تحالفات متغيرة:

مآلات التدخل العسكري التركي في الأزمة السورية

18 February 2018


تسعى الأطراف الدولية المتدخلة في الأزمة السورية إلى إطالة أمد الصراع التركي-الكردي في سوريا لاستنزاف القدرات العسكرية التركية، وتحجيم النفوذ التركي في سوريا، بهدف استبعاد أنقرة من معادلات تقاسم مناطق النفوذ بعد نهاية الصراع. وفي المقابل، تسعى تركيا لإيجاد موطئ قدم لقواتها في سوريا، وانتزاع الهيمنة على المناطق الحدودية الفاصلة بين تركيا وسوريا من وحدات حماية الشعب الكردية، بالإضافة إلى تأسيس مسارات مستديمة للإمداد العسكري لدعم الفصائل السورية الموالية لها.

وفي هذا الإطار، يتناول هذا التحليل تقييم أبعاد التدخل التركي الذي دخل في أسبوعه الرابع، ويتناول الأهداف التركية من وراء هذه العملية، وأبرز تداعياتها السياسية، والعوامل المؤثرة على مستقبلها.

أهداف التدخل التركي:

تخضع منطقة عفرين لحكم الأكراد منذ مارس 2013، ويُطلق عليها اسم "روج آفا" (أي غرب كردستان باللغة الكردية)، وكان من المقرر تنظيم انتخابات بها في يناير الماضي، لكن جرى تأجيلها بسبب الهجوم العسكري الذي شنته تركيا. وفي هذا السياق يمكن القول إن التدخل التركي في عفرين جاء للأسباب التالية:

1- تحجيم التهديدات الكردية: حيث تخشى تركيا من أن يؤدي الاعتراف الدولي بالحكم الذاتي لحزب الاتحاد الديمقراطي داخل سوريا الاتحادية إلى إضعاف جهودها الرامية إلى القضاء على حزب العمال الكردستاني الذي يحارب الدولة التركية منذ عقود. وتأتي العملية العسكرية التركية في أعقاب إعلان الولايات المتحدة في يناير الماضي عن دعمها لخطط تشكيل "قوة حدودية" مؤلفة من 30 ألف عنصر من أجل فرض الأمن عند الحدود السورية مع تركيا والعراق في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد. وهو ما عبرت تركيا عن استيائها تجاهه وعارضته بشدة.

وفي هذا السياق، زعم رئيس الوزراء التركي "بن علي يلدرم" أن العملية تهدف فقط إلى ضمان أمن بلاده وحماية العرب والأكراد والتركمان من "التنظيمات الإرهابية". ونقلت عنه قناة "خبر ترك" يوم الأحد 21 يناير قوله إن تركيا تستهدف إقامة "منطقة آمنة" عمقها 30 كلم في إطار عمليتها في منطقة عفرين بشمال سوريا. وأضاف الجيش التركي، في بيان أصدره يوم الأحد 21 يناير، أن الأهداف من وراء هذه العملية هي معاقل ومخابئ وترسانات الأسلحة التي يستخدمها المقاتلون.

2- حسم انتخابات 2019: تُشكِّل العملية أداة قد يستخدمها الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" في الانتخابات الجديدة التي سوف تُجرَى في عام 2019، خاصة وأن الأكراد يشكلون معارضة قوية لحكم أردوغان، بيد أن بعض المعارضين الأتراك المؤيدين للأكراد قد استغلوا هذه العملية العسكرية للتنديد بسياسة "أردوغان" مثل رئيس حزب "الشعب الجمهوري" المعارض "كمال كليجدار أوغلو" الذي انتقد في 6 فبراير الجاري سياسة بلاده الخارجية، معتبرًا أنها "دخلت مستنقعًا"، وأضاف أن "تركيا لم تكن وحيدة في المحافل الدولية كما هي عليه الآن". ويُشار -في هذا الصدد- إلى ما ذكرته صحيفة "حريت" عن أن السلطات التركية أمرت في فبراير 2018 باعتقال 11 من قيادات نقابة الأطباء بينهم رئيسها بعد انتقادهم العملية العسكرية تحت شعار "لا للحرب.. السلام فورًا"، كما تم احتجاز 13 شخصًا لدعمهم هؤلاء الأطباء، يضاف إلى هذا أن وزارة الداخلية التركية أصدرت بيانًا في 5 فبراير الجاري أعلنت فيه: "منذ بداية عملية غصن الزيتون تم اعتقال 449 شخصًا لنشرهم دعاية إرهابية على وسائل التواصل الاجتماعي، واعتقال 124 شخصًا لمشاركتهم في احتجاجات".

