غلبت إيران الكرد... فهل تعوّم واشنطن بارزاني؟

23 October 2017


لا يفيد اليوم توجيه كل السكاكين نحو مسعود بارزاني. ولا تفيد العراقيين العرب الإشادة كثيراً بخطوة قيادات طالبانية اختارت الرضوخ لتهديدات الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، وتسليم كركوك بلا قتال. الكرد عموماً أصيبوا بنكسة كبيرة لن يطويها النسيان، وبمرارة عميقة مما ألحقت بهم إيران. «حلم الاستقلال» سيظل يراودهم. فهذه لم تكن التجربة الأولى ولن تكون الأخيرة. سيحملون مرارات وضغائن حيال زعمائهم وحيال القوى الإقليمية والدولية التي شعروا بأنها لم ترحمهم أو تقيهم هذه الهزيمة المذلة. لن يوفروا أحداً من المسؤولية عما آل إليه الوضع. طهران أول المنتصرين وحيدر العبادي أيضاً، وأنقرة وجميع الذين عارضوا إجراء الاستفتاء. خسر الحزبان الكرديان الكبيران الجولة. ما حدث وجه ضربة موجعة إلى كل قوى الإقليم وأحزابه. لن يخرج حزب منتصراً على آخر. طويت الآن صفحة الاستفتاء وإن ظلت نتائجه حاضرة في وجدان غالبية الكرد. بات من الماضي. لم يعد شرطاً للحوار بين أربيل أو الكرد عموماً وبغداد. صفحة جديدة تفتح، بل خريطة جديدة ترسم في الإقليم والعراق عموماً.

خريطة كردستان ستكون موضع تساؤل. وربما طاولتها تغييرات بعد هذه النكسة. فبغداد تشعر بأنها حققت ما لم تحققه الأنظمة والعهود السابقة. والانقسامات تعصف بالصف الكردي الذي يجد نفسه أمام تحدٍ كبير لتحاشي الحرب الأهلية مجدداً بين أحزابه وقواه المختلفة. ما يحتفل به عرب العراق في سرهم أن أكراده لم يكونوا مختلفين عنهم. يكفي شاهداً استعادة ما تتبادله القوى الكردية ذاتها، من سنيتن وأكثر، من اتهامات بسوء الإدارة والاستئثار بالسلطة والاستبداد والفساد والمحسوبية ونهب المال العام والنزاعات العشائرية والمناطقية والعائلية، والتنافس بين أربيل والسليمانية وما حصل من تدخلات خارجية قديماً وحديثاً... لم تكن حسابات مسعود بارزاني دقيقة وصائبة، خصوصاً بإصراره على شمول الاستحقاق كركوك والمناطق المتنازع عليها. لم يتعلم من التجارب السابقة. أخذه الغرور وحلم الزعامة بعيداً من الواقع فاصطدم بجملة من الإرادات المحلية والإقليمية والدولية التي حذرته وناشدته تأجيل الاستفتاء. اطمأن قبل أسابيع من الاستحقاق إلى مواقف لم تبدُ متشددة. كان كثير منها من باب التمني أو التذرع بأن الوقت ليس مواتياً. وربما استبعد لجوء بغداد إلى استخدام القوة في ظروف دقيقة يخوض فيها الجيش و «الحشد» حرباً على «داعش». واعتقد بأن نتيجة الاستفتاء ستخلق وضعاً جديداً.

راهن بارزاني بالتأكيد على علاقاته التاريخية مع الأميركيين المنتشرين في قاعدة قرب كركوك، والذين قد لا يسمحون بشن حرب على الإقليم بعد مساهمته الكبيرة في التصدي لـ «تنظيم الدولة». ولكن تبين لاحقاً أنهم لم يحركوا ساكناً وهم يشاهدون تقدم الجيش و»الحشد» نحو المدينة ومناطق أخرى. التزم الرئيس دونالد ترامب كلامه. التزم «الحياد» في الصراع. وأغمض عينيه عن جولة الجنرال سليماني ودوره! ترك رئيس الإقليم وحيداً كأنه يعاقبه لعدم سماعه نصائح واشنطن. أو لعله تحاشى إعاقة مشاركة «الحشد» في الحرب لاقتلاع «دولة الخلافة»، ورغب في رفع رصيد العبادي بمواجهة خصومه. أدرك بارزاني خطورة الموقف عشية الاستفتاء بعدما تصاعدت لهجة التهديدات من جانب طهران وأنقرة. وأيقن أن حساباته قد تخطئ ولكن... لات ساعة مندم. كان الأوان قد فات. لم يعد بمقدوره التراجع، لأنه وضع مستقبله السياسي رهن الاستفتاء. وكذلك كان موقف الهيئة العليا التي أشرفت على هذا الاستحقاق. كان التراجع سيشكل انتكاسة كبيرة.

