دبلوماسية جيواقتصادية:

محفزات تعزيز الشراكة بين فرنسا والخليج

08 May 2015


شكلت دعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند لزيارة الرياض لحضور القمة الاستشارية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية التي عقدت في الرياض يوم 5 مايو الجاري، كضيف شرف، سابقة في تاريخ قمم مجلس التعاون وشرفاً دبلوماسياً لم يحظ به أي زعيم دولة غربية من قبل.

هذه الدعوة جاءت في إطار مساعي الطرفين لبناء "شراكة استراتيجية"، عكستها كلمتَي العاهل السعودي، والرئيس الفرنسي الذي استفاض في رسم معالم الشراكة، انطلاقاً من تفهم هواجس المنطقة وحساباتها وحاجاتها في هذه المرحلة الصعبة، عندما قال "إن التهديدات التي تواجه الخليج تواجه فرنسا.. علينا التنبه لتصرفات إيران"، و"تجاوزنا تعاون الدفاع إلى مجالات أخرى للتعاون، وما مشاركتي في الاجتماع الخليجي إلا علامة على الثقة التي تحظى بها فرنسا".

وأكد أولاند أن زيارته للسعودية اكتسبت طابعاً استثنائياً، يشمل جميع الجوانب، في حين أكد الملك سلمان بن عبدالعزيز أن الأطماع الخارجية تتركز في توسيع النفوذ، وزرع الفتنة الطائفية، وإن لم يذكر إيران بالاسم.

وفي الواقع تكتسب استضافة الرئيس الفرنسي لحضور القمة الخليجية دلالة خاصة، ليس فقط بالنظر إلى سياق العمليات العسكرية العربية التي تقودها الرياض ضد الحوثيين والتمدد الإيراني في اليمن، بل لكونها أيضاً تستبق قمة "كامب ديفيد" التي سوف تعقد يومي 13 و14 مايو الجاري بين قادة دول الخليج والرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومن بين مواضيعها دراسة المخاوف الخليجية من مشروع الاتفاق النووي النهائي المرتقب بين إيران والدول الغربية الكبرى، الذي من المفترض أن يقر قبل نهاية يونيو المقبل.

السياسات الفرنسية تجاه قضايا المنطقة

تكشف التحركات الفرنسية الأخيرة في الخليج عن تبلور اتجاه جديد في الدبلوماسية الفرنسية إزاء المنطقة، حيث نجح الرئيس فرانسوا أولاند في رسم سياسة خارجية فرنسية تراهن على تحالف استراتيجي مع الرياض في غضون سنوات قليلة، لاسيما منذ الزيارة الأولى التي قام بها أولاند إلى جدة في نوفمبر 2012، لإعادة الدفء للعلاقات بين باريس والرياض بعد أن عرفت فتوراً دبلوماسياً خلال ولاية ساركوزي، مع الحفاظ على العلاقات المتميزة مع الدول الخليجية الأخرى، لاسيما قطر والإمارات، حيث أُرسيت منذ تلك الزيارة قواعد كثيرة ومتينة على التفاهم الفرنسي- السعودي، مع تعزيز لافت للعقود التجارية والصفقات الاقتصادية الضخمة.

ولم تُخفِ فرنسا استياءها من المفاوضات السرية بين طهران وواشنطن، والتي احتضنتها سلطنة عمان منذ عام 2013، وهي المفاوضات التي مهدت لتسريع وتيرة التوصل إلى اتفاق لوزان المرحلي في 2 أبريل الماضي، فباريس تخشى من أن تكون هناك صفقة سرية أمريكية ـ إيرانية على حساب الشركات الفرنسية واستثماراتها المستقبلية في إيران.

وكانت للرياض وباريس نفس الرؤى بخصوص التحولات السياسية التي عصفت أخيراً بالمنطقة العربية، خصوصاً دعم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد ثورة 30 يونيو 2013 ضد حكم الإخوان، والإصرار على استبعاد نظام بشار الأسد من أي تسوية مستقبلية للأزمة السورية.

وشاركت فرنسا في الحرب ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، إلى جانب الدول الخليجية، في إطار التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة منذ خريف عام 2014، حيث أرسلت باريس حاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديجول" إلى مياه الخليج العربي.

وعندما قررت الرياض إطلاق "عاصفة الحزم" ضد الانقلاب الحوثي في اليمن في 26 مارس الماضي، كانت باريس من أول المؤيدين لهذه المبادرة في بيان رسمي أصدره قصر الإليزيه، وأعلن فيه الدعم الفرنسي الكامل للشرعية في اليمن في مواجهة التهديدات الإيرانية.

