توسع الهيمنة:

الاستراتيجية الإيرانية لتكريس النفوذ في شرق الفرات بسوريا

09 July 2018


سعت إيران خلال السنوات الماضية  لتثبيت وجودها السياسي والعسكري في شرق الفرات بسوريا على الرغم من الضغوط المتصاعدة من جانب القوى الإقليمية والدولية لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، إذ تركز طهران على استمالة العشائر العربية، والتشكيك في الدعم الأمريكي للأكراد، بالتوازي مع تقاسم الأدوار مع تركيا بهدف دفع الأكراد للقبول بعودة النظام السوري للسيطرة على الأقاليم الخاضعة لسيطرتهم لحماية هذه الأقاليم من التدخل العسكري التركي. 

مناطق النفوذ الإيراني: 

بدأت عمليات "تبادل مناطق النفوذ" السورية في أواخر عام 2016، بين تُركيا من جانب، وكُلٍ من روسيا وإيران والنِظام السوري من جانب آخر، والتي بدأت بتسهيل تُركيا مسألة سيطرة هذه الأطراف على شرق مدينة حلب، مُقابل "احتلالها"، أي تُركيا، للإقليم المُمتد من مدينة جرابلس إلى مدينة إعزاز، وتوجت بـ"صفقة الغوطة الشرقية/عفرين" بين هذه الأطراف، ومُنذ ذلك الحين والاستراتيجية الإيرانية في سوريا تعتقد بأن ثمة ثلاث مناطق سورية لا يُمكن لها أن تخضع لمنطق "تبادل مناطق النفوذ" مع تُركيا، وأن كُل واحدة من هذه المناطق يحتاج إلى استراتيجية إيرانية خاصة، تتجاوز مُجرد التوافق مع تُركيا. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى استراتيجية إيران في كل منطقة فيما يلي:

1-المنطقة الجنوبية: تعرف إيران جيدًا أن هذه المنطقة ذات حساسية خاصة، تتجاوز حتى الحساسيات الإقليمية الخاصة، إلى ما يتعلق بالتوازنات الدولية. حدث ذلك بالضبط مُنذ أن بدأت إسرائيل تحصل على "غض نظر" روسي لعمليات قصف دورية وشبه روتينية للمواقع العسكرية للنِظام السوري والمليشيات الحليفة والمُرتبطة به. ومُنذ ذلك الحين صارت إيران تقبل بترك هذه المنطقة لما يسعى النِظام السوري لأن يتوافق عليه ويضبطه مع إسرائيل بشكلٍ غير مُعلن، عبر الوساطة الروسية.

وصارت إيران تتخلى عن طموحها بتحويل هذه المنطقة إلى منصة توزانٍ واحتكاك مضبوط مع إسرائيل. وضمن هذا المشهد، بات الطرف الإيراني يقبل بسحب قواته والمليشيات المرتبطة به من هذه المنطقة، مُقابل توافقٍ واضح مع إسرائيل لعودة النِظام السوري لحُكم هذه المنطقة على حِساب المُعارضة السورية. 

2-محافظة إدلب: ساهمت إيران في تهيئة كافة التفاصيل التي سمحت للقوى العسكرية هُناك بإنهاء كافة التجارب والمُبادرات المدنية الديمقراطية، ثم في مرحلة أخرى فعلت ذلك من خلال إفساح المجال للفصائل الإسلامية المُتطرفة للقضاء على القوى العسكرية "المدنية"، وتحاول في هذه المرحلة أن تسمح للتنظيمات الأكثر تطرفًا بالتمدد في هذه المنطقة، وتواجه القوى المهيمنة على هذه المنطقة رفضًا مُطلقًا من القواعد الاجتماعية هُناك، بالإضافة إلى أن القوى الإقليمية والدولية لديها تخوفات من هذه الفصائل، وهو ما يفتح الباب أمام توافق إقليمي دولي يسمح باستعادة سيطرة النِظام السوري والمليشيات الإيرانية على هذه المنطقة.

