تهميش الدبلوماسية:

حدود الارتباط بين تصاعد "العسكرة" وتراجع النفوذ الأمريكي

12 November 2018


عرض: أحمد عبدالعليم - باحث دكتوراه في العلوم السياسية

تراجع دور وزارة الخارجية الأمريكية على مدار السنوات الأخيرة في العديد من القضايا والأزمات الدولية، في مقابل تصاعد كبير لدور المؤسسة العسكرية والوكالات الاستخباراتية، وهو الأمر الذي بلغ ذروته في عهد الرئيس الحالي "دونالد ترامب" الذي لا يكترث كثيرًا بالدبلوماسية، ومكانتها كأحد الأدوات الرئيسية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية في ملفات متعددة.  

وفي هذا الإطار يأتي كتاب "الحرب على السلام: نهاية الدبلوماسية وانحسار النفوذ الأمريكي" للكاتب والصحفي الأمريكي "رونان فارو"، الذي بدأ حياته المهنية كموظف في وزارة الخارجية الأمريكية، حيث يتناول الكتاب تقلُّص وتراجع دور الوزارة مؤخرًا، وانتقال العديد من الملفات الهامة من وزارة الخارجية إلى البنتاجون والوكالات الاستخباراتية. وقد اعتمد الكاتب في كتابه بصورة أساسية على لقاءات مع كبار الدبلوماسيين وبعض المسئولين في الاستخبارات.

العسكرة والأمننة:

يشير فارو إلى أن التراجع في دور الدبلوماسية الأمريكية ليس بالأمر الجديد، أو مرتبط بإدارة "ترامب" فقط، لكنه يرى أن ذلك يعود لعقود مضت، حيث حاول بعض الرؤساء الأمريكيين (الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء) تقليص نفوذ وزارة الخارجية لصالح المؤسسات العسكرية والاستخباراتية. ويضيف أن ذلك التراجع التدريجي قد بدأ منذ إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش" الأب في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وصولاً إلى الرئيس السابق "باراك أوباما"، وكذلك في عهد إدارة الرئيس الحالي.

ويضرب المؤلف بعض الأمثلة على ذلك، حيث يشير إلى أن الدبلوماسية الأمريكية تراجعت في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون"؛ لتحويله جزء كبير من موارد السفارات الأمريكية في الخارج، والبرامج التنموية الدولية لصالح الاقتصاد المحلي. ثم جاء الرئيس "جورج دبليو بوش" الذي أعطي أولوية للحرب الأمريكية على الإرهاب، والحلول العسكرية عن الحلول الدبلوماسية والسياسية.

يرى فارو أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 قد شكلت منعطفًا خطيرًا باتجاه عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، والاعتماد على القادة العسكريين في المناصب الرئيسية للتفاوض، وهو ما أدى إلى التركيز على الحلول العسكرية بدلًا من الدبلوماسية والسياسية. بيد أن هذا التوجه والحرب على الإرهاب وعلى العراق قد أحدث فوضى أكثر مما تحقق من أمن وسلام للولايات المتحدة بحسب المؤلف.

وبالرغم مما أظهره الرئيس "أوباما" من احترام للدبلوماسية الأمريكية، إلا أنه فعليًا - حسب الكتاب - كان أكثر عسكرة للسياسة الخارجية الأمريكية من إدارة "بوش" الابن، حيث أنه في عهده قامت الولايات المتحدة ببيع أسلحة أكثر من أي دولة أخرى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية. ويشير فارو إلى صادرات الأسلحة الأمريكية زادت إلى الضعف تقريبًا خلال عهد الرئيس السابق.

تحجيم ترامب للدبلوماسية:

يشير فارو إلى أن سلوك الرئيس "ترامب" تجاه الدبلوماسيين لم يسبق له مثيل، ويمكن توصيفه بعدم تقدير أو اهتمام بالأدوار الدبلوماسية، وقد انعكس ذلك في تقديم عدد كبير من الدبلوماسيين الأمريكي استقالتهم، علاوةً على أن الرئيس قام بإقالتة بعضهم من مناصبهم، وتعيين آخرين ليسوا من وزارة الخارجية في مناصب دبلوماسية.

ويسفر المؤلف ذلك برغبة "ترامب" في تحجيم هيئات دبلوماسية يري أنها تلتهم ميزانية ضخمة بشكل سنوي، ولتفضيل الرئيس بشكل شخصي الحلول السريعة الناجزة، ولرؤيته أن القوة العسكرية يمكن أن تحقق له ذلك، أما الدبلوماسية بطبيعتها بطيئة ومجزأة، وتحتاج لبعض الوقت والتفاوض من أجل تحقيق الأهداف.

ويبرز المؤلف أن هناك عوامل عدة ساعدت "ترامب" في هذا التوجه، ومن أهمها أن هناك تواطؤ من جانب بعض وسائل الإعلام في ذلك، في ظل عدم تناول مثل تلك الأمور الهامة بشكل مكثف وموضوعي. ويصف فارو توجُّه ترامب السياسي بأنه قضى على الدبلوماسية الأمريكية، وحل بديلًا عنها الفوضى والاضطراب والتهديد بالقوة، ويرى أن تعيين "ريكس تيلرسون" كوزير للخارجية (استقال من منصبه في مارس ٢٠١٨)، وهو مسئول تنفيذي في شركة نفطية ليس لديه أي خبرة سياسية، هو أبرز مثال على ما وصلت إليه الدبلوماسية الأمريكية، ودليل على سحب البساط من وزارة الخارجية بالكامل، بل وتهميشها.

