إيران نموذجاً:

هل تضمن العقوبات الذكية تغيير سلوك الدول؟

31 October 2018


تصاعد توظيف الدول للعقوبات في التفاعلات الدولية، والتي أصبحت أداة أساسية ضمن استجابات الدول الغربية للعديد من التحديات الجيوسياسية بما في ذلك البرنامج النووي لكلٍّ من كوريا الشمالية وإيران، وتدخل روسيا في أوكرانيا، أو كرد على انتهاك القوانين الدولية، مثل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا على إثر اتهام بريطانيا للمخابرات الروسية بتسميم العميل الروسي المزدوج "سيرجي سكريبال" وابنته في مارس الماضي من خلال استخدام مادة الأعصاب "نوفيتشوك" المُنتَجة في روسيا. ويُثير ذلك جدلًا متصاعدًا حول مشروطيات فاعلية العقوبات ومدى تسببها في تغيير سلوك الدول، خاصة مع اقتراب تطبيق حزمة جديدة من العقوبات الأمريكية على إيران في نوفمبر 2018.

تطور أشكال العقوبات:

يُشار إلى أن العقوبات في أبسط تعريفاتها "إجراءات مقيدة للسلوك تفرضها دولة، أو مجموعة من الدول، أو مجلس الأمن، لإقناع فاعل ما بتغيير سلوكه وتقييده لمنعه من الانخراط في بعض الأنشطة المحظورة، ومنعه من انتهاك المعايير الدولية". وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أبرز أنماط العقوبات الدولية فيما يلي:

1- العقوبات الشاملة: تتضمن حظرًا واسع النطاق على التجارة والعلاقات الدبلوماسية، أو علاقات أخرى، وهو ما يؤدي إلى تضرر المسئولين عن الأنشطة المحظورة ومواطني الدولة أيضًا. فعلى سبيل المثال، سوف تقوم الولايات المتحدة بفرض عقوبات شاملة على قطاع الطاقة الإيراني في نوفمبر 2018، كما يوجد عدد من الأمثلة التاريخية لمثل هذه العقوبات، حيث تم فرضها على العراق إثر غزوها للكويت من قبل مجلس الأمن.

2- العقوبات الذكية: تركز هذه العقوبات على القادة وصانعي القرار وشبكات تحالفهم، كما أنها تستهدف قطاعًا واحدًا فقط، وهو ما يُخفف من تأثيرها على المواطنين، وقد تم اللجوء إلى استخدامها بعد التكاليف الإنسانية الضخمة للعقوبات الشاملة ضد العراق، فعلى سبيل المثال قامت وزارة الخزانة الأمريكية في أغسطس 2018 بفرض عقوبات على وزيري العدل والأمن الداخلي التركيين ردًّا على اعتقال القس الأمريكي "أندرو برانسون". وتتمثل أبرز أنماط العقوبات الذكية في: 

 أ- حظر شراء السلاح: أصدرت الولايات المتحدة قانونًا يُدعى "مكافحة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات"، وينص القانون على فرض العقوبات على الدول التي تقوم باستيراد الأسلحة من موسكو. وفي هذا السياق، قامت بفرض عقوبات على إدارة تطوير المعدات باللجنة العسكرية المركزية الصينية ومديرها "لي شانج- فو" بسبب شرائهم مقاتلات سوخوي وصواريخ أرض جو (إس-٤٠٠) من روسيا، حيث قامت بتجميد كل ممتلكاتهم في الولايات المتحدة، ومنع الأمريكيين من التعامل الاقتصادي معهم.

ب- تجميد الأصول المالية: فعلى سبيل المثال قام الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بتوقيع قانون في أكتوبر 2018 يقضي بفرض عقوبات إضافية مشددة على "حزب الله"، ومنها: تجميد أصولهم المالية، وإلغاء التأشيرات، وحظر الدخول إلى الولايات المتحدة.

ج- عقوبات دبلوماسية: حيث قررت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا و14 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي طرد دبلوماسيين روس على خلفية قضية تسمم الجاسوس الروسي السابق "سيرجي سكريبال" في بريطانيا.

