"الثقة المفقودة":

إلى أي مدى يمكن للمبادرة الفرنسية تسوية الأزمة الليبية؟

04 June 2018


في محاولة لتحريك الجمود الذي أصاب الأزمة الليبية، واسترجاع دورها كفاعل رئيسي في أزمات دول منطقة شمال إفريقيا؛ قامت فرنسا بتنظيم مؤتمر دولي في التاسع والعشرين من مايو الماضي بقصر الإليزيه، لوضع خطة مستقبلية لحل الأزمة الليبية يتفق عليها الفرقاء السياسيون. وقد ضم المؤتمر الذي نظمته باريس برعاية أممية، حوالي ٢٠ دولة و٤ منظمات دولية، في إطار استراتيجية فرنسية معروفة بشرعنة تحركاتها عن طريق تعددية الأطراف، وإعطاء وزن لفصائل أو أطراف هُمشت في المفاوضات السابقة.

ويأتي التحرك الفرنسي لحلحلة الأزمة الليبية مع سعي الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" منذ توليه مقاليد الحكم لتأكيد دور باريس المتوازن في أزمات منطقة الشرق الأوسط، حيث يسعى لتغيير الصورة الذهنية السلبية لفرنسا لدى بعض الدول العربية والإفريقية، حيث اعترف "ماكرون" بعدم شرعية الاحتلال الفرنسي للأقاليم الإفريقية أثناء الحقبة الاستعمارية، وأن تدخل دولته في ليبيا عام 2011 ما هو إلا "اقتطاع" من سيادة الشعب الليبي.

وتتمثل أهم مظاهر تفرد المؤتمر الأخير في جمعه كلَّ أطراف الأزمة الليبية على طاولة واحدة، وأهمهم "فايز السراج" رئيس حكومة الوفاق الوطني، و"خليفة حفتر" قائد الجيش الوطني الليبي، و"عقيلة صالح" رئيس البرلمان الليبي، و"خالد المشري" رئيس المجلس الأعلى للدولة. بالإضافة إلى اتفاق الأطراف شفاهية على إقامة انتخابات تشريعية ورئاسية في 10 ديسمبر 2018. 

دوافع متعددة

هناك فريق لا يُستهان به من المحللين الفرنسيين ينظر إلى ليبيا باعتبارها "عراق فرنسا"، أي تلك الدولة التي أقحمت باريس نفسها في الصراع الدائر بها، كحالة الولايات المتحدة مع العراق في عام ٢٠٠٣، دون وجود دوافع حقيقية تُعوّض الثمن الباهظ للتدخل العسكري، ودون صياغة سيناريو واضح لعملية الانتقال السياسي بعد إسقاط نظام "معمر القذافي".

لكن الحالة الليبية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن الحالة العراقية، حيث هناك مجموعة من المصالح الفرنسية الحيوية التي تدفعها بقوة للدخول في تلك الأزمة وإعادة الاهتمام بها بعد الانسحاب النسبي منها في أعقاب سقوط النظام السابق.

ومن ضمن أهم المصالح الفرنسية التي دفعت باريس للتدخل في الأزمة الليبية ما يلي: 

1- ضمان استمرار تدفق النفط والغاز الطبيعي الليبي: حيث تُعتبر ليبيا أكثر دولة في إفريقيا تمتلك احتياطيات نفطية، والأهم من ذلك بالنسبة لفرنسا هو انخفاض تكاليف إنتاج ونقل النفط الليبي وذلك لقربها من القارة الأوروبية وتوافر العمالة الرخيصة مما أهلها لتحتل المركز الثالث في قائمة مصدري النفط للاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج. وتعتبر باريس من أكثر دول الاتحاد الأوروبي حرصًا على عدم سيطرة التنظيمات المتطرفة على خطوط إنتاج وتصدير النفط لضمان تدفقه لأوروبا ولتجفيف مصادر تمويل الإرهاب.

2- مجابهة الهجرة غير الشرعية القادمة من الجنوب: حيث تعتبرها باريس السبب الرئيسي للعمليات الإرهابية في العواصم الأوروبية. ولذلك تسعى فرنسا لدعم وضعها العسكري والأمني في القارة الإفريقية من خلال نفوذها في ليبيا بتحويلها إلى منطقة عمق استراتيجي للقاعدة العسكرية الفرنسية "ماداما" الموجودة في دولة النيجر. 