مواقف الأطراف المختلفة:

يمكن القول إن محددات المواقف الدولية تجاه التدخل العسكري التركي في عفرين تدور بشكل رئيسي حول إدارة توازن النفوذ بين أطراف الأزمة السورية، وإعادة رسم مساحاتها من جديد، وهو توازن شديد الحساسية والتعقيد، وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أبرز مواقف الأطراف الفاعلة من هذا الهجوم فيما يلي:

1- مصالح روسية: أعلنت روسيا عن تبنيها سياسة عدم التدخل تجاه العملية التركية، وقامت بسحب قواتها وفتح المجال الجوي السوري أمام الطائرات التركية لشن هجومها على عفرين، ويأتي تطور الموقف الروسي عقب جهودها التي بذلتها من أجل إقناع الأكراد بالتخلي عن السيطرة على أمنهم وحدودهم لصالح النظام السوري مع الإبقاء على شكل من أشكال الحكم الذاتي، وكان الهدف من وراء ذلك هو معالجة مخاوف تركيا بشأن سيطرة الأكراد على أراضٍ على طول حدودها، غير أن هذه الفكرة التي تسمح لنظام الأسد بالسيطرة على مزيد من الأراضي السورية لم تلقَ قبولًا لدى الأكراد. 

ومن ثم فإن روسيا تبحث عن توسيع مساحة نفوذها من وراء عملية "غصن الزيتون"، من خلال استنزاف أكراد سوريا كقوى سياسية فاعلة على الأرض السورية، وفي الوقت نفسه تقليص الدور الأمريكي في تسوية الأزمة، وهو ما ذكره وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" لصحيفة "كوميرسانت" الروسية، يوم الأحد 21 يناير: "يقولون كلما كان الأمر أسوأ فسيكون هذا أفضل، بمعنى فلندع للولايات المتحدة إثبات عدم قدرتها على الوفاء بالمعاهدات التي توقع عليها، ودورها المدمر في عمليات السلام، سواء كان ذلك في إيران، أو سوريا، حيث يجري الآن اتخاذ إجراءات أحادية الجانب أدت إلى غضب تركيا بشدة".

ويُشار -في هذا الصدد- إلى وصف روسيا الإعلانَ الأمريكي عن تشكيل قوة حدودية مؤلفة من مقاتلين من وحدات حماية الشعب بأنها محاولة "لعزل المناطق التي يهيمن عليها الأكراد". وبصورة عامة، تُركز الانتقادات الروسية على هدفين، أولهما إلقاء اللوم على الولايات المتحدة بشأن اندلاع الاشتباكات في عفرين، والآخر هو بعث رسالة إلى الأكراد مفادها أنهم فشلوا في اختيار الشريك "المناسب".

2- تنسيق أمريكي: رغم تقارب الموقف التركي الأمريكي من نظام الأسد، إلا أن علاقاتهما تدور بين الشد والجذب بسبب اختلاف مصالحهما بشأن أكراد سوريا. ويُلاحظ أنه بعد أن أبدت تركيا رد فعل غاضبًا على إعلان الخطط الأمريكية بشأن تدريب مقاتلين بينهم أكراد سوريون على إدارة الأمن الداخلي، فقد تراجعت الولايات المتحدة عن تصريحاتها، مؤكدة أنها خطط تدريب وليس إنشاء قوة عسكرية جديدة. حيث ذكرت وزارة الدفاع الأمريكية يوم الأربعاء 17 يناير 2018 في بيان: "تواصل الولايات المتحدة تدريب قوات أمن محلية في سوريا بهدف تحسين الأمن للنازحين العائدين إلى مناطقهم المدمرة.. هذا ليس جيشًا جديدًا، أو قوة حرس حدود نظامية". وعلى الرغم من ذلك شنت تركيا حملتها العسكرية على عفرين. لكن -في الوقت نفسه- أكد وزير الدفاع الأمريكي "جيم ماتيس" الأحد 21 يناير 2018، أن تركيا أبلغت الولايات المتحدة قبل تحركها في عفرين، كما يؤكد الطرفان وجود تواصل بينهما بشأن تطورات الأوضاع.

