تجارة الرهائن:

انتعاش "اقتصاديات الفِدَى" في مناطق النزاع بالشرق الأوسط

16 May 2017


انتشرت أعمال الاختطاف والإخفاء القسري التي تقوم بها الميليشيات المسلحة أو التنظيمات الإرهابية أو الجيوش الموازية أو العصابات الإجرامية أو القوى القبائلية في بؤر الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية، التي طالت مسئولين ودبلوماسيين وموظفي منظمات دولية غير حكومية ورجال أعمال وتجارًا وعمال إغاثة وصحفيين ونشطاء حقوقيين، ووُجِّهت إلى المسيحيين و"الأجانب" والسيدات والفتيات والأطفال، سواء من المنازل أو على الحواجز أو في الطرقات بغرض الحصول على مبالغ مالية كفدية، فضلا عن أسباب أخرى تتعلق بالتفاوض أو الضغط على الدولة للحصول على امتيازات معينة، أو لإسكات الأصوات المعبرة عن الرأي وغيرها، وهو ما يتم عبر وسطاء، إلى درجة أن بعض الأدبيات تشير إلى تبلور نمط من "شبكات الظل" غير الشرعية يطلق عليها "اقتصاديات الفِدَى"، نتيجة انتقال عمليات الخطف من حالات فردية معزولة إلى سوق سوداء آخذة في الانتشار.

دورة متكاملة:

تبدأ دورة عملية الاختطاف بالاختفاء المفاجئ، ثم إثارة الشائعات حول مصير المخطوف، وطريقة التعامل معه، وأخيرًا الاتصال لطلب فدية لإطلاق سراحه، وغالبًا ما تصل هذه الفدية إلى مبالغ مالية من الصعب تأمينها، على نحو ما عكسته حالات مختلفة في مالي ونيجيريا وليبيا واليمن وسوريا والعراق. ولعل تحذير وزارة الخارجية البريطانية، في 5 مايو الجاري، من أن حركة "بوكوحرام" تستعد لخطف أجانب في نيجيريا مقابل الفدية يعبر عن هذه التجارة الآخذة في الصعود.

غير أنه من الصعوبة بمكان تقدير حجم اقتصاديات الفِدَى في بؤر الصراعات الشرق أوسطية، إلا أنها متزايدة، حيث تستغل الجماعات المسلحة عمليات الاختطاف كمصدر تمويل، وكلما كانت منزلة المخطوف السياسية مرتفعة كانت الفدية المتوقعة أكبر حجمًا على نحو ما أوضحه الأمين العام لمنظمة "مراسلون بلا حدود" في بيان في 15 ديسمبر 2015، بقوله: "إن هناك تجارة حقيقية لاحتجاز الرهائن تطورت في بعض مناطق النزاعات"، خاصة في اليمن وسوريا والعراق، على الرغم من أن احتجاز الرهائن يعتبر جريمة حرب بموجب القانون الإنساني الدولي (أي قوانين النزاع المسلح).

وثمة عوامل ضاغطة أسهمت في تبلور اقتصاديات الفِدَى، خاصة في بؤر الصراعات بالإقليم، ويمكن تناولها على النحو التالي:

مركزية غائبة:

1- تصدع أو انهيار بنية الدولة الوطنية: لم تقتصر أبعاد التحولات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط على سقوط نظم سياسية، بل تمثلت في انهيار دول مركزية عربية، وتغير المعادلات الحاكمة للاستقرار الداخلي بدرجة كبيرة مقارنة بفترات سابقة، ومن ثم برز تفاقم عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، إذ إن ضعف سيطرة الدولة سمح للتنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة والعصابات الإجرامية بتوسيع نفوذها وإقامة ملاذات آمنة في مناطق خارج سيطرة الحكومة على نحو أسهم في زيادة تأثير الجريمة المنظمة الذي يزعزع الاستقرار في المنطقة.

وفي هذا السياق، تزايدت عمليات اختطاف في بغداد يقوم بها رجال بزي عسكري بحق ناشطين مدنيين بينهم طلبة جامعات بحجة أنهم مطلوبون للقضاء، ثم يفاوضون ذويهم على فدية، وهو ما حدث في الثلث الأول من مايو 2017، حيث تستغل بعض الجماعات المسلحة انشغال الحكومة العراقية بالحرب ضد تنظيم "داعش" في الموصل، في ظل تراجع سيادة القانون والإفلات من العقاب.

