اتجاه جديد:

دوافع تحول مواقف الإعلام الأوروبي إزاء قضية اللاجئين

05 January 2017


تبنت كثير من وسائل الإعلام في الدول الأوروبية، خلال السنوات الأربع الماضية، خطابًا داعمًا لقضية اللاجئين، وخصص بعضُها مساحات من الدعوات والمطالبات باستيعاب اللاجئين ومساعدتهم على تخطي أزماتهم وإدماجهم داخل المجتمعات الأوروبية من خلال آليات عديدة اقتصادية واجتماعية وتعليمية. غير أن تحولا ملحوظًا بدا يظهر في توجهات بعض تلك الوسائل من الترحيب باستقبال ودعم اللاجئين إلى الترويج لسياسات أكثر تحفظًا وإجحافًا -في بعض الأحيان- تجاهم، والدعوة إلى لحاق الدول الأوروبية المستضيفة لهم بالدول التي عزفت عن استقبالهم من البداية أو التي اتخذت قرارات بإعادتهم إلى بلادهم أو إلى الدول التي انتقلوا منها.

 ويتوازى ذلك مع تفاقم المشكلات الاقتصادية في بعض الدول الأوروبية، وظهور اتجاه داخل الرأى العام في تلك الدول بات يوجه اتهامات للاجئين بالمسئولية عن زيادة مستويات البطالة، ووقوع بعض العمليات الإرهابية، واستمرار الخروقات الأمنية، وهي الفرصة التي استثمرها اليمين الأوروبي المعادي للمهاجرين من الأساس قبل تفاقم مشكلة لاجئي الشرق الأوسط.

رأي عام منقسم:

 هذا التحول الملحوظ في اتجاهات الإعلام الأوروبي إزاء قضية اللاجئين والمهاجرين ساهم، على ما يبدو، في حدوث انقسام في توجهات الرأى العام الأوروبي تجاه القضية نفسها. فخلال الأشهر القليلة الماضية، أظهرت العديد من استطلاعات الرأى العام للشارع الأوروبي أن ثمة تراجعًا ملحوظًا في دعم الشعوب الأوروبية لقضية اللاجئين، وتصاعدًا في حدة التخوفات المرتبطة بوجودهم في المجتمعات الأوروبية. فعلى سبيل المثال، أشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "بيو" للأبحاث، شمل 10 دول أوروبية هى بريطانيا والسويد وألمانيا وهولندا واليونان وفرنسا وبولندا وإيطاليا والمجر وإسبانيا، ونشرت نتائجه على موقعها الإلكتروني خلال شهر يوليو 2016، إلى بروز التوجه المعادي للمسلمين في العديد من الدول الأوروبية. فقد أوضحت نتائج الاستطلاع أن بريطانيا قد شهدت زيادةً في نسبة المعادين للمسلمين بمقدار تسع نقاط، لتصبح النسبة 28% خلال عام 2016 مقارنةً باستطلاع مماثل أُجرى في عام 2015.

 كما ارتفعت النسبة أيضًا في إسبانيا وإيطاليا بمقدار 8 نقاط في كلٍّ منهما، لتصل إلى 50% و69% على التوالي. وبلغت النسبة في اليونان 65% بين سكان البلاد، وذلك بزيادة قدرها ‏12‏ نقطة مئوية. وكشفت النتائج أيضًا عن أن 59% من إجمالي المستطلع رأيهم في الدول التي شملها الاستطلاع يشعرون أن ارتفاع أعداد اللاجئين يزيد احتمال تنفيذ عمليات إرهابية في بلادهم.

 وتأتي نتائج استطلاع الرأى السابق متسقة -إلى حدٍّ كبير- مع المحتوى الإعلامي الذي تقدمه كثير من وسائل الإعلام الأوروبية في الوقت الحالي. فرغم الجهود التي تبذلها بعض وسائل الإعلام في ألمانيا في سبيل إدماج اللاجئين، وتعريفهم بتقاليد المجتمع الأوروبي الجديد الذي انتقلوا إليه؛ تأتي بعض وسائل الإعلام في دول أخرى مثل بلغاريا وبولندا على رأس وسائل الإعلام الأوروبية الرافضة للاجئين، حيث تركز على السلبيات العديدة التي يفرضها تواجد اللاجئين والمهاجرين في أوروبا، وتدعو إلى طردهم وإعادتهم إلى بلادهم بدعوى زيادة معدلات الجريمة وحالات التحرش، واستمرار العمليات الإرهابية، فضلا عن ارتفاع نسبة البطالة، وتدني الأوضاع الاقتصادية، وهى المبررات التي تحاول بعض وسائل الإعلام الأوروبية المعتدلة دحضها من وقت إلى آخر، بالتركيز على حجم المغالطات التي تُروَّج في هذا الشأن لخدمة أهداف سياسية، وبتوظيف من اليمين الأوروبي لوسائل إعلام تابعة له أو تتبنى أفكاره.