وتكشف التصريحات الأمريكية عدم معارضة الولايات المتحدة للهجوم التركي، لكنها تؤكد على ضرورة ألا تتجاوز حدود نطاق عفرين. فعلى سبيل المثال، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية "هيذر نلورت"، في 21 يناير 2018: "نحث تركيا على التحلّي بضبط النفس، وضمان بقاء عملياتها العسكرية محدودة في نطاقها ومدتها، والحرص على تجنب حدوث خسائر في صفوف المدنيين".

3- صفقة سورية: يتخوف نظام الأسد من زيادة نفوذ الأكراد في شمال سوريا، كما أن لديه تخوفًا -في الوقت نفسه- من عدم خروج القوات التركية المناوئة له من أراضيه، ورغم نفي النظام السوري ما زعمته تركيا من إطلاعه على العملية العسكرية، وإعلانه أنه يعتبر الوجود التركي على أراضيه "عدوانًا واحتلالًا" إلا أنه -مع ذلك- لم يقدم دعمًا ماديًّا لأكراد سوريا.

وقد أعلن الجيش السوري في 21 يناير، عقب الهجوم التركي على عفرين، كامل سيطرته على مطار أبو الظهور العسكري في محافظة إدلب شمال غرب سوريا و300 قرية وبلدة في المنطقة الممتدة بين أرياف حماة وإدلب وحلب. وهو ما فسّره البعض بوجود صفقة سياسية تسمح بالتغاضي عن التدخل التركي في عفرين مقابل تقدم قوات نظام الأسد في إدلب.

تداعيات "غصن الزيتون":

أدت الطبيعة الجغرافية المعقدة لأراضي عفرين إلى مواجهة تركيا مجموعةً من الصعوبات فيما يتعلق بالسيطرة الكلية على عفرين. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أبرز تداعيات هذه العملية التي تتمثل فيما يلي:

1- تغير التحالفات التركية: رغم أن التصريحات التركية الأولى أشارت إلى أنها عملية قصيرة الأجل، إلا أن التصريحات الأخيرة التي تتحدث عن ملاحقة الأكراد في منبج تكشف عن احتمالات اتساع العملية بصورة غير متوقعة، وأن تشمل أطرافًا أخرى. فعلى سبيل المثال، صرح نائب رئيس الوزراء التركي "بكر بوزداغ"، لشبكة تليفزيون "سي إن إن- ترك" في 4 فبراير 2018 "إذا ارتدى جنود أمريكيون بزات الإرهابيين أو كانوا بينهم في حال حدوث هجوم ضد الجيش، فلن تكون هناك أي فرصة للتمييز.. إذا وقفوا ضدنا بمثل هذه البزات فسنعتبرهم إرهابيين".

من جهة أخرى، أدى التدخل العسكري التركي إلى ظهور دعوات من المعارضة التركية إلى الانفتاح على نظام الأسد، فقد صرح رئيس حزب "الشعب الجمهوري" "كمال كليجدار أوغلو"، في 6 فبراير 2018: "إذا كنا نرغب في تأسيس السلام بسوريا، وإذا كنا نريد أن نكون لاعبين أساسيين في الساحة السورية، فعلينا التواصل مع بشار الأسد"، وقد تحمل هذه الدعوات ضغوطًا في مرحلة لاحقة من أجل تطوير التحالفات التركية الدولية والإقليمية. ويُشار -في هذا السياق- إلى أن تركيا كانت تنوب عن قوى من المعارضة السورية خلال مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي انعقد الشهر الماضي بمدينة سوتشي الروسية. 