سيادة متنازعة:

2- تنامي نمط السلطة ذات الرؤوس المتعددة: وذلك بدرجات متفاوتة، على نحو ما تعكسه حالات سوريا واليمن وليبيا. فقد تصاعدت عمليات اختطاف المدنيين على أيدي الميليشيات المسلحة في عدة مدن بليبيا، طلبًا للفدية في كثير من الأحيان، وكان من أبرزها اختطاف الأكاديمي بجامعة طرابلس سالم محمد بيت المال في 20 إبريل 2017 بالقرب من بيته في منطقة صياد على أطراف مدينة طرابلس. وتجدر الإشارة إلى أن عدة ميليشيات تسيطر على مدينة صياد، حيث يعمل بعضها، بصورة اسمية، تحت سلطة وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، ولم تعلن أية جماعة مسئوليتها عن الاختطاف.

كما شهدت ليبيا العديد من عمليات اختطاف العمالة المصرية على يد جماعات مسلحة بغرض الحصول على فدية. ويُعد من أبرزها اختطاف 23 مصريًّا في 7 أغسطس 2016 على يد مسلحين في البريقة، وتعرض أيضًا خمسة عمال مصريين من أبناء محافظة الفيوم للاختطاف، في 14 يوليو 2016، من قبل عصابات مجهولة للحصول على فدية قيمتها نصف مليون دينار ليبي، على نحو يعكس نفوذ الميليشيات، وهو ما عبّرت عنه هبة مراديف مديرة بحوث شمال إفريقيا بمنظمة العفو الدولية في 8 مايو 2017، بالقول: "يسلط وباء اختطاف المدنيين، المتفشي على نطاق واسع، الضوء على غياب السيطرة الفعلية لأي فصيل يدعي الشرعية على الأرض".

نيران صديقة:

3- تدخلات أفرع من أجهزة الدولة الرسمية: وهو ما ينطبق على وضع سوريا في ظل حكم الأسد، حيث تشير الكثير من الكتابات إلى أن الأمن العسكري هو المسئول الأول عن عمليات الاختطاف في اللاذقية وريفها، إذ يتم استهداف أبناء الأثرياء والتجار، بل وصل إلى حد اختطاف أبناء أحد المسئولين، على نحو ما حدث بالنسبة لأحد أعضاء قيادة فرع حزب البعث بجامعة تشرين في مارس 2017، وأطلق سراحه حينها مقابل فدية مالية قُدِّرت بعشرة ملايين ليرة سورية. وقد تكرر ذلك مع حالات أخرى، إذ يتم تحرير مختطفين بالقرب من حواجز للأمن العسكري ذاته ويتم تقاسم العوائد ما بين أحد الضباط و"القيادة".

ولم تقتصر حالة الاتهام بالخطف على فرع الأمن العسكري، بل شملت مجموعات "الشبيحة" الذين يحتجزون مختطفين في المدينة الرياضية شمال سوريا. وهنا قد يتم استغلال اعتبارات "الشرف" لدى العائلات السورية المحافظة والغنية، إذ شهدت العاصمة دمشق تناميًا في حالات اختطاف النساء والفتيات من بعض العائلات الدمشقية العريقة؛ حيث يتعمد الخاطفون اختطاف الفتيات غير المتزوجات خصوصًا، وتهديد ذويهم في حال عدم دفع الدية المطلوبة، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى ما يقرب من خمسة ملايين ليرة سورية مقابل إطلاق سراحهن. وقد تكرر ذلك في منطقة كفر سوسة والبرامكة وحي الميدان في دمشق. 

الاختطاف المضاد: 

4- القبول بالصيغ التساومية في أتون الصراعات الداخلية: خاصة بعد تصاعد حدتها وتزايد الطلب على اقتناء الأسلحة، وتشكيل العديد من الميليشيات المحلية المسلحة تحت مسميات عدة، بحيث ظهر الاختطاف المضاد، خلال الأعوام القليلة الماضية، لتجنب دفع الفدية، وهو ما برز جليًّا في المنطقة الجنوبية من سوريا، إذ توجد الخطوط الفاصلة ما بين مناطق سيطرة قوات الجيش النظامي ومناطق سيطرة المعارضة المسلحة، وصار السلاح هو الترجمة الفعلية للقانون، ويعبر عن غياب شرعية الدولة، ويتفاهم الخاطفون المسلحون على تبادل المخطوفين من الجانبين، بحيث لا يدفع أحد من الطرفين فدية للآخر.