المشكلة الآن هي في الحوار أو التفاوض بين بغداد والقيادة الكردية. والسؤال الكبير هو من سيمثل الكرد في التفاوض مع الحكومة المركزية؟ من سيكون شريكها الذي يتمتع بشرعية التمثيل، وبالحضور على الأرض؟ «حركة التغيير» الكردية وقيادات وأعلام ونخب من مختلف الأطياف في العراق تطالب باستقالة بارزاني. وبعضها لا يعده رئيساً للإقليم بعدما انتهت ولايته قبل سنتين. ولا السليمانية، العاصمة الثانية للإقليم، توالي خلفاً أو وريثاً وحيداً لجلال طالباني الرئيس العراقي الراحل وزعيم الاتحاد الوطني. ولا يعقل أن يمثل الإقليم القادة الميدانيون الذين فاوضوا قيادات عسكرية من القوات العراقية و «الحشد الشعبي» والجنرال سليماني، واتخذوا قرار الانسحاب من كركوك. فهؤلاء، كما تؤكد قيادات سياسية كردية، لم يستشيروا حكومة أربيل أو مسؤولين في الاتحاد قبل اتخاذ هذه الخطوة. ولكن ثمة من لا يلومهم على فعلتهم، وإن كان أهل كركوك من الكرد أغاظهم ما حصل وهم ناقمون عليهم، بعد الذي تعرضوا ويتعرضون له على أيدي الميليشيات. فقد كان سليماني واضحاً في لقائه معهم. حذرهم من أن بغداد ستستعيد بالقوة مدينة كركوك والمناطق المتنازع عليها ما لم تنسحب «البيشمركة» إلى الحدود التي رسمت بعد 2003 وقبل إعلان «دولة الخلافة» منتصف عام 2014. فهل تلقى قبولاً دعوة برهم صالح الذي خرج من الاتحاد الوطني، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات برلمانية في الإقليم لإدارة الحوار مع الحكومة المركزية؟ وهل تغلب الحكمة في بغداد وطهران قبلها فلا تبالغان في تعميق مرارة الكرد الذين لن تثنيهم خسارة ولن يرضخوا طويلاً لمبدأ القوة والقهر؟ غُلبوا ولكن... إلى حين!

وثمة سؤال آخر يتعلق بقضايا الحوار أو التفاوض بين الطرفين. إن نقاط الخلاف بينهما التي استندت إليها القيادة في أربيل لتبرير تصميمها على الانفصال لم تعد قائمة. حقول النفط التي كان الحزب الديموقراطي الكردي يستغلها عادت إلى سيطرة بغداد. وتعهد العبادي بأن حكومته ستتولى مباشرة دفع الرواتب المقطوعة عن الموظفين في الإقليم. أما المادة 140 الخاصة بكركوك والمناطق المتنازع عليها فلم تعد لها قيمة، بعدما استعادت السلطة المركزية هذه المناطق. قد تبقى الترتيبات في المدينة النفطية كما كانت في السابق. أي أن المحافظ سيبقى من حصة حزب الاتحاد الوطني. لكن المدينة باتت تابعة لبغداد مباشرة. فلا إدارة مشتركة بانتظار التطبيع والاحصاء فالاستفتاء عليها كما نص الدستور، ولا عودة لجند الإقليم إليها. أما إمكان قيام إقليم جديد بضم كركوك إلى السليمانية إضــافة إلى حلبجة فقرار لا يبدو منطقياً. فهل تتخلى بغداد عن مدينة كادت أن تقع حرب واسعة لاستعادتها من الكرد؟ علماً أن حلبجة أيضاً يحكمها الإسلاميون، فهل يرضـــخون لسلطة الاتحاد الوطني إذا كان هناك من يرغب في مكافأة بعض قادته الذين تمردوا وتقاسموا إرث طالباني؟