2- توحيد الأكراد: أعلنت وحدات حماية الشعب الكردية السورية النفير العام من أجل مساندة عفرين، وناشدت عموم الشعب الكردستاني وكافة الأطراف الديمقراطية المشاركة في النفير العام من أجل الوقوف في وجه الهجمات التركية. كما حذر "مراد كاراييلان"، عضو اللجنة التنفيذية في حزب العمال الكردستاني، في مقابلة عبر قناة "ستيرك تي في" في 20 يناير 2018، من أنه سينظر إلى الهجوم على عفرين بأنه هجوم على جميع الأكراد، متوعدًا بأن حزبه لن يبقى مكتوف اليدين. وخرجت العديد من مسيرات التظاهر الداعمة للأكراد في عفرين والدول الغربية تطالب بتدخل المجتمع الدولي من أجل وقف الغزو التركي وعدوانه على الشعب الكردي. كما طالب أكراد سوريا نظام الأسد بالقيام بواجبه في دعمه حماية الأراضي السورية من الاحتلال التركي.

3- الدعم النسبي للأكراد: أدت عملية "غصن الزيتون" إلى حصول الأكراد على دعم نسبي من بعض الأطراف الخارجية مثل فرنسا التي تسعى إلى لعب دور مؤثر في الأزمة السورية. فعلى سبيل المثال، ذكر الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، في مقابلة مع صحيفة "لوفيجارو" نشرت يوم الأربعاء 31 يناير 2018: "إذا اتضح أن هذه العملية تتخذ منحى غير محاربة خطر الإرهاب المحتمل على الحدود التركية، وتتحول إلى عملية غزو؛ فسيمثل هذا مشكلة حقيقية بالنسبة لنا".

وفي هذا السياق، يجب الإشارة إلى أنه على الرغم من انتقاد روسيا طبيعةَ تعاون الأكراد مع الولايات المتحدة، إلا أنها لا تزال تشدد على ضرورة مشاركة الأكراد في عملية التسوية السورية، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" خلال مؤتمره الصحفي في 22 يناير 2018 بقوله: "أما ما يخصّ دور الأكراد في العملية السياسية لاحقًا، فلا شك أنه يجب ضمان وجوده".

مستقبل التدخل التركي:

تسعى القوى الدولية الفاعلة في الأزمة السورية إلى إطالة أمد الحرب لتقويض قوة كل من تركيا والأكراد في الوقت نفسه، ومن غير المتوقع أن يؤدي التدخل التركي في سوريا إلى حسم أي من ملفات الأزمة السورية، بيد أنه قد يؤدي إلى زيادة مساحة النفوذ التركي على طاولة مفاوضات التسوية النهائية، وهو ما سوف تكشف عن حدوده جولات المفاوضات القادمة.

ويصعب تصور أن تمتد هذه العملية إلى منبج حيث تتمركز القوات الأمريكية من دون الوصول إلى صفقة مرضية بين الطرفين، ويشير البعض إلى أن زيارة "ريكس تيلرسون" وزير الخارجية الأمريكي لتركيا في 15 فبراير 2018 تعكس مؤشرات على وجود اتفاق حول هذه الصفقة، خاصة بعد أن نقلت محطة "سي إن إن" الإخبارية عن قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال "جوزيف فوتيل" في 28 يناير 2018 أثناء رحلة للشرق الأوسط قوله بأن سحب القوات الأمريكية من منبج "ليس أمرًا نفكر فيه".

من جهة أخرى، فرض التدخل العسكري لتركيا مزيدًا من الضغوط الدولية عليها، خاصة في ظل الحرب الدعائية المتبادلة بين أطراف الأزمة السورية، وهو ما قد يؤثر على مستقبل دورها الإقليمي، خاصة في ضوء بيانات المنظمات الدولية غير الحكومية التي تتهم تركيا بقتل المدنيين السوريين وعدم استقبال اللاجئين الفارين من العنف المتزايد في محافظة إدلب في شمال غرب سوريا.