نفوذ المرجعيات:

التوظيفات المتعددة للفتاوي الدينية في الانتخابات العراقية

12 May 2018


تصاعد اعتماد القوى السياسية العراقية على الفتاوى الدينية للتأثير على تصويت الناخبين في الانتخابات التشريعية، إذ يعتمد السياسيون -خاصة ضمن التيارات الشيعية- على دعم المرجعيات الدينية كمصدر للشرعية، وهو ما يتضح في توظيف صور القيادات الدينية في الحملات الانتخابية، والتركيز على الفتاوى الدينية التي تحث المواطنين على المشاركة في الانتخابات، والتصويت لصالح قوائم ومرشحين بعينهم، وهو ما يزيد من تسييس الدين ضمن التفاعلات السياسية بالعراق.

خريطة المرجعيات:

يُعد التدين ظاهرة قديمة في المجتمع العراقي يعود إلى الحضارات القديمة في بابل وآكد وآشور التي انتشرت فيها المعابد لكبار الآلهة والشعائر الدينية، وبعد تدهور الأوضاع السياسية تصاعد التمسك بالمظاهر الدينية لدى العديد من المواطنين إلى درجة تصل إلى التعصب المذهبي والطائفي، وتزايدت الفتاوى التي تُصدرها المرجعية الدينية في العراق مصدرة توصيات تخص تطورات الوضع السياسي، وقد تصاعد تأثير "الفتاوى السياسية" على سلوك وتوجهات المواطنين، لا سيما في فترة ما بعد عام 2003.

ويتكون المجتمع العراقي دينيًّا من المسلمين والمسيحيين والصابئة والايزيدين، وينقسم المسلمون مذهبيًّا ما بين سنة وشيعة، لكل منهم مرجعيات دينية مختلفة لها تأثيرها وأتباعها. فعلى سبيل المثال، يوجد للشيعة عدد من المرجعيات، من أبرزهم: مرجعية السيد علي السيستاني، والسيد الصدر، وصادق الشيرازي، ومحمد اليعقوبي، وجواد الخالصي، وغيرهم، ويلاحظ تصاعد تأثيرهم بشكل كبير منذ عام 2003.

بينما يتمثل الإطار المرجعي للمُكوِّن السني في عددٍ من الشخصيات، مثل: عبدالملك السعدي، ورافع الرفاعي، بالإضافة إلى المؤسسات الدينية، مثل: الأمانة العامة للإفتاء، والهيئة العليا للإفتاء، وهيئة علماء المسلمين (المحظورة من مزاولة النشاط في العراق)، ومجلس علماء العراق، والمجمع الفقهي العراقي الذي تشكل في عام 2014، ورابطة أهل السنة والجماعة. وتقوم هذه الجهات بإصدار العديد من الفتاوى ذات الصلة بالعملية السياسية بشكل عام، والانتخابات بشكل خاص.

فتاوى المقاطعة:

دعمت المرجعيات الشيعية العملية السياسية منذ عام 2003، وقاموا بحثِّ المواطنين على المشاركة الفعالة في كل الفعاليات السياسية، ابتداءً من: كتابة دستور دائم للعراق والاستفتاء عليه في عام 2005، ودعم الانتخابات التي شهدها العراق على الصعيدين المحلي والوطني من خلال توجيهات وفتاوى تصدر قبيل الانتخابات توجب بضرورة المشاركة فيها، وغالبًا ما كانت تصب هذه الفتاوى في صالح حركة أو حزب سياسي معين. 

فيما عارض بعض الشيوخ العملية الانتخابية، مثل الشيخ "جواد الخالصي" الذي اعتبرها صنيعة المحتل الأمريكي، ويتأثر عدد كبير من المواطنين الشيعة بهذه الفتاوى، لا سيما الصادرة من المرجع السيستاني الذي يتبعه غالبية شيعة العراق.

وعلى النقيض من المرجعيات الشيعية التي يحث جمعيها على ضرورة المشاركة في العملية السياسية، تختلف توجهات المرجعيات السنية. فعلى سبيل المثال، طالبت هيئة علماء المسلمين بمقاطعة العملية السياسية برمتها كنوع من الاحتجاج على الاحتلال الأمريكي للعراق، بينما أيد مجلس علماء العراق والمجمع الفقهي العراقي وعدد من مشايخ السنة (مثل: رافع الرفاعي، وهاشم جميل، وسامي الجنابي) المشاركة في هذه الانتخابات، وهو ما أحدث حالة من الانقسام بين المواطنين السنة حول الانتخابات، لا سيما في المرحلة التي سبقت اجتياح داعش للمحافظات السنية.

