اختبار النوايا:

دلالات وتداعيات التصعيد الإيراني-الأمريكي

09 February 2017


دخل الخلاف المتصاعد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في ما يمكن تسميته بمرحلة "اختبار النوايا"، وذلك بهدف تقييم الخيارات المتاحة أمام كل طرف للتعامل مع الخطوات التي يتخذها الطرف الآخر، وهو ما يزيد من احتمالات التصعيد بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، لا سيما في ظل حرص إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على توجيه رسائل عديدة إلى إيران بأن سياستها تختلف بشكل كبير عن تلك التي تبنتها إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما، في مقابل تعمد إيران إبداء ردود فعل متشددة تجاه القرارات الأخيرة التي اتخذتها الإدارة.

تقييم مسبق:

ربما يمكن القول إن الهدف الأساسي الذي سعت إيران إلى تحقيقه من تجربة إطلاق صاروخي باليستي في 29 يناير 2017، هو اختبار ردود الفعل التي سوف تُبديها الإدارة الأمريكية الجديدة، والخيارات التي سوف تستند إليها في التعامل مع تلك الخطوة التصعيدية من جانب إيران، وذلك كمقدمة لوضع سياسة إيرانية جديدة للتعامل مع الضغوط التي سوف تفرضها إدارة ترامب خلال المرحلة المقبلة، خاصةً في حالة ما إذا اتجهت هذه الإدارة إلى ادراج الحرس الثوري كمنظمة إرهابية.

 وبعبارة أخرى، فإن إيران لم تكن تسعى فقط إلى تجديد مزاعمها بأن تجربتها الصاروخية الأخيرة لا تتعارض مع الاتفاق النووي، على اعتبار أن صواريخها -حسب رؤيتها- ليست مخصصة لحمل الأسلحة النووية، وهي المزاعم التي روّجتها طهران خلال الفترة الماضية بعد إجرائها بعض التجارب الصاروخية في الفترة التالية على الوصول للاتفاق النووي، وإنما تسعى أيضًا إلى استشراف المسارات المحتملة للصراع مع إدارة ترامب خلال المرحلة المقبلة، والآليات التي يمكن أن تستخدمها في هذا السياق، أو بمعنى أدق تقييم مساحات التباين بين إدارتي ترامب وأوباما في التعامل معها.

تحرك أمريكي مضاد:

ويبدو أن إدارة ترامب قد أدركت مغزى التصعيد الإيراني الأخير، أو بمعنى آخر اعتبرت أن التجربة الصاروخية تهدف إلى اختبار نواياها وخياراتها المتاحة، وهو ما يبدو أنه دفعها إلى توجيه "رسائل عاجلة" لإيران، كان آخرها ما جاء على لسان نائب الرئيس مايك بنس، الذي وجه تحذيرات لإيران، في 5 فبراير 2017، من "اختبار حزم" إدارة الرئيس ترامب، مضيفًا: "سيكون من الأفضل لإيران أن تدرك أن هناك رئيسًا جديدًا للولايات المتحدة، ومن الأفضل ألا تختبر حزم هذا الرئيس".

ومن دون شك، فإن هذه التحذيرات تتوافق بدرجة كبيرة مع "تغريدات" الرئيس ترامب على موقع "تويتر"، والتي قال فيها إن "الإيرانيين لا يقدرون كم كان الرئيس أوباما لطيفًا معهم، ولكن ليس أنا".

وبالتوازي مع ذلك، سارعت إدارة ترامب إلى الرد على محاولة إيران اختبار نواياها باتخاذ خطوتين: تتمثل أولاهما في فرض عقوبات جديدة على 13 فردًا و12 كيانًا يُشتبه في تقديمهم دعمًا لوجيستيًّا لبرنامج الصواريخ الباليستية، وتجميد أصول أفراد وكيانات من إيران وبعض الدول، وحظر إجرائهم صفقات في الولايات المتحدة أو مع أمريكيين. وتنصرف ثانيتهما إلى التلويح بأن كل الخيارات أصبحت متاحة في الفترة الحالية في التعامل مع ما تعتبره الولايات المتحدة الأمريكية تهديدًا من جانب إيران، في إشارة إلى الخيار العسكري تحديدًا.

تباينات واضحة:

هذه الخطوات التي اتخذتها إدارة ترامب في التعامل مع الإجراءات التصعيدية الإيرانية، تشير إلى أن سياسة الإدارة الجديدة تجاه إيران تختلف عن سياسة الإدارة السابقة في محورين رئيسيين: الأول هو أن الإدارة الجديدة باتت ترى أن الخطوات الإيرانية "تهدد حياة الأمريكيين"، وهو توجه لم يكن ضمن أولويات إدارة أوباما التي كانت تعوّل في المقام الأول على الاستمرار في تنفيذ الاتفاق النووي، وعدم منح الفرصة لبعض التيارات داخل واشنطن وطهران من أجل عرقلته. وقد عبّر وزير الدفاع الأمريكي الجديد جيمس ماتيس عن تلك الرؤية بقوله، في 4 فبراير 2017، إن "أفعال إيران تضع حياة الأمريكيين في خطر". والثاني هو عدم حصر محاور الخلاف مع إيران في الاتفاق النووي رغم أهميته بالنسبة للإدارة الأمريكية؛ حيث يبدو أن الأخيرة باتت تبدي أهمية خاصة بالتأثيرات السلبية للسياسة الإيرانية على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، بشكل قد يوحي بأن الضغوط التي سوف تفرضها على الأخيرة لن تنحصر فقط في الاتفاق النووي، وإنما سوف تتركز أيضًا على الاتهامات الموجهة لإيران بدعم الإرهاب.