د- حظر الطيران: أعلنت السلطات العراقية حظر الرحلات الجوية الدولية في كردستان في سبتمبر 2017 ردًّا على إجراء استفتاء الاستقلال، ولم يتم رفع الحظر عن هذه الرحلات إلا في مارس 2018. كما توجد العديد من العقوبات الأخرى، مثل: العقوبات المالية، وعادة ما يتم تطبيق حزمة من العقوبات المتنوعة، وقد يتم فرضها من مجلس الأمن مما يجعلها إلزامية لجميع الدول، أو يتم فرضها من دولة واحدة أو مجموعة من الدول.

دوافع معاقبة الدول: 

تفرض الحكومات الوطنية والهيئات الدولية (مثل: الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي) العقوبات بهدف إكراه وردع ومعاقبة الكيانات التي تُهدد مصالحها وتنتهك قواعد السلوك الدولية، وقد تستخدم العقوبات في تحقيق مجموعة من الأهداف، مثل: مكافحة الإرهاب، ومكافحة المخدرات، ومنع الانتشار النووي، ونشر الديمقراطية، وتعزيز حقوق الإنسان، وحل النزاعات، والأمن السيبراني.

وعلى الرغم من أن العقوبات الدولية تُعد أحد أشكال التدخل الخارجي، لكن عادةً ما يُنظر إليها على أنها مسار وسط بين الدبلوماسية والحرب، حيث قد يتم اللجوء إليها للاستجابة للأزمات الخارجية التي يكون العمل العسكري غير ممكن فيها، مثل قضية "سكريبال"، إذ لجأت إلى العقوبات كنوع من التضامن مع بريطانيا، ولانتهاك روسيا قواعد القانون الدولي، حيث ذكرت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان لها في أغسطس 2018 أن فرض العقوبات على روسيا جاء بسبب "أن الحكومة الروسية استخدمت أسلحة كيمياوية أو بيولوجية، في انتهاك للقانون الدولي، أو استخدمت أسلحة كيمياوية أو بيولوجية قاتلة ضد مواطنيها".

كما أنها كانت الأداة المناسبة في هذه الحالة، حيث لا يمكن استخدام القوة العسكرية المباشرة ضد موسكو، وفي الوقت نفسه يمكن من خلال استخدام هذه العقوبات الإضرار بالاقتصاد الروسي، والضغط على القيادة السياسية لتغيير سلوكها، وتقييد انخراطها في أنشطة محظورة. وعادةً ما يتم إصدار عقوبات مبدئية مع تقييم إمكانية فرض المزيد من الإجراءات العقابية التي قد تكون أشد أو أقل في درجة حدتها. فعلى سبيل المثال، فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات شاملة على العراق بعد أربعة أيام فقط من غزو "صدام حسين" للكويت في أغسطس 1990، ولم يأذن المجلس باستخدام القوة العسكرية إلا بعد أشهر.

شروط الفعالية:

يرى بعض المحللين أن العقوبات أداة غير فعالة في السياسة الخارجية، حيث إنها لم تُحقق في كثيرٍ من الأحيان الأهداف المبتغاة منها، بل كان لها -في كثيرٍ من الأحيان- تأثير عكسي، حيث تدعم النزعة القومية، وتدفع المواطنين إلى التضامن مع النظام السياسي في الدولة المستهدفة، فضلًا عن أنها قد تؤدي إلى حدوث كوارث إنسانية. فيما يجادل البعض الآخر بأن العقوبات الذكية تحقق بعض الأهداف، ويجب أن تبقى أداة رئيسية لدى صانعي السياسات. 

وتؤكد بعض الدراسات أن العقوبات ذات الأهداف المحدودة نسبيًّا قد تحقق نجاحًا أكبر من العقوبات الشاملة، فضلًا عن ذلك فإن العقوبات الاقتصادية قد تنجح في تحقيق التأثير الاقتصادي المرغوب، بيد أنها قد لا تتجاوز ذلك لتغيير سلوك الدولة ذاتها، ولكنها تمثل تعبيرًا احتجاجيًّا عن عدم الرضا عن تصرفات أو أنشطة دولة ما.وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى عددٍ من الشروط التي تحقق فعالية العقوبات:

