تصاعد متدرج:

"تسييس" الرعاية الصحية في الشرق الأوسط

08 November 2016


تزايدت أنماط تهديد الأمن الصحي في دول الشرق الأوسط، وبصفة خاصة في بؤر الصراعات الداخلية العربية المسلحة؛ إذ ظهرت أوبئة وانتشرت أمراض مثل الكوليرا، والسل، والتيفوئيد، واللاشيمانيا، والكبد الوبائي، واتخذت طابعًا مسيسًا متدرجًا نتيجة حزمة من العوامل، على غرار انهيار النظم الصحية العامة، واستهداف المنشآت الطبية والمراكز العلاجية، وغياب الكوادر الطبية، وعرقلة أدوار المنظمات الإغاثية الدولية، وعدم وصول إمدادات الأدوية للمرضى بشكل منتظم، واستهداف أنابيب نقل المياه، وضعف فاعلية شبكات الصرف الصحي، وتزايد الاستقطاعات لمخصصات الرعاية الصحية، وتراجع الموارد المالية، والوقوع في مناطق نفوذ التنظيمات الإرهابية، وتدفقات المقاتلين الأجانب إلى البؤر الصراعية، وعجز الحكومات عن أداء مهامها التقليدية.

أمراض الصراعات:

تشير خبرة العقود القليلة الماضية إلى أن الأمراض والأوبئة مثلت تهديدات جدية لأمن الدول وهياكل اقتصادياتها ومناعة مجتمعاتها، لا سيما أن بعضها يظهر بشكل مفاجئ دون مقدمات تتيح إشارات إنذار مبكرة أو استعدادات مسبقة لاحتواء تأثيراتها، وهو ما تشير إليه أمراض الإيدز، وسارس (التهاب الجهاز التنفسي الحاد)، وكورونا (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية)، وإيبولا، وغيرها من الأوبئة التي مثلت تهديدًا عالميًّا، وفقًا لتعبير الرئيس الأمريكي باراك أوباما.

غير أن أحد الملامح الحاكمة لموجة الأمراض المتزايدة الانتشار في الشرق الأوسط هو "التسييس"، بما أدى لاختلافها عن موجات سابقة لانتشارها في إطار مواسم الحج وتدفقات العمالة وحركة الهجرة البينية. فالعوامل المسببة للأمراض في الإقليم وأنماط انتقالها والطرق المتبعة للسيطرة على انتشارها بدأت ترتبط بأبعاد سياسية. وقد تعددت العوامل الداخلية والخارجية، المباشرة وغير المباشرة، التي أدت إلى تسييس الرعاية الصحية في دول الإقليم، على النحو التالي:

1- انهيارات النظم الصحية: تزايد انتشار الأمراض في الإقليم، لا سيما السكري، وارتفاع ضغط الدم، والقلب، وضيق التنفس، والكبد الفيروسي، فضلا عن الانهيارات النفسية التي وصلت إلى المستوى الثالث الأعلى للطوارئ، وفقًا لما صنفته الأمم المتحدة، وهو ما يرجع بدرجة رئيسية إلى تصاعد انهيارات النظم الصحية، خاصة في دول الصراعات العربية بعد التصدعات التي شهدتها البنى الأساسية، على نحو ما أكدته الدورة الـ63 لـ"المكتب الإقليمي للشرق المتوسط" (إمرو) التابع لمنظمة الصحة العالمية في أكتوبر 2016. 

فقد أشارت المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية الدكتورة مارجريت تشان إلى كوارث الإقليم الصحية والاجتماعية الناجمة عن الأوضاع السياسية فيه، وخاصة في سوريا والعراق واليمن، وقالت: "دخلت الحرب في سوريا عامها السادس. وفي كل شهر يعاني 15 ألف شخص على الأقل إصابات ذات صلة بالنزاع، الأمر الذي خلق احتياجًا هائلا لرعاية الصدمات الجسدية والنفسية. وفي العراق لا يجد ملايين المدنيين النازحين ملاذًا آمنًا يأوون إليه. وانهار النظام الصحي في اليمن".