 وهنا، كان لافتًا أن الإدارة الجديدة بدأت في إلقاء الضوء على التدخلات الإيرانية في دول الأزمات، لا سيما في سوريا والعراق واليمن. فقد أشار ترامب إلى النفوذ الإيراني في العراق، في الوقت الذي استنزفت فيه موارد مالية أمريكية كبيرة في العراق قدّرها ترامب في إحدى تغريداته بنحو 3 تريليونات دولار. 

كما كشفت تقارير عديدة عن أن إدارة ترامب بدأت تتبنى رؤية مناوئة للوجود الإيراني في سوريا، رغم أنها لا تبدي اهتمامًا ملحوظًا بمسألة خروج الأسد من السلطة كإحدى آليات الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، وربما تتجه -في هذا السياق- إلى الوصول لتفاهمات ما مع روسيا تقضي بتقليص دور الميليشيات الحليفة لإيران داخل سوريا، خاصة في ضوء بروز مؤشرات عديدة تكشف عن امتعاض روسيا من الأدوار التي تقوم بها تلك الميليشيات على الأرض، وحرصها على استمرار التنسيق مع تركيا من أجل دعم فرص الوصول إلى مثل تلك التسوية خلال الفترة المقبلة.

وبالتوازي مع ذلك، لا يبدو أن نشر الولايات المتحدة الأمريكية المدمرة "يو إس إس كول" أمام السواحل اليمنية، في 3 فبراير 2017، بهدف حماية الملاحة الدولية في باب المندب ينفصل عن التصعيد مع إيران خلال الفترة الأخيرة، وعن اتجاه الإدارة الأمريكية إلى التركيز على تدخلات إيران السلبية في الأزمات الإقليمية المختلفة، وإلقاء الضوء على الأدوار السلبية التي يقوم بها الحرس في تلك الأزمات.

خيارات ضيقة:

وفي ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن إيران تواجه مأزقًا حرجًا مع هذا التصعيد من جانب إدارة ترامب، وذلك رغم تلويحها بقدرتها على مواجهة هذا التصعيد، إذ إن أحد أهدافها الرئيسية من الوصول للاتفاق النووي مع مجموعة "5+1" كان يتمثل في انتزاع اعتراف دولي بها كقوة إقليمية في المنطقة، أو على الأقل التغاضي عن أدوارها وتدخلاتها في الأزمات الإقليمية المختلفة، وهو ما توازى مع تعمد الإدارة الأمريكية السابقة عدم التركيز على هذا الملف، بهدف دفع إيران إلى الاستمرار في تنفيذ الاتفاق النووي الذي كانت تعتبره أحد أهم إنجازاتها على صعيد السياسة الخارجية، في ظل إخفاقاتها المتتالية في الملفات الأخرى، على غرار الملفين السوري والأوكراني.

 وبعبارة أخرى، فإن تعمد الإدارة الأمريكية الجديدة توسيع نطاق الخلافات مع إيران، ليشمل "ملفات غير نووية"، سوف يفرض خيارات ضيقة أمام الأخيرة، خاصة أنها تواجه في تلك الفترة ضغوطًا دولية وإقليمية لا تبدو هينة، فضلا عن أنها لا تستطيع بسهولة التلويح بخيار وقف العمل بالاتفاق النووي، رغم العقوبات الأمريكية الجديدة التي فرضت عليها، لا سيما أنها سوف تتحمل في تلك اللحظة المسئولية الدولية عن فشل الاتفاق، وسوف تخاطر بالدخول في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية وربما أطراف أخرى مثل إسرائيل.

 ولذا، فإن إيران سوف تتجه -على الأرجح- إلى مواصلة خطواتها التصعيدية التي اعتادت عليها، لا سيما فيما يتعلق بإجراء تجارب أو مناورات صاروخية، انتظارًا لما سوف تتخذه إدارة ترامب من خطوات جديدة في الملفات الإقليمية "غير النووية"، وفي مقدمتها الملفان السوري واليمني اللذان يحظيان بأهمية خاصة بالنسبة لها إلى جانب ملف دعم إيران للإرهاب، وبعدها تبدأ في تحديد خياراتها التي يمكن أن تستند إليها في التعامل مع الضغوط المتتالية التي بدأت تفرضها الإدارة الأمريكية الجديدة عليها.