انتخابات 2018:

صدرت العديد من الفتاوى والتوجيهات الدينية قبيل الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها في 12 مايو الجاري، واتسمت هذه الفتاوى بالتباين والاختلاف من مرجعية دينية إلى أخرى داخل المذهب الواحد. ففيما يتعلق بالمرجعيات الشيعية، أعلن وكيل السيستاني "مهدي الكربلائي" موقفه في خطبة الجمعة 4 مايو، حيث أشار إلى أنه يتخذ موقفًا محايدًا من جميع الكتل والقوائم الانتخابية، ولا يدعم أيًّا منها، مُحذرًا من استخدام اسم المرجعية من قبل المرشحين، كما حذرت الفتوى الناخبين من اختيار الفاسدين.

واعتبرت فتواه أن القيام بالتصويت حق للمواطن، وله الحرية في استخدام هذا الحق من عدمه، وهذا على النقيض من الفتاوى السابقة التي كانت تُلزم بضرورة المشاركة، وجاء هذا بعد فتواه السابقة التي أحدثت جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية الشيعية "المجرب لا يجرب" والتي فهمها البعض على أنها دعوة لعدم اختيار من سبق لهم المشاركة في مناصب تشريعية وتنفيذية، ورأى البعض الآخر أنها دعوة لعدم انتخاب من أُثيرت حولهم شبهات أو قضايا فساد.

بينما حرّم المرجع الشيعي "كاظم الحائري" تحالف القوى السياسية الدينية مع الأحزاب والحركات العلمانية، ورأى وجوب انتخاب "قائمة الفتح" التي تتكون من 18 كيانًا، أبرزها فصيل الحشد الشعبي، مُطلقًا عليهم اسم "حماة الأعراض". وذهب المرجع "فاضل المالكي" إلى وجوب مقاطعة الانتخابات وحرمة دخول "مقلديه" إلى المراكز الانتخابية، سواء للإدلاء بأصواتهم حتى وإن كان الغرض من هذا شطب استمارة التصويت، حيث إن الانتخابات ستكون فاقدة لشروط الشرعية لعدم تعديل قانون الانتخابات وتغيير المفوضية العليا، على حد تعبيره. وهو نفس ما أفتى به المرجع "جواد الخالصي" الذي طالب بضرورة مقاطعة الانتخابات، واعتبر من يشارك فيها آثمًا وخائنًا لوطنه.

وعلى الصعيد السني دعمت المرجعيات والمؤسسات الدينية السنية المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فذكر المجمع الفقهي العراقي ضرورة التصويت للأشخاص الأكفاء المؤهلين لتمثيل ناخبيهم، وطالبت هيئة الوقف السني خطباء المساجد بالدعوة إلى ضرورة المشاركة في الانتخابات، واختيار المرشحين "الذين أسهموا بعودة النازحين" إلى مناطقهم. 

أما موقف الشيخ "عبدالملك السعدي" فقد تمثل بالدعوة إلى عدم انتخاب الاشخاص الذين شاركوا في الانتخابات السابقة وتولوا مناصب في السلطتين التشريعية والتنفيذية في المراحل السابقة، مع تأكيده ضرورة تنحيهم عن المشاركة، وهو ما يشابه فتوى "المجرب لا يجرب" التي تناقلتها المراجع الشيعية.

وفيما يتعلق بالجانب المسيحي، طالب بطريريك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق والعالم "لويس ساكو" بضرورة المشاركة، كونها مسئولية أخلاقية ووطنية، وفرصة ذهبية للتغيير وضمان مستقبل مشرق للشعب، على حد وصفه.

ختامًا، تختلف أهمية وتأثير الفتاوى الدينية في المسائل السياسية من مكون إلى آخر، وتتباين من مرجع إلى آخر أيضًا. وعلى الرغم من هذا التباين، إلا أنها تُمثّل مصدرًا أساسيًا لشرعية العديد من الأحزاب الدينية وبشكل خاص الشيعية منها، وكثيرًا ما تتخذ هذهِ الأحزاب ومرشحوها فتاوى وتوجيهات المرجعيات الدينية شعارات لها، وتستخدم صورهم في حملاتها الانتخابية.

ويتضح وجود اختلاف واضح في فتاوى المراجع الدينية حول الانتخابات التشريعية عما أطلقته سابقًا من فتاوى. ففي السابق، أجمع كافة المراجع الشيعية على وجوب المشاركة في الانتخابات، فيما اختلف هذا الآن حيث ظهرت فتاوى تحرم المشاركة فيها، أما على الصعيد السني فيوجد شبه إجماع على ضرورة المشاركة الانتخابية خلافًا للفتاوى السابقة. 

وبصفة عامة ستؤثر هذه الفتاوى على نسب المشاركة في العملية الانتخابية، وإن كان بعض المحللين يلاحظون وجود تأثير كبير للمرجعيات الشيعية في توجيه السلوك السياسي للناخبين الشيعة مقارنة بالسنة.