جماعات خطرة:

5- إطلاق سراح العناصر الإجرامية بعد الثورات: فعلى سبيل المثال، تشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى أن أكثر من 16 ألف سجين في ليبيا محكوم عليهم جنائيًّا، تم إطلاق سراحهم أثناء قيام ثورة 17 فبراير 2011، على نحو يفسر انتشار الجرائم التي يتسبب فيها المدانون الفارون من السجون، وخاصة المتورطين في جرائم الخطف بغرض الابتزاز المالي. كما أعلن محافظ ديالي في العراق مثنى التميمي في تصريحات صحفية، في 26 أكتوبر 2015، عن وجود عصابات في المحافظة تقوم بعمليات خطف بهدف الحصول على المال، وهي لا تنتمي إلى جهة سياسية.

شبكات هجينة:

6- تلاقح صلات التنظيمات الإرهابية والعصابات الإجرامية: شهدت السنوات الماضية تماهيًا بين أدوار الفاعلين المسلحين من غير الدول باستغلال فراغ الدولة. فالأفرع الرئيسية لتنظيم "القاعدة" تنسق الجهود التنظيمية فيما بينها، وتلتزم بما يشبه "البروتوكول المشترك"، عبر تكليف عصابات إجرامية بتنفيذ عمليات اختطاف الرهائن مقابل عمولات مالية.

لذا تُعتبر التجارة بالأجانب المخطوفين تحولا لافتًا في سلوك الجيل الثاني من كوادر "القاعدة"، وتحديدًا في فترة ما بعد الحراك الثوري العربي، خاصة في دولة مثل اليمن، حيث بدا الهم الرئيسي لـ"القاعدة" هو العائد المادي. بينما كانت بعض التنظيمات تعمد في فترات سابقة إلى قتل المخطوفين بهدف التأثير سلبيًا على البنية السياحية وإلحاق أضرار اقتصادية، على نحو دعا بعض الباحثين إلى ترجيح انتهاء حقبة "الاختطاف الكلاسيكي" وإعلان بدء حقبة "الاختطاف المافيوي المنظم".

مافيا منظمة:

7- تواطؤ الدولة مع مافيا الجريمة المنظمة: على نحو ما تعكسه أوضاع التحالف بين تنظيم "القاعدة" ونظامي الحكم في اليمن (فترة تولي علي عبدالله صالح) ومالي، إذ يعتبر تنظيم "القاعدة"، وإن بصورة جزئية، شبكة إجرامية، حيث يَختطف مواطنين غربيين كرهائن بهدف ممارسة ابتزاز مزدوج يتمثل في الحصول على فدية وإطلاق سراح أعضاء التنظيم المسجونين، الأمر الذي يعكس الحماية التي كان يتمتع بها التنظيم في فترات سابقة حينما استخدمت جهات نافذة داخل الحكومة الجريمة المنظمة كوسيلة سياسية عبر السماح لرموزها وحلفائها بالاستفادة من الأنشطة الإجرامية دون إدراك للمخاطر الناجمة عنها فيما بعد.

ونظرًا إلى أن طبيعة الدولة في اليمن تعكس التركيبة القبلية، فإن القبائل المهمشة تبحث لنفسها عن موضع للنفوذ. فقد لوحظ في السنوات الأخيرة تبلور تعاون بين بعض رجال القبائل وعناصر من "القاعدة" فيما يخص اختطاف الرهائن، حيث تخطف القبائل الرهينة أو الرهائن، ويتم التفاوض على مطالب الخاطفين، وقد ترفض القبائل العرض، وتتحرك "القاعدة" لاقتناص الفرصة فتدفع المبلغ المطلوب من القبائل، ثم تحصل على الرهائن فيما يشبه عمليات البيع.

نقاط التمويل:

8- تمويل أنشطة الفواعل المسلحة العنيفة: يعود سبب تنامي ظاهرة الاختطاف في البؤر الصراعية إلى أنها تقوم بتمويل الأنشطة الإجرامية للفواعل من أموال الفدية التي يتم الحصول عليها من ذوي المخطوفين، حيث يتم تمويل معظم عمليات التجنيد والتدريب وشراء الأسلحة. فقد صار الاختطاف أحد مصادر التمويل الرئيسية لعمليات التنظيمات الإرهابية، وهناك تصريحات مختلفة لناصر الوحيشي القائد السابق لتنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" يقول فيها: "إن اختطاف الرهائن هو غنيمة سهلة. وإنني أصفه بالتجارة المربحة والكنز الثمين". فالاختطاف يسهم في دعم الهياكل المالية الفاعلة في تمويل اقتصاديات الإرهاب والميليشيات المسلحة.

