خطوات تكتيكية:

لماذا أبرم "داعش" صفقة مع "جبهة النصرة" في سوريا؟

12 April 2017


يشكل الاتفاق الذي تم التوصل إليه مؤخرًا بين قيادات تنظيمي "داعش" و"هيئة تحرير الشام" (الواجهة الحالية لـ"جبهة النصرة" الموالية لتنظيم "القاعدة" في سوريا)، نقيضًا لما تميزت به العلاقة التقليدية بين الجانبين من عداء واضح منذ لحظة انفصال "داعش"، وتصاعد حدة الصراع الذي بدا جليًا في المواجهات المسلحة المتعددة التي اندلعت بينهما، وتزامن آخرها مع المفاوضات التي بدأت في فبراير 2017. لكن من الواضح أن ضغوط التطورات الميدانية الخاصة بالحرب على "داعش" في الموصل بالعراق، والاستعدادات الجارية لمعركة الرقة في سوريا؛ ربما دفعته إلى تغيير هذا النمط مرحليًّا.

وعلى ضوء ذلك، توصل الطرفان إلى توافق مرحلي على بعض التكتيكات الميدانية وفقًا لما كشف عنه القيادي في "جيش الإسلام" سمير الكعكة، ولم ينفه "داعش"، حيث تم الاتفاق، على مستوى قيادات التنظيمين، على أن يقوم الأخير بسحب عناصره من الجبهات الشرقية في كلٍّ من القلمون وريف حماة ودرعا، وإفساح الطريق لـ"النصرة" إلى الغوطة الشرقية التي تشكل بدورها موقعًا استراتيجيًّا باتجاه دمشق، في مقابل منح "داعش" حرية حركة في مناطق أخرى تسيطر عليها "النصرة"، وتسهيل عبور الإمدادات للتنظيم من مناطق سيطرتها باتجاه محور الرقة.

وتعد هذه هي المرة الأولى التي يبرم فيها الطرفان صفقة من هذا النوع، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة، منها: ما هى المكاسب التي سيحصل عليها "داعش" في المقابل؟، وهل يشكل اتفاق من هذا النوع مقدمةً للعودة إلى الاندماج بين الطرفين في المستقبل؟، وما الذي يمكن أن يفرضه من تداعيات على الساحة السورية؟.

تراجع ملحوظ:

ربما يمكن القول إن هذا الاتفاق التكتيكي يطرح دلالتين مهمتين: تتمثل الأولى، في أنه يؤشر إلى احتمال تراجع "داعش"، فوفقًا لمعطيات ميدانية عديدة، فإن التنظيم يشهد تراجعًا حادًّا إثر انكشافه على الجبهات المختلفة، حيث يبدو التنظيم مبعثرًا في مواجهات صعبة. فهناك فريق في معركة الموصل يواجه مصيرًا صعبًا في ظل عدم القدرة على المواجهات الحاسمة، بالإضافة إلى نجاح القوات العراقية -بدعم من قوات التحالف الدولي- في قطع معظم خطوط الإمداد الرئيسية عنه من سوريا، وبالتالي تحولت أهداف المعركة في العراق من هدف استراتيجي، هو النصر لدى "داعش"، إلى هدف تكتيكي هو تعطيل أو تأخير معركة الرقة حتى يتم ترتيب وضع التنظيم في سوريا.

لكن التنظيم يواجه كذلك مصيرًا في الرقة لا يقل صعوبةً عن نظيره في الموصل؛ حيث تفرض "قوات سوريا الديمقراطية" عليه حصارًا تدريجيًّا وبدعم عسكري أمريكي، كما يواجه تشتتًا في مواجهات بالمناطق التي يستعد للانسحاب منها وفقًا للاتفاق في القلمون وريف دمشق الشرقيين ودرعا، حيث دخل -من جهة- في معارك مع "الجيش السوري الحر" خسر فيها مواقعه اللوجستية في القلمون الشرقي، كما وقعت صدامات- من جهة أخرى- بين فصيل "جند الأقصى" التابع له وبين فصائل تابعة لـ"هيئة تحرير الشام" (النصرة) في فبراير 2017.

وبالتالي من المتصور أن خطة التنظيم -مرحليًّا- تنصب على هدفين وفقًا للمعطيات الميدانية المشار إليها؛ هما تقليل خسائره ووقف حالة الاستنزاف التي يتعرض لها على الجبهات المختلفة، فضلا عن إعادة هيكلية الانتشار أو التموضع الميداني لقواته، ومن ثم فإن أفضل السبل هي إبرام هذا الاتفاق مع "جبهة النصرة".

مسارات محتملة:

وتنصرف الثانية، إلى أنه يلقي الضوء على المسارات المحتملة للتنظيم في مرحلة ما بعد انتهاء معركة الرقة، وهى مسارات مترتبة على الاحتمال الأول، ونابعة من إدراك التنظيم أن تكتل الخصوم في ظل تراجع قدراته يعني أن التنظيم ربما دخل مرحلته النهائية، وأنه سيخسر معركة الرقة حتميًّا. ومن منطلق هذا الإدراك عليه أن يُؤمِّن قدر الإمكان الكوادر التنظيمية التي يمكنها لاحقًا إعادة إنتاج التنظيم مجددًا بآليات مختلفة.