ويري فارو أن تعيين المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية "مايك بومبيو" كوزير للخارجية في مارس عام 2018 خلفًا لـ"تيلرسون" هو مثال آخر على عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما يحمل ضمنيًا معنى أنه لا دبلوماسية خلال سنوات حكم الرئيس "ترامب".

نماذج مختلفة:

يشير فارو إلى أن تراجع الدبلوماسية الأمريكية كان لصالح دور أبرز للجيش والاستخبارات، وأن التركيز على تسليح بعض الميليشيات المسلحة لحروب بالوكالة نيابة ًعن الولايات المتحدة، وتحقيقًا لمصالحها، كان ذا أثر عكسي على الأمن القومي الأمريكي. ولعلَّ أبرز مثال على ذلك قيام وكالة الاستخبارات الأمريكية خلال ثمانينيات القرن الماضي بتقديم الدعم المالي والعسكري لحركة طالبان في أفغانستان من أجل تقويض الاتحاد السوفيتي، وهو ما كان بداية لظهور إرهابيين أكثر تهديدًا لواشنطن فيما بَعد. وهو ما يعكس مدى تأثير هذا النهج السيء على الأمن القومي للولايات المتحدة.

ويضرب المؤلف أمثلة على ما يحدث في الصراع السوري منذ عام 2011، وتقديم الولايات المتحدة الدعم لبعض الجماعات المسلحة من أجل تحقيق أهدافها في مواجهة الخصوم الموجودين على الأراضي السورية، والذي كان أحد الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار في سوريا بشكل خاص، وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. 

يصف فارو التعامل الأمريكي مع الشرق الأوسط بأنه تعامل خاطئ؛ لأن فيه إبعاد للحلول الدبلوماسية، وهو ما قد يعيد إنتاج فيتنام جديدة بالمنطقة. ولذا يري أن إبعاد الدبلوماسية عن الطاولة يأتي في أكثر وقت يحتاج فيه العالم إليها أكثر من أي شيء أخر.

 ويعتبر المؤلف أن الحرب في أفغانستان عام ٢٠٠١ هي المثال الأبرز على أن السياسية الخارجية الأمريكية همش العمل الدبلوماسي، حيث اختارت الولايات المتحدة الاعتماد على شركاء محليين أغلبهم من أمراء الحروب والمسلحين من أجل تنفيذ الأعمال القتالية، الذي ارتكبوا مجازر إنسانية في أعقاب التدخل الأمريكي، رغم قيامهم بأدوار لا يُقدَّر بثمن للولايات المتحدة في المرحلة المبكرة من تلك الحرب حسبما يشير الكاتب.

ويري فارو أن علاقة الولايات المتحدة مع باكستان هي نموذج آخر يتم فيه تهميش السياسة والدبلوماسية لصالح المسئولين العسكريين والاستخباراتيين الذي يقومون بعقد صفقات سرية خلف الأبواب المغلقة لا يكون للدبلوماسيين أي دور فيها.

يبرز الكاتب كون التخبُّط الحادث في السياسة الخارجية الأمريكية يمكن توضيحه من خلال التوجه نحو عقد صفقة مع إيران حول برنامجها النووي في عام ٢٠١٥ ثم التراجع عن ذلك في عام ٢٠١٨. كذلك فقد تم التوقيع على اتفاقية باريس لمكافحة التغير المناخي تم أعلن ترامب الانسحاب منها.

إعادة الاعتبار للدبلوماسية:

يشير فارو إلى أن إضعاف الدبلوماسية كان لصالح ازدهار صناعة السلاح الأمريكي، حيث أن شركات الأسلحة باتت اللوبي الأقوى اليوم داخل الولايات المتحدة. ويرى المؤلف أن منبع قوتهم من كونهم قوة متداخلة بعمق في جميع مؤسسات صنع القرار الأمريكي، علاوة ًعلى تمويلهم لمراكز فكر ومؤسسات بحثية تساعد في تحسين صورتهم الذهنية لدى المجتمع المحلي والدولي. ويضيف أن تلك الشركات تتعامل مع كل حرب أمريكية كأنها فرصة عظيمة للربح من أجل بيع أسلحة أكثر، وعقد صفقات أكبر. 

ويفترض المؤلف أن الدبلوماسيين هم في الغالب صانعوا سلام بينما رجال الجيش والاستخبارات أو العسكريين هم في الغالب دعاة حرب. ولذا فإن استمرار النهج الأمريكي المتعلق بإضعاف الدبلوماسية لصالح العسكرة هو نهج سيكون له تداعيات خطيرة على الأمن القومي الأمريكي. ويؤكد على أن السياسة الخارجية الأمريكية تشهد في الوقت الحالي تحولات هائلة حيث باتت الدبلوماسية مهددة بتقليص ميزانيتها، وكذلك تقليص أعداد موظفيها حتى أنها يمكن في وقت قريب أن تصبح وزارة الخارجية فارغة على حد قوله. 

وكلما زاد تهميش وزارة الخارجية في تشكيل السياسة الخارجية لصالح الجيش فإن ذلك يعني مزيد من الفشل في إيجاد حلول للمشاكل السياسية والأمنية التي تواجهها الولايات المتحدة في الخارج. ويؤكد ما شهدته واشنطن على مدار الربع القرن الماضي على ضرورة إعادة الأولوية مرة أخرى للدبلوماسية، وإعادة الاعتبار لوزارة الخارجية في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية.

المصدر:

Ronan Farrow, War on Peace: "The End of Diplomacy and the Decline of American Influence", (New York: W. W. Norton & Company, 2018).