وبوجه خاص، ازدهرت تجارة الأعضاء البشرية لدى التنظيمات الإرهابية و"داعش" تحديدًا؛ حيث يأخذ كوادره وقيادته من الرهائن الأحياء الأعضاء البشرية، ويستأجر أطباء من جنسيات أجنبية لتشغيل نظام موسع لتجارة الأعضاء (القلوب، والأكباد، والكُلى) في المستشفيات التي وقعت تحت نطاق سيطرته، سواء في العراق أو سوريا، وتهريبها إلى دول الجوار وبيعها في الأسواق السوداء، حيث توجد العصابات الدولية المتخصصة في هذه التجارة.

بلطجة مناطقية:

9- ارتفاع معدلات البطالة الإجبارية في مناطق المواجهات الساخنة: صارت ظاهرة الاختطاف من المنازل أمرًا شائعًا في بعض المدن السورية، مثل حمص وحماة وإدلب وحلب، إذ تشكَّلت عصابات إجرامية -دون أن تكون لها صلة بالصراع المسلح بين النظام والمعارضة- تعيش على أعمال السلب والخطف الذي أصبح يتم وسط المدن وخلال ساعات النهار، ويُدر أموالا طائلة من تحرير المخطوفين. بل وظهر أشخاص يعملون كوسطاء بين العصابات الخاطفة وأهالي المخطوفين، وغالبًا ما يكونون من وجهاء المناطق.

وقد كانت جرائم الاختطاف موجهة في بداية تشكلها في بؤر الصراعات إلى النخبة الثرية، خاصة رجال الأعمال والتجار أو ذويهم القادرين على دفع الفدية، ثم تمدد نشاطها واتسعت مكوناتها لتصبح بمرور الوقت أقرب إلى أعمال البلطجة المناطقية المنظمة، إذ لم تواجهها أجهزة الدولة المتعثرة، وبات ضحاياها من عامة الناس الذين يجمعون الفدية المطلوبة من خلال بيع الممتلكات الشخصية، أو عن طريق تطبيق التكافل الاجتماعي بين أفراد العائلة المنكوبة.

عوائد ضخمة:

10- غياب الأنشطة الاقتصادية البديلة التي تحقق ثراءً سريعًا مماثلا: تشير الأوضاع الاقتصادية داخل بؤر الصراعات بالإقليم إلى أن تجارة الاختطاف للحصول على فدية تجلب أموالا طائلة مقارنة بغيرها من الإيرادات المالية التي تتم خارج النشاط الإجرامي. وإلى أن تتوافر بدائل اقتصادية عملية، من شأنها تضييق الخناق على عمليات الخطف، يبدو أنه من المتعثر حدوث ذلك في ظل ضعف مؤسسات الدولة، وصراع أجهزتها، وانقسام نخبتها، بل وتواطؤ من أجنحة الحكم، حيث إن كل صفقة مالية تشجع على القيام بأخرى، وفقًا لنظرية "نفاذية الانتشار".

بيزنس الاختطاف:

خلاصة القول، تزدهر تجارة الرهائن بشكل كبير في بؤر النزاع بالإقليم، بما يسهم في شراء أسلحة، وتمويل عمليات إرهابية، ودفع مرتبات المقاتلين، والاستثمار في تبييض أموال، وهو ما يعكس دورة اقتصادية متكاملة، إلى درجة أن بعض الأدبيات تطلق عليها "ربيع الجريمة المنظمة" لتوافر البيئة القاعدية المُهيأة لانتعاش اقتصاد الفدية من تشكيلات عصابية محضة أو مهجنة، والتي تستعين بأطراف وسيطة مثل القبائل أو العشائر أو العائلات أو أمراء الحرب أو شركات الحماية الخاصة في عملية التسليم والتسلم التي تتم في قنوات ضيقة، وتتحدد تسعيرة الوسطاء بنسبة من المبلغ الكلي، وبناء على عدد الرهائن والمسافة التي يقطعونها مع خاطفيهم إلى مكان تسليمهم، وقد ترسل عبر مكاتب للتحويلات المالية (مثلما فعل "داعش" في بعض المراحل)، الأمر الذي يجعله "بيزنس" متكاملا وضخمًا.