ولا يقل تأمين الجنوب الليبي أهميةً عن تأمين القاعدة الفرنسية في النيجر، حيث يعتبر المصدر الرئيسي لعبور المقاتلين المتطرفين إلى مالي، إذ يخوض الجيش الفرنسي معارك مع الفصائل المسلحة هناك منذ عام 2013. ولعل هذه الشبكة المعقدة من العلاقات بين الجماعات المسلحة في إفريقيا جنوب الصحراء من جانب والمتطرفين الإسلاميين في ليبيا من جانب آخر، هو ما يجعل فرنسا أكثر ميلًا لدعم الجيش الوطني الليبي بقيادة "خليفة حفتر" على حساب الأطراف الأخرى، وهو ما أعلنه الجانب الفرنسي في العديد من المناسبات. 

3- تمديد النفوذ على حساب أطراف أوروبية أخرى: تجد فرنسا نفسها مكبلة داخل الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه، وصعود اليمين المتطرف بداخلها، لتجد نفسها مع ألمانيا في مواجهة أكثر عنفًا مع أزمة الديون الأوروبية. وفي مجابهة لتداعي الدور القيادي في القارة الأوروبية، تسعى باريس لاستعادة نفوذها القيادي في منطقة شمال إفريقيا وكسب النفوذ على حساب إيطاليا. وتنظر روما للمؤتمر الدولي الذي دعت إليه فرنسا على أنه محاولة من باريس لإيجاد بديل لاتفاق الصخيرات التي دعت إليه برعاية أممية.

ومنذ بداية الأزمة الليبية، تمثل المبادرة الفرنسية بداية المواجهة السياسية بين فرنسا وإيطاليا، وقد بدأت ملامحها مع إعلان روما غضبها من المبادرة الفرنسية، ثم إعلانها بعد عدة أيام من المبادرة عن عملية بحرية في المياه الإقليمية الليبية لمساعدة خفر السواحل الليبية على منع تسلل المهاجرين بناءً على طلبٍ من الحكومة الليبية. وتسعى فرنسا لإثبات دورها القيادي في مناطق نفوذ إيطاليا لتعويض تراجع دورها القيادي داخل القارة الأوروبية.

مدى نجاح المؤتمر

أسفر المؤتمر عن توافق حول ثماني نقاط ستجري صياغتها لاحقًا في صورة وثيقة تلتزم بها الأطراف الأربعة الأساسية في الأزمة الليبية. ومن أهمها موافقتهم على إقامة انتخابات تشريعية ورئاسية قبل نهاية العام الجاري (٢٠١٨). وهو ما وصفه البعض بالإجراء غير الفعال، خاصة أن برلمان طبرق جاء بانتخابات حرة، ولكن نشبت أزمة عدم الاعتراف من قبل البرلمان بحكومة الوفاق الليبي برئاسة فايز السراج التي أفرزها اتفاق الصخيرات. وهو الأمر الذي يثير تساؤلًا حول ضمانات مؤتمر باريس بأن تلتزم الأطراف بنتائج انتخابات ديسمبر 2018. 

وتتمثل الإضافة الحقيقية لمؤتمر باريس في إعلان الأطراف الأربعة استعدادها لقبول الرقابة الدولية على الانتخابات، وقبولها الجدول الزمني والإجرائي الذي سيقوم "غسان سلامة" (المبعوث الأممي لليبيا) بوضعه. ولم تستبعد باريس أن يشترك المجتمع الدولي في توقيع عقوبات على الأطراف غير الملتزمة بالاتفاق. 

وتتمثل النتيجة الثانية الهامة للمؤتمر -من وجهة النظر الفرنسية- في تأكيده على مخرجات حوار القاهرة الذي أكد ضرورة توحيد صفوف الجيش الوطني الليبي. وتحاول باريس عن طريق الإشارة إلى حوار القاهرة كسب مصر إلى جانبها، مدركة تمامًا أهمية القضية الليبية بالنسبة لصانع القرار المصري، ومدى تأثيرها كدولة جوار مباشرة لليبيا على مصير طرابلس، خاصة أن هناك تقاربًا واضحًا بين القاهرة وباريس فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب والرؤية المتقاربة لسبل حل أزمات الإقليم.