بنية مدمرة:

2- تدمير المنشآت الطبية: حرص نظام الأسد والقوى الدولية الداعمة له (روسيا) على توجيه ضربات للمراكز الطبية الواقعة في مناطق نفوذ المعارضة (وهو ما يتكرر بالنسبة للمدارس والجامعات والأسواق) لإجبار قطاعات واسعة من المواطنين على الهجرة والنزوح أو القبول بنمط التسويات فيما يُعرف بالمصالحات المحلية. وفي هذا السياق كشفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير لها في 31 أكتوبر 2016، عن استهداف روسيا كلية الطب في إدلب في 23 أكتوبر الماضي.

كما أشار إلى هذا الوضع لينوارد روبنشتاين، وهو مدير في مركز بلومبرج للرعاية الصحية وحقوق الإنسان في جامعة جونز هوبكنز، في تصريحات مختلفة بقوله: "إن الوضع في سوريا هو أسوأ هجوم منسق على الرعاية الصحية في الذاكرة الحية.. وفي أماكن مثل البوسنة والشيشان وأفغانستان وقطاع غزة لم يحصل شيء مماثل للذي حصل في سوريا".

وقد تكرر استهداف المؤسسات العلاجية و"الميدانية" في ليبيا، لا سيما بين "وكلاء" الحكومتين المتصارعتين في طرابلس وطبرق، وصارت المستشفيات المفتوحة تعمل بصفة جزئية. كما تعاني بعض المستشفيات اليمنية من الانقطاع المتواصل للكهرباء مثلما يحدث في الحديدة، بما يؤثر على استعمال آلات غسيل الكلى.

استهداف ممنهج:

3- غياب الكوادر المتخصصة: وهى الكوادر التي يمكنها التعامل مع الإصابات الخطرة، سواء نتيجة تعرضها للملاحقات الأمنية، أو فرارها من جحيم المواجهات المسلحة اليومية، على نحو ما تعبر عنه الحالة السورية، وهو ما دفع الهيئة الطبية في بلدتي مضايا وبقين الخاضعتين لسيطرة قوى المعارضة المسلحة بريف دمشق الغربي، في 27 أكتوبر الماضي، إلى تعليق عملها الطبي نظرًا للمعوقات التي تواجهها، وخاصة الكوادر التي يلقى على عاتقها معالجة الجرحى والمصابين بشكل دوري وعاجل، فضلا عن عدم كفاية المساعدات الطبية ونفادها مثل المسكنات، والأمصال، والمضادات الحيوية.

وقد تكرر ذلك في الحالة الليبية بعد وقوع هجمات من قبل المرضى أو عائلاتهم أو الميلشيات المسلحة بشكل متعمد ضد العاملين في المجال الطبي، على نحو أدى إلى تضاعف حالات الوفاة الناتجة عن الأمراض والجروح التي يمكن علاجها. فضلا عن غياب طواقم التمريض المساعدة بعد إعلان الفلبين عزمها سحب 13 ألفًا من رعاياها في ليبيا، من بينهم ما يقرب من 3000 عامل في القطاع الطبي في أغسطس 2014، ولا توجد مؤشرات واضحة لحدوث ذلك.

وقد يغيب أطباء متخصصون في مجالات بعينها، مثل الصحة النفسية التي تُعد تحديًا رئيسيًّا لوكالات الإغاثة في دول الصراعات العربية، سواء بين المواطنين أو اللاجئين، حيث انتشرت أمراض التوحد، والميول الانتحارية، و"الفزع الليلي"، بعد تصاعد ظواهر قتل الأطفال، والاعتداء على النساء، وارتكاب المذابح ضد الأقليات.

