق "أوباما"، فقبل إعلان الإدارة الأمريكية في ديسمبر 2014 عن توجهها إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، كتب البابا "فرانسيس" لكلٍّ من الرئيسين "باراك أوباما" و"راؤول كاسترو" معبرًا عن رغبته في تطبيع العلاقات بين الدولتين. كما أن بعض التقارير أشارت إلى اجتماع وفود من الدولتين داخل الفاتيكان في أكتوبر 2013 لمناقشة شروط استعادة العلاقات الثنائية. وذكر "بن رودس" الذي شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي في إدارة "أوباما"، أنه "خلال زيارة أوباما للفاتيكان في مارس 2014، ناقش البابا فرانسيس قضية العلاقات الأمريكية الكوبية أكثر من أي قضية أخرى".

وتُقدّم الأزمة الفنزويلية هي الأخرىنموذجًا لوساطة الفاتيكان، فمع احتدام الصراع بين المعارضة والرئيس "نيكولاس مادورو" على خلفية الأوضاع الاقتصادية المتردية، والشكوك حول مدى كفاءة إدارة الدولة، وانتشار الفساد تحت حكم "مادورو"؛ تدخل الفاتيكان، وسعى إلى جمع أطراف الصراع للحوار، وخصوصًا بعد لقاء الرئيس الفنزويلي بالبابا "فرانسيس" في أكتوبر 2016، وتأكيد البابا على ضرورة الحوار كآلية لحل الأزمة.

ربما تستمر جهود الفاتيكان في الوساطة، حتى مع الحديث عن انتهاء دور الفاتيكان، فالرئيس "مادورو" بعث خلال شهر فبراير 2019 برسالة إلى بابا الفاتيكان يطلب منه فيها القيام بدور الوساطة في الأزمة السياسية الفنزويلية. ولكن يظل دور الفاتيكان هنا محفوفًا بعددٍ من التحديات، لعل أهمها موقف القوى الدولية من الأزمة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي ترفض أي مبادرات للوساطة في الأزمة الفنزويلية، وتتمسك برحيل الرئيس "مادورو".

ختامًا، إن استمرار الدور الذي يقوم به الفاتيكان في السياق العالمي مرتبطاً بقدرته على الحفاظ على صورته الأخلاقية، وحياديته، وعدم ارتهان سياسته الخارجية لأبعاد براجماتية كتلك التي تحكم سياسات بعض الدول؛ وهو الرصيد الأهم الذي تستند إليه جهود وساطة الفاتيكان في خضم الصراعات المعقدة.