وبجانب دعوة المؤتمر لنفس مبادئ حوار القاهرة بتوحيد كافة المؤسسات الليبية تحت مظلة حكومة واحدة، بما فيها البنك المركزي الليبي، ودعم رئيس الحكومة بعد أن تم إضعافه بشكل كبير؛ فإنه حرص على تفادي الأخطاء السابقة في الحالات المشابهة، حيث أصر على أن أي نية لتعديل الدستور يجب أن تعقب إجراء الانتخابات حتى لا تدخل البلاد في حالة من الجمود والاستقطاب السياسي أثناء صياغة الدستور، وهي فترة غير معلوم مداها في مجتمع يبني مؤسساته من جديد. كما أرسى اجتماع الإليزيه آلية للمراجعة ومتابعة التطورات تمثلت في إعلان إقامة مؤتمر آخر بعد ثلاثة أشهر من تاريخ انعقاد مؤتمر مايو للوقوف على مدى التزام الأطراف بخارطة الطريق. 

واستنادًا إلى ما سبق يمكن القول إن مؤتمر باريس كانت له رؤية أكثر شمولية وعمومية للأزمة، وإدراك جيد للفاعلين الإقليميين القادرين على تغيير المشهد. والنجاح الأهم الذي حققه المؤتمر يتمثل في إشراك الدول الإفريقية المجاورة لليبيا في عملية الانتقال السياسي كشركاء فاعلين أساسيين، وهو ما يختلف عن المبادرات التي تأتي من أعلى لأسفل، ومبادرات أطراف دوليين كالولايات المتحدة أو روسيا التي تهدف بالأساس لتمديد النفوذ لا لحل جذري لأزمات المنطقة. 

تعد السياسة التي تبنتها فرنسا متفردة عن سياسات القوى الدولية الأخرى تجاه الأزمة الليبية، حيث أدركت باريس أهمية إشراك دول الجوار لليبيا في المفاوضات، وعلى أعلى مستوى سياسي ممكن لضمان وقوف تلك الدول قلبًا وقالبًا مع مخرجات مؤتمر الإليزيه، حيث شاركت كل من التشاد والنيجر والكونغو برازفيل وتونس على المستوى الرئاسي بحضور رؤساء تلك الدول، ومَثّل الجزائر في المؤتمر رئيس وزرائها، والمغرب وزير خارجيتها، بينما شاركت مصر بحضور مساعد الرئيس المصري للمشروعات القومية والاستراتيجية.

هذا الزخم الكبير والمشاركة الفعالة على أعلى المستويات السياسية أكسبت المؤتمر ومخرجاته نوعًا من الفاعلية والشرعية المتفردة حتى ولو كانت هناك شكوك حول مدى التزام الفرقاء الليبيين بنتائجه.

مستقبل الدور الفرنسي

رغم أهمية مخرجات مؤتمر باريس وفاعليتها مقارنة بالمبادرات السابقة، إلا أن نجاح الدور الفرنسي في الأزمة الليبية يتوقف على مدى التزام الفرقاء بنتائج المؤتمر، في حين لم يوقّعوا على وثيقة مكتوبة تعبر عن التزامهم. ويرجع هذا لعدم رغبة كل طرف في أن يُلزم الفصيل أو المؤسسة التي ينتمي إليها دون الرجوع لها أولًا. ولذلك يخضع مدى نجاح أو فشل الدور الفرنسي لمدى قبول الفصائل والمؤسسات الليبية التي مُثّلت عن طريق رؤسائها لمخرجات المؤتمر. 

كما يرتبط نجاح فرنسا بمدى قدرتها على بناء توازن بين أطراف الصراع الليبي سواء من الشرق والغرب، لا سيما وأن بعض الفصائل الليبية تنظر لباريس على أنها منحازة أكثر لحفتر. ويتطلب ذلك من باريس تبني استراتيجية لإعادة بناء الثقة مع كل الأطراف على الأرض وأهم مكوناتها هو تواصلها مع دول الجوار الهامة التي تحتفظ بوضع سياسي يتيح لها التواصل مع الحكومة والبرلمان والجيش الوطني.

ويُكسب الدور الفرنسي في مقاومة الحركات المسلحة -خاصة في سرت- باريس صورة إيجابية لدى سكان المناطق التي عانت من ويلات التطرف والإرهاب، وهو ما يعزز من فرص قبول نتائج مؤتمر باريس. غير أن الجهد السياسي الحقيقي لباريس يجب أن يتمحور حول بناء الثقة على الأرض من أجل إنجاح الجهد الرسمي المتمثل في مؤتمر الإليزيه.