3-منطقة شرق الفرات: ترى الاستراتيجية الإيرانية أن الخصائص الجيوسياسية الراهنة لمنطقة شرق الفرات مختلفة جوهريًّا عن باقي المنطقة، ومختلفة عن باقي المناطق السورية التي ما تزال خارج الهيمنة الإيرانية. وأن هذه المنطقة لها ثلاث خصائص بالغة الحساسية، يجب لأية استراتيجية إيرانية أن تراعيها، وإلا فلن تتمكن من صك استراتيجية للهيمنة على هذه المنطقة. 

خصوصية "شرق الفرات":

تعد شرق الفرات المنطقة السورية الوحيدة الداخلة في مظلة الرعاية الدولية. فقوى التحالف الدولي، وبالذات الولايات المُتحدة الأمريكية، حددت قواعد اشتباك واضحة في هذه المنطقة، قائمة على هيمنتها هي وحدها على المجال الجوي العسكري من طرف، وعلى حظر أية قوة إقليمية، بما في ذلك النِظام السوري، وبالذات تُركيا، من شن حرب واضحة على هذه المنطقة تحت أي ذريعة، وتوفر هذه الرعاية حماية عسكرية لقوات سوريا الديمقراطية (الكُردية) على هذه المنطقة، وتوفر أيضًا مجالًا دوليًّا ذا رمزية سياسية يؤكد على تمايز هذه المنطقة والقوة المُسيطرة عليها عن باقي المناطق الخاضعة لسُلطة المعارضة السورية، وتَعتبر القوى الدولية أن منطقة شرق الفرات من أنجح الأمثلة لمحاربة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط. 

وترى إيران أن هذه الرعاية تحول الولايات المُتحدة إلى شريك استراتيجي لإيران في دولة تتطلع إيران لأن تكون مُطلقة اليد بها في مرحلة ما بعد تصفية باقي المناطق التي ما تزال تخضع لفصائل المُعارضة السورية حتى الآن. وتحوّل سوريا إلى نموذج سياسي رُبما يكون شبيهًا بالعراق، من حيث التوازن النسبي للنفوذين الإيراني والأمريكي في هذين البلدين.من جانب آخر، يصعب على إيران السيطرة على هذه المنطقة بشكل كامل كما فعلت في أغلب المناطق السورية الأخرى، مثل شرق حلب والغوطة ومختلف الأرياف السورية، من خِلال الحِصار التام والقصف الدوري، لدفع السُكان والقوى العسكرية في هذه المناطق للاستسلام. فمساحة هذه المنطقة هي أربعة أضعاف منطقتي إدلب والجنوب مُجتمعتين، فهي تُشكل ثُلث مساحة سوريا كاملة. 

وتعد هذه المساحة الكبيرة عاملًا محددًا لما يمكن أن تفعله إيران بشأن هذه المنطقة، كما أدى هذا العمق الجغرافي الواسع نسبيًّا إلى السماح لقوات سوريا الديمقراطية بالسيطرة على المُجتمعات المحلية والمراكز عسكرية والمؤسسات المدنية هناك والتي لاتزال مرتبطة بإيران والنِظام السوري، وبالتالي فإن على أية استراتيجية إيرانية أن تُراعي تمامًا هذه الخصوصية، وتختلف منظومة الحُكم المحلية في تلك المنطقة، مع كُل اشكال قصورها وما يُسجل عليها من سلوكيات، بشكل جوهري عن باقي منظومات الحُكم التي مورست في مختلف المناطق. فهذه المنظومة تستحوذ على مستوى معقول من الشرعية "الشعبية"، من خلال ما توفره من خدمات عامة وأمن محلي، وتحرص على إرضاء المجتمعات المحلية التي تحكمها، لا سيما فيما يتعلق بتفاصيل إدارة الحياة اليومية، بالإضافة إلى ارتباطها بشبكة علاقات مع بعض المؤسسات المدنية الدولية والتي تقوم بتقديم الدعم المالي والرمزي لها، كما أن هذه المؤسسات الدولية مستعدة للدفاع عن منظومات الحكم المحلي في المحافل الدولية، وهو ما قد يخلق صعوبة لأية استراتيجية إيرانية ساعية للاستحواذ المُطلق على هذه المنطقة.  