وأرسل أولاند مباشرة بعد التوصل إلى اتفاق "لوزان" المرحلي، وزير خارجيته لوران فابيوس إلى الرياض للتأكيد على ثبات الموقف الفرنسي بخصوص الملف النووي الإيراني، وعزم باريس على عدم التوقيع على اتفاق نهائي حول الملف النووي الإيراني من دون ضمانات قوية وملموسة.

الأبعاد السياسية للتحركات الفرنسية

يمكن قراءة المواقف الفرنسية في المنطقة من الزاوية السياسية من خلال مجموعة من الملاحظات، من أبرزها:

1 ـ تأتي التحركات الفرنسية تجاه منطقة الخليج في إطار مساعي فرنسا لترميم مصداقيتها وسعيها لأن تظهر كقوة عظمى، خاصة في ظل أزمتها الاقتصادية الداخلية، وتراجع مكانتها الأوروبية لصالح ألمانيا.

2 ـ تهدف باريس إلى استغلال امتعاض دول الخليج من إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي خذلت الآمال السعودية مرتين: المرة الأولى كانت في الموقف الأمريكي المتذبذب تجاه نظام بشار الأسد وفرملة عملية عسكرية دولية وشيكة، كانت فرنسا متحمسة لها بشكل كبير، لتقويض نظامه في نهاية أغسطس 2013 عندما استخدم السلاح الكيماوي. والمرة الثانية عندما انخرطت واشنطن في مفاوضات سرية مع طهران وضغطت بكل ثقلها للتوصل إلى صيغة اتفاق مرحلي في لوزان يوم 2 أبريل الماضي بشأن الملف النووي، تمهيداً لاتفاق نهائي في يونيو المقبل، بما يرفع العقوبات الدولية عن إيران ويعيدها بقوة إلى الأسرة الدولية؛ وهو الأمر الذي لا تتحمس له باريس كثيراً بسبب اعتقاد راسخ في هرم الدولة الفرنسية بالدور السلبي المزعزع للاستقرار الذي تلعبه إيران بشكل متزايد في المنطقة العربية.

3 ـ تحاول باريس استثمار مخاوف الدول العربية من تعاظم المطامع الإيرانية في الخليج والشرق الأوسط لتعزيز العلاقات الفرنسية ـ الخليجية على وجه خاص، وتأدية دور الحليف الاستراتيجي للعرب في مواجهة التمدد الإيراني.

4 ـ يُشكل تورط إيران في الأزمة السورية وامتداد نفوذها إلى شرق المتوسط مصدر قلق كبير لفرنسا، إذ يسود اعتقاد فرنسي راسخ بأن إيران عامل أساسي من عوامل زعزعة الاستقرار في الخليج والشرق الأوسط بشكل عام.

5 ـ تبدو باريس قلقة بشكل كبير من تورط حزب الله في الحرب الأهلية السورية واحتمالات امتدادها إلى لبنان التي تُعرف على نحو خاص كمنطقة ذات أولوية عليا للمصالح الفرنسية.

6 ـ ثمة اتجاه قوي في دول مجلس التعاون نحو "عولمة أمن خليجي"، إضافة إلى انتهاج سياسة "الاعتماد على الذات عسكرياً"، كخيارات أمنية جديدة لمواجهة الهيمنة الإيرانية، وتمكنها في الوقت نفسه من تقليل اعتمادها المطلق على الحماية الأمريكية. وربما جاءت زيارة الملك سلمان، حين كان ولياً للعهد، إلى الصين واليابان وباكستان والهند في مايو 2014، في إطار تفاهمات استراتيجية جديدة للتعويض عن تراجع التفاهمات التقليدية مع الولايات المتحدة.

7 ـ إن توجه الرياض إلى "شراكة استراتيجية" مع فرنسا يعني، في جوهره، مراجعة العلاقات مع الولايات المتحدة، بسبب الحرص الأمريكي الشديد على توقيع الاتفاق النووي النهائي مع إيران، وما قد يترتب عليه في نظر دول الخليج من تغييرات عميقة في معادلات المنطقة، وإخلال بالتوازن بين العرب وإيران لصالح الأخيرة إذا ما تستطع واشنطن مقابلة هذه الأطماع الإيرانية في المنطقة، والتي بات العديد من المسؤولين في إيران يعبرون عنها بشكل صريح.

الأبعاد الاقتصادية للتحركات الفرنسية

يعود تصاعد التقارب الفرنسي مع دول الخليج العربية إلى رغبة باريس في تحقيق مقولة إن "السياسة اقتصاد مكثّف"، إذ تسعى باريس إلى انتهاج "الدبلوماسية الاقتصادية"، أي استثمار مواقفها السياسية في منافع تجارية واقتصادية.