 ورغم ذلك، فإن استطلاعات أخرى أجرتها بعض المؤسسات البحثية كشفت عن نتائج مختلفة بشكل كبير عن نتائج الاستطلاعات السابقة. فقد كشف استطلاع الرأى الذي أجرته مؤسسة "ابسوس موري" وشمل 12 دولة أوروبية، في سبتمبر 2016، أن أكثر من ثلاثة أرباع الأوروبيين يتعاطفون مع اللاجئين السوريين الذين يفدون إلى بلادهم حيث جاءت أيرلندا في المرتبة الأولى فيما حلت سلوفاكيا في المرتبة الأخيرة.

 وهنا كان لافتًا أن بعض وسائل الإعلام اهتمت بنشر نتائج هذا الاستطلاع إلى جانب تصريحات أدلى بها وزير الخارجية البريطاني السابق ديفيد مليباند الذي يرأس ما يسمى بـ"لجنة الإنقاذ الدولية" التي طلبت إجراء الاستطلاع، وقال فيها أن "تلك النتائج تثبت أن الأوروبيين لم يفقدوا قلوبهم". 

تحول تدريجي:

 لكن ذلك لا ينفي بالطبع أن ثمة اتجاهًا بدأ يتصاعد في وسائل الإعلام الأوروبية يدعو إلى رفض استقبال اللاجئين ويتهمهم بالتسبب في أزمات أمنية واقتصادية في الدول التي استضافتهم، بشكل يشير إلى حدوث تحول تدريجي في توجهات الإعلام الأوروبي إزاء تلك القضية، وهو ما يعود إلى اعتبارات عديدة تتمثل في:

1- صعود اليمين: منذ بداية أزمة اللاجئين، يُبدي اليمين الأوروبي تشددًا واضحًا حيال وجود أجناس وأعراق وثقافات غير أوروبية، معتبرًا أن المهاجرين واللاجئين مصدر حقيقي وليس محتملا فقط للتهديدات التي تواجه الدول الأوروبية. وقد شهد العامان الماضيان صعودًا ملحوظًا في شعبية هذا التيار، الذي استفاد من وقوع بعض العمليات الإرهابية، لا سيما في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وتفاقم الأزمات الاقتصادية في بعض الدول.

2- تبني خطاب متشدد: بدأت بعض وسائل الإعلام الأوروبي في تبني مواقف متشددة تجاه المهاجرين واللاجئين. فعلى الرغم من عدم وجود برامج تلفزيونية خاصة تمنح الأولوية للهجوم على اللاجئين كمثيلتها التي تدعو إلى دمجهم في المجتمعات وتقديم الدعم لهم، فإن مداخلات السياسيين والنشطاء اليمينيين لا يكاد يخلو منها برنامج حواري في عددٍ من الدول الأوروبية مثل المجر والسويد والنمسا.

 ويتوازى ذلك مع اهتمام بعض وسائل الإعلام الأوروبية بمتابعة أنشطة حركة "بيغيدا" (وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب) التي تبدي استياءًا واضحًا تجاه تدفق المهاجرين إلى ألمانيا، وقد نجحت في تنظيم تظاهرة حاشدة في أكتوبر 2016 بمدينة دريسدن الألمانية، دعت إلى طرد المهاجرين المسلمين. وقد مثل لوتز باخمان مؤسس الحركة أمام القضاء في مدينة دريسدن، في أبريل 2016، بتهمة التحريض على "الحقد العنصري"، بالتزامن مع اعتقال خمسة أشخاص قرب المدينة نفسها كانوا يخططون للهجوم على مراكز لإيواء اللاجئين وارتكاب أعمال معادية للمهاجرين.

 وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن مجلة "ويب" البولندية قد نشرت على أحد أغلفتها اتهامًا صريحًا للاجئين بتقويض أمن واستقرار أوروبا، مع صورة تُشير إلى جرائم الاعتداءات الجنسية التي قام بها بعض المهاجرين خلال الشهور الماضية، ‏فيما يستخدم هذا النوع من الإعلام الأوروبي ألفاظًا تحريضية عند الحديث عن اللاجئين مثل "الفوضى" و"الهجوم" و"الوحشية" و"الإرهاب". 

3- تضخيم الأزمات: أشارت صحيفة "‏The Guardian"‏ إلى تقرير أصدرته شبكة الصحافة الأخلاقية  "Ethical Journalism Network" في 17 ديسمبر 2015، وجاء فيه أن قدرًا كبيرًا من التضليل تحتويه المادة الإعلامية في حديثها عن اللاجئين المتدفقين إلى أوروبا، بهدف حشد الرأي العام، والترويج للأفكار اليمينية التي تنبذ المهاجرين واللاجئين من خلال تضخيم المشكلات الاقتصادية التي تُعاني منها هذه الدول.

 وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن الإعلام الأوروبي انقسم إلى أكثر من اتجاه في تعامله مع قضية اللاجئين والمهاجرين. فإلى جانب الاتجاه الداعي إلى الترحيب بهم ودعم سياسة إدماجهم في المجتمعات الأوروبية، بدأ يظهر اتجاه جديد يتبنى نهجًا مختلفًا يدعو إلى إعادتهم إلى بلادهم وتقييد تحركاتهم، وهو انقسام يبدو أنه سوف يستمر خلال المرحلة القادمة، في ظل تفاقم الأزمات الاقتصادية واستمرار العمليات الإرهابية التي تشهدها بعض المدن الأوروبية، والتي تفرض تداعيات سلبية على اللاجئين والمهاجرين بشكل عام.