محاور السيطرة الإيرانية: 

 تميل السياسات الإيرانية للتركيز على ثلاثة محاور لتعزيز سيطرتها على منطقة شرق الفرات في سوريا، تتمثل فيما يلي 

1-استمالة العشائر العربية: تلعب إيران على التناقضات المحلية في تلك المنطقة، وبالذات على التناقضات الكُردية/الكُردية من طرف، وعلى التناقضات العربية/الكُردية بالغة الحساسية من طرف آخر، وفي هذا السياق استقبل مستشار المرشد الإيراني للشئون الدولية "علي أكبر ولايتي" في مايو 2018 وفدًا قيل إنه يمثل شيوخ العشائر السورية، وصرح بحضورها قائلًا إن "العشائر الكردية السورية تحارب الولايات المتحدة، وهي التي ستخرجها من شرق الفرات شمال شرقي سوريا. طهران واثقة من أنه في حال لم يتعقل الأمريكيون ويغادروا سوريا، فإن الكرد سيطردونهم"، لكن بعد أقل من شهر واحد، رعت إيران مؤتمرًا للعشائر السورية "العربية" في منطقة "دير حافر"، كانت الخطابات فيه واضحة في التحريض ضد الأكراد.

وتميل إيران للإيحاء للقواعد الاجتماعية العربية شرق الفرات بأنها مغبونة في ظِل الحُكم الكُردي، وأن الولايات المُتحدة راعية لذلك، وأن طهران وحدها القادرة على إعادة هيمنة العرب على شرق الفرات، وقد ضغطت إيران على النِظام السوري للقبول بعودة الكثير من شيوخ القبائل العربية المعارضين، وإعادة دمجهم بالأجهزة الأمنية والعسكرية للميليشيات المرعية من قِبل إيران، وعلى رأسهم الزعيم القبلي نواف راغب البشير، الذي أسس فصائل عشائرية في محافظة دير الزور باسم "لواء الباقر". 

2-التشكيك في الدعم الغربي: تسعى إيران لأن تدفع الطرف الكُردي ليُشكك بالدعم الأمريكي/الأوروبي للمشروع الكُردي. فإيران ترى بأن استمالة الأكراد في هذا المجال رُبما تكون أقل كُلفة من مواجهتهم، فهي تعتقد بأن تنامي الإحساس الكُردي بعدم مصداقية الولايات المُتحدة والدول الأوروبية في علاقاتها معهم، مضافًا لخشيتهم من الاندفاعة التُركية في مناطق شرق الفرات، بطريقة شبيهة لما فعلته تُركيا في منطقة عفرين؛ سيدفع قوات سوريا الديمقراطية "الكُردية" للتوافق مع إيران والنِظام السوري من موقع عدم التوازن التام بين الطرفين، ذلك التوافق الذي سيكون شكلًا من أشكال الاستسلام غير المُعلن.

3-الاتفاق مع تركيا: تسعى الاستراتيجية الإيرانية لأن تسير بشكل بطيء نحو توافق غير مُعلن بين تُركيا والنِظام السوري، يقوم على دفع تُركيا لرفع سقف تهديداتها للمنظومة الكُردية في منطقة شرق الفرات، لتخلق نوعًا من التخويف للقوى الكُردية هُناك، وتدفع الولايات المُتحدة للإحساس بأن دعمها لقوات سوريا الديمقراطية قد يخلق بؤرة توترٍ شديدة في منطقة بالغة الحساسية، ويُعيد الفوضى إليها، وهو ما يتيح لإيران تقديم عرض بعودة النِظام السوري والمليشيات الإيرانية إلى حُكم هذه المنطقة كحلٍ وسط، بين الاندفاعة التُركية التي تتضمن عودة المليشيات الإسلامية الراديكالية، وبين بقاء قوات سوريا الديمقراطية.