مُني الكرد عموماً، حلفاء بارزاني وخصومه، بنكسة كبيرة. إعادة تموضعهم تبعاً للتطورات الأخيرة ستستغرق وقتاً. ولن تمر بسهولة بلا آلام ومزيد من الخسائر. لقد ربح سليماني وحلفاؤه من القوى الشيعية وعلى رأسهم نوري المالكي الذي كان أكثرهم تشدداً وإحراجاً للحكومة. لكن العبادي كسب أيضاً معركة ثانية ستعرقل خطة خصومه لإزاحته من موقعه في الانتخابات البرلمانية الربيع المقبل. حقق حتى الآن هدفين رئيسيين في شباك منافسيه: كسب أولاً الحرب على «تنظيم الدولة» الذي قام في عهد زعيم «دولة القانون»، وسيطر على مساحات واسعة من أراضي العراق. وأنقذ ثانياً وحدة العراق من التقسيم من دون أن يخوض حرباً في سبيل ذلك. علماً أن المالكي مارس ضغوطاً من أجل استعادة ما أخذ الكرد بعد قيام «داعش» من أراضٍ لم يكن من الحكمة الاستيلاء عليها. وهدد وتوعد وأشرك «حشده» في الأحداث الأخيرة. فهل تتخلى عنه طهران هذه المرة كما فعلت عام 2014، بعدما بدا ورقة خاسرة، وبعدما ارتأت ألا تخاصم المرجعية في النجف وقوى شيعية بدأت اليوم تتمرد على قبضتها؟ علماً أن هذه القبضة تعززت بعد الأحداث الأخيرة. وأظهرت إيران في إدارتها الصراع في العراق أن لها اليد الطولى بلا منازع. ولا يعرف كيف سيتصرف الرئيس ترامب الذي قدم استراتيجيته القاضية بتقليم أذرع «الحرس الثوري» في المنطقة العربية، ويبحث عن دور لشركائه في الإقليم. فهل تتخلى إدارته عن تحالفها التاريخي مع بارزاني الذي لا يزال يتمتع بزعامة في كردستان، على رغم النكسة؟ هل تعمل لإعادة تعويمه بدل أن تتركه وحيداً بمواجهة حلفاء الجمهورية الإسلامية؟ وأي معنى بعد ذلك لاستراتيجية واشنطن الجديدة؟

حتى أنقرة التي كسبت هي الأخرى باستعادة كركوك من أيدي الكرد، هل تطوي صفحة اعتمادها على بارزاني بمواجهة حزب العمال الذي سيكون المستفيد الأول إذا انهارت الأوضاع في كردستان؟ تركيا تعتبر مدينة كركوك (وليس المحافظة) مدينة تركمانية. وكان لافتاً تحذيرها حكومة بغداد من استمرار المشاكل إذا لم تبادر إلى إصلاح الانتهاكات الديموغرفية. لا يعرف كيف ستترجم هذه التهديدات، في ظل هذا الانتشار الكبير للجيش العراقي، و«الحشد الشعبي» الموالي لإيران؟

أثبتت أحداث كردستان أن الوقت لم يحن لتغيير الخريطة الإقليمية التي رسمها فرنسوا جورج بيكو ومارك سايكس. ثمة إجماع للدول الكبرى والدول الإقليمية الفاعلة، من عرب وترك وإيرانيين على التمسك بالحدود القائمة. أقصى ما تطمح إليه المكونات المتصارعة في أكثر من بلد عربي هو القبول بتغيير حدود داخلية في إطار فيديرالية أو مركزية موسعة أو صيغة اتحادية، مهما أوغلت السكاكين في تشريح الدول الوطنية. لا وقت للعالم الذي يعارض موجة الإنفصال في أوروبا للانشغال بمشكلات وحروب لا تنتهي في الشرق الأوسط، بل قد تتفاقم بقيام دويلات هنا وهناك.

*نقلا عن صحيفة الحياة