وهذا التصور يعني -ضمنيًّا- أنه لا يتجه إلى سيناريو إعادة الاندماج مع "النصرة"، لشواهد عديدة، منها أن "النصرة" دعت "داعش"، مع انطلاق عملية الموصل، إلى مغادرة سوريا، فضلا عن أن مسار الاتفاق بينهما والإعلان عنه وعدم التكتم عليه يُوحي بأنه يرسم مستقبل العلاقة بينهما، حيث سيتعين على "جبهة النصرة" تأمين مسار الخروج لـ"داعش".

ولكن هذا السيناريو قد تطرأ عليه تغيرات حال وقوع تطورات مثل مقتل البغدادي، حيث سيفرض ذلك خيارات صعبة على التنظيم، لا سيما في ظل فقدانه أغلب قيادات الصف الأول في المواجهات التي اندلعت في الفترة الماضية، ولكن ربما لا يمكن استبعاد اتجاه بعض عناصره إلى الانضواء مجددًا تحت راية "النصرة"، خاصة تلك التي ستقرر البقاء في الساحة السورية.

تداعيات مباشرة:

بالنسبة لـ"داعش" وفي حدود ما تم الكشف عنه من اتفاق بين الجانبين، وفي إطار التطورات الميدانية، وبحسب خرائط المتابعة الدورية لمعهد دراسات الحرب الأمريكي؛ فإن التنظيم يقوم منذ الأسبوع الأخير في شهر مارس بعملية إخلاء ممنهج على خط جنوب شرق مع القلمون الشرقي باتجاه محور البادية السورية التي تمتد من جنوب الرقة شمالا باتجاه أرياف حماة وحمص ودمشق الشرقيين، وصولا إلى دير الزور وحتى الحدود الدولية مع العراق، وفي حال اكتملت عملية الإخلاء التي بدأها التنظيم فسيكون من الصعوبة الحديث عن معركة طويلة في الرقة.

وبالتالي تتجه حسابات التنظيم إلى مسارين: الأول، إدارة معركة شكلية في الرقة لإقناع قواعده بأنه خاض معركة وجوده حتى نهايتها، ومبرره في ذلك نابع من تفاصيل الاتفاق مع "النصرة"؛ حيث إن المعلن هو أنه قام بعملية تبادل بهدف خلق مسار إمداد جديد للرقة بعد إغلاق المسارات القديمة في اتجاه كلٍّ من العراق وتركيا في وقت سابق. 

والثاني، تأمين خطة الهروب أيضًا من الرقة، وذلك وفقًا لما تسربه قيادات "قوات سوريا الديمقراطية" من أن التنظيم بدأ يُهرِّب بالفعل عناصره من الأجانب والعناصر الإقليمية بعوائلهم باتجاه دير الزور، وبالتالي يتلاقى هذا مع مسار الانسحاب وفقًا للاتفاق. والطريق المتصور هو طريق ما يُسمى بالبادية في صحراء سوريا، وصولا إلى التماس مع صحراء الأنبار مرة أخرى في العراق، أو ما يُعرف إجمالا ببادية الشام التي تبدأ من جنوب الرقة وصولا إلى البوكمال في شرق سوريا، ومنها يسلكون الطريق نحو الصحراء العراقية إلى أطراف الرمادي، ومن المتوقع أيضًا أن يحاول بعض الإرهابيين العودة إلى مواطنهم الأصلية.

أما بالنسبة لـ"هيئة تحرير الشام"، فإن العائد المهم من الاتفاق بالنسبة لها هو إفساح الطريق للسيطرة على الخاصرة الشرقية لدمشق، ومنها الطريق مفتوح إلى مطار دمشق الدولي، بالإضافة إلى كونها محور إمداد لأحياء دمشق الشرقية (جوبر، وبرزة، والقابون)، كما تصل سلسلة جبال القلمون مع ريف دمشق الشمالي والشرقي، وبالتالي فهي تشكل أهمية كبيرة في معارك دمشق التي تخطط لها الهيئة، وربما يكون هناك هدف احتياطي وهو تشكيل حائط صد ضد تسلل قوات النظام وحلفائه إلى الرقة أيضًا من خلال وضع "النصرة" على تلك الجبهة.

وفي النهاية، فإن اتفاقًا من هذا النوع لا يعني أنه الاتفاق الأول والأخير بين الطرفين؛ بل يعد بمثابة تسوية مؤقتة للخلاف بين "داعش" و"النصرة"، ويعني كذلك أنه لا تزال هناك صيغة مرنة تسمح بـ"سيولة جهادية" وصفقات بين الأطراف على أرضية براجماتية، لكن كل هذا سيصب في المدى المنظور لصالح "النصرة" التي يتوقع أن تقوى -عمليًّا- في إطار تمددها في مواقع "داعش"، وخاصة في الغوطة الشرقية ومنها إلى دمشق، كما أنها ستكون بلا خصم أو منافس إرهابي قوي في الساحة السورية، بل ستعتبر نفسها كسبت جولة مرحلية ضد "داعش"، وهو ما قد يساهم في دعم نفوذ تنظيم "القاعدة" مجددًا.