1- وضوح الأهداف: حيث يجب على الدولة أن تقوم بتحديد مجموعة من الأهداف الصغيرة المؤثرة على سلوك الدولة المستهدفة، فعادةً ما تفشل العقوبات التي تهدف إلى تغيير النظام، حيث أشار تحليل منشور في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في سبتمبر 2018 إلى أن إدارة "ترامب" تهدف من وراء فرض العقوبات إلى تغيير النظام الإيراني، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال تصريحات الرئيس الأمريكي في مقابلة له مع "بلومبرج" في أغسطس 2018: "إن النظام الإيراني قد ينهار بسبب سياسات إدارته"، بيد أنه بحسب التحليل فإن العقوبات عادةً لا تحقق مثل هذه الأهداف، كما أن تأثيرها في إحداث تغيير طويل الأمد لسلوك النظام منخفض.

2- ارتفاع التكلفة: في حالة فرض العقوبات الاقتصادية يجب أن تكون هناك علاقات تجارية بين الدولة التي فرضت العقوبات والدولة المستهدفة، وألا تكون تكاليف العقوبات عالية بالنسبة للدولة التي تقوم بفرضها، بينما يجب أن تكون عالية التكلفة على الدولة المستهدفة، وعادةً ما تقوم الدول بتغيير سلوكها في حالة هذه العقوبات إذا كانت التكاليف السياسية لعدم الامتثال مرتفعة، في حين أنها قد تماطل أو ترفض الامتثال في حالة انخفاض التكلفة السياسية.

3- الدعم الدولي: كلما تصاعد عدد الحكومات التي تنفذ العقوبات تزايدت فعالية العقوبات. فعلى سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا في أغسطس 2018 تحظر توريد المنتجات ذات الاستخدام المزدوج إلى روسيا، بيد أن معظم هذه المنتجات قد تم حظر توريدها في إطار العقوبات التي فُرضت على موسكو في عام 2014 على إثر الأزمة الأوكرانية، كما افتقد هذا الحظر طابع التعددية، وهو ما أفقد هذه الحزمة طابع التأثير وارتفاع التكلفة السياسية على الدولة المستهدفة، كما أن الولايات المتحدة حاولت منع الهند من شراء النفط الإيراني، بيد أن وزيرة الخارجية الهندية "سوشما سواراج" صرحت في مايو 2018 بأن "الهند تلتزم فقط بالعقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة، وليس العقوبات أحادية الجانب مثل العقوبات الأمريكية"، وهو ما جعل هناك ثغرة في نظام العقوبات نظرًا لما تشكله الهند من سوق ضخمة للصادرات الإيرانية.

4- ديمقراطية النظام: عادةً ما تقوم المعارضة في الدول الديمقراطية باستغلال العقوبات للتنديد بسياسات النظام، وهو ما يجبر الحكومة على تغيير سلوكها للتقليل من العقوبات. فعلى سبيل المثال لم تؤدِّ العقوبات المفروضة على العراق لسنوات طويلة لتغيير سلوك النظام، ومن ثم اختارت الولايات المتحدة التدخل العسكري لتنفيذ الأهداف التي كان من المتوقع أن تحققها العقوبات، وهو ما يمكن أن ينطبق على إيران في ظل ارتفاع التكلفة السياسية لمعارضة النظام.

5- المحفزات الداعمة: حيث يتم ربط العقوبات بمجموعة من المحفزات التي تساعد في تعديل السلوك، مثل: المساعدات المالية، أو السماح للدولة بالاندماج في المجتمع الدولي، ودمجها في الاقتصاد الدولي.

6- المراجعة الدورية: إذ يجب أن تحدث مراجعة دورية للعقوبات يتم على أساسها زيادة العقوبات أو خفضها على أساس مدى التغيير الحادث في سلوك الدولة. فعلى سبيل المثال، قامت إدارة "ترامب" بإصدار قانون لرفع العقوبات الاقتصادية عن السودان في أكتوبر 2017 بعد إحراز الخرطوم تقدمًا في مجالي حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، إلا أن بعض المحللين يرون أن الدول سرعان ما تعود لسلوكها العدواني بعد رفع العقوبات، فعلى سبيل المثال بعد رفع بعض العقوبات عن إيران في أعقاب الاتفاق النووي الإيراني اتجهت طهران لارتكاب العديد من المخالفات للقانون الدولي، ومنها تزويدها للحوثيين بالصواريخ الباليستية.