في هذا السياق عقدت فازت فرنسا بعقود تبلغ قيمتها نحو 15 مليار دولار في مجال الدفاع في المنطقة خلال العام الماضي 2014، فضلا عن صفقة أسلحة فرنسية منحتها السعودية للبنان في أواخر نفس العام بقيمة 3 مليارات دولار.

وفي مارس الماضي، أعلنت الإمارات أنها توصلت لاتفاق مع المجموعة الحكومية الفرنسية لصناعة الأسلحة "جيات إند استريز"، يسمح باستئناف تسليم دبابات "لوكلير" للجيش الإماراتي وفق الشروط الإماراتية، بعد سنوات من تعطل إتمام الصفقة المقدرة بحدود 3.4 مليار دولار؛ بسبب خلاف على تفسير العقد.

ووقع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في 4 مايو الجاري، صفقة قيمتها 7 مليار دولار لبيع 24 طائرة مقاتلة من طراز "رافال" التي تنتجها شركة "داسو" للطيران. ويتضمن العقد، وهو الثالث لشركة "داسو" بعد صفقتين لبيع طائرات "رافال" لكل من مصر والهند، صواريخ "إم.بي.دي.إيه" وتدريب 36 طياراً قطرياً و100 فني على أيدي خبراء من الجيش الفرنسي.

وقد ذكر وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، يوم 5 مايو الجاري، أن بلاده تبحث مع السعودية 20 مشروعاً اقتصادياً ضخماً، يمكن استكمالها سريعاً. وتتضمن مجالات عديدة من بينها الدفاع والطيران المدني والنقل والطاقة، مع توقعات بطلبات جديدة لشراء طائرات من "إيرباص" الأوروبية، ومفاوضات بشأن البنية التحتية لمشروعات خطوط سكك حديدية في مدن جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة.

ووفق بيانات وزارة التجارة والصناعة السعودية، فإن حجم التجارة المتبادلة مع فرنسا يتجاوز 44 مليار ريال سنويا (11.7 مليار دولار). ويميل الميزان التجاري بين البلدين لصالح المملكة بنسبة 60%، بفضل صادرات النفط. وبلغت الاستثمارات الفرنسية في السعودية نحو 15 مليار دولار في مختلف القطاعات في نهاية عام 2012، وذلك وفق بيانات السفارة الفرنسية في المملكة.

وتعد السعودية شريك اقتصادي تاريخي لفرنسا، حيث بلغ التبادل التجاري بين البلدين 10 مليارات دولار، كما أن فرنسا أبرمت أخيراً صفقة ضخمة مع السعودية بقيمة 1.3 مليار يورو لإنشاء مترو الرياض، وهناك تعويل فرنسي قوي على السعودية وبقية دول الخليج من أجل احتضان المزيد من الاستثمارات الفرنسية، وتعويض خسائر فرنسا المحتملة في السوق الإيرانية".

وفي المقابل، تسعي دول الخليج إلى الخروج من إطار العلاقة الحصرية مع الولايات المتحدة، سواء عبر الاعتماد على النفس في صياغة الشراكات الاقتصادية الإقليمية والدولية أو بالاستثمار مع الشركات الفرنسية وغيرها.

أخيراً، يمكن القول إن توجه دول الخليج نحو بناء "شراكة استراتيجية" مع فرنسا أمر منطقي وخيار عقلاني، ففرنسا دولة ذات مستوى عسكري وعلمي متطور، ودائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وتبقى مصدراً لتأمين مواقف مشابهة مع مواقف دول الخليج في مجملها، حتى وإن كان لا يتوافر لباريس الإمكانات التي تؤهلها لمنافسة واشنطن في التأثير أو الشراكة مع دول الخليج.

وعلى سبيل المثال احتل الاقتصاد الفرنسي خامس أقوى اقتصاد في العالم والثاني أوروبياً في عام 2010، لكن بات الاقتصاد الفرنسي في عام 2015 من الاقتصاديات الأوروبية المريضة، إذ ذكر بنك "برينبيش" الألماني إن الاقتصاد الفرنسي بات يحتل المركز الـ 13 من بين 17 دولة أوروبية، ورغم هذا المركز، إلا أنه يظل متقدماً على الاقتصاد الإيطالي المنهار، وتحت الاقتصاد الإسباني المنهار بدرجة"، حيث ارتفع معدل البطالة في فرنسا إلى أعلى مستوى في 15 عاماً ليبلغ حوالي 10%، كما انزلق ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو إلى الركود والانكماش، حيث يبلغ الدين العام لفرنسا 2 تريليون يورو (2.5 مليار دولار).