4- عرقلة أداء المنظمات الإغاثية: تواجه تلك المنظمات عقبات كثيرة للقيام بمهامها الإنسانية، لا سيما فيما يتعلق بإيصال المساعدات الطبية والغذائية إلى مناطق الصراعات، على غرار العقبات التي تضعها قوات الأسد بصورة متعمدة أمام منظمة "أطباء بلا حدود"، وكذلك العقبات التي يضعها الحوثيون أمام القوافل الطبية القادمة من المنظمات الدولية غير الحكومية، سواء من خلال الاستيلاء على محتوياتها أو عدم إدخالها، وهو ما أشار إليه مؤخرًا ممثل منظمة الصحة العالمية في اليمن أحمد شارول، بقوله: "وباء الكوليرا مؤشر خطير على مدى فداحة الأزمة الإنسانية المتصاعدة التي تسبب بها الصراع في اليمن"، وحض المجتمع الدولي على دعم النظام الصحي، وتوفير الموارد اللازمة للشركاء الصحيين لاحتواء هذا الوباء، ومنع أي أوبئة في المستقبل.

تجويع المناطق:

على جانب آخر، تهدف استراتيجية الحوثيين إلى تجويع بعض المناطق، حيث حذر محافظ الحديدة عبدالله أبو الغيث من كارثة مجاعة قد تشهدها المحافظة، خلال اجتماع مع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، في 31 أكتوبر الماضي، ضم وزير الشئون الاجتماعية والعمل نائب رئيس اللجنة العليا للإغاثة سميرة خميس، والأمين العام لمجلس الوزراء جلال فقيرة، ونائب وزير الصحة العامة والسكان عبدالله دحان، حيث أكدوا أهمية المساعدات الإغاثية العاجلة لإنقاذ الآلاف من السكان في المحافظة بعد حصار الحوثيين لمنع إدخال المساعدات القادمة من منظمات الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمات الإغاثية الخليجية والمنظمات اليابانية الحكومية وغير الحكومية. 

5- تناقص الإمدادات المائية النقية: استهدفت قوات الأسد وحلفاؤها المحطتين الرئيسيتين لضخ المياه في حلب (محطة سليمان الحلبي ومحطة باب النيرب) بقصف متكرر، وهو ما تسبب في خروجها عن الخدمة، وأدى الحصار الذي تفرضه قوات الأسد على أحياء حلب الشرقية للشهر الثالث إلى اعتماد الأهالي على الآبار بشكل رئيسي في تأمين احتياجاتهم اليومية من المياه منذ بدء الحصار، وهو لا يمثل بديلا آمنًا؛ إذ ظهرت أعراض الإصابة بأمراض هضمية أو جلدية، منها الإسهال، والليشمانيا، والتيفوئيد، وتسمم الدم، نتيجة عدم صلاحية معظم آبار المياه في حلب للشرب نتيجة احتوائها على عناصر ثقيلة كالزرنيخ والرصاص، والتي تعد مواد خطيرة على الصحة العامة. 

وهذا هو الحال كذلك بالنسبة لليمن، إذ تواجه محافظتا صنعاء وتعز تحديًا في المرحلة الراهنة يتعلق بتفشي مرض الكوليرا الناتج عن شرب المياه أو تلوث الغذاء الملوث بالفيروس، حيث أوضح جوليان هارنس ممثل منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة "اليونيسيف"، في 7 أكتوبر الماضي، أن "الأطفال عرضة لمخاطر عالية ما لم يتم الحد -وعلى وجه السرعة- من تفشي وباء الكوليرا، خاصة مع تدهور النظام الصحي في اليمن جراء استمرار الصراع"، في حين أن الأوضاع في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية أقل تضررًا في ظل الجهود التي تبذلها الحكومتان السعودية والإماراتية في هذا السياق.

تقشف مالي:

6- تفاقم تداعيات الأزمات المالية في بعض الدول العربية: تواجه بعض الدول مثل العراق أزمة حادة بسبب انخفاض أسعار النفط وارتفاع تكاليف الحرب على تنظيم "داعش"، في مناطق جغرافية مختلفة، علاوة على استمرار الفساد وسوء الإدارة، الأمر الذي انعكس في الخدمات الطبية المتراجعة لمواجهة انتشار فيروسات الكبد التي باتت تهدد صحة قطاعات عريضة من المجتمع العراقي.

فعلى سبيل المثال، توقف إجراء الفحوصات الفيروسية في بعض المحافظات العراقية بسبب التقشف المالي الذي تُعاني منه المؤسسات الصحية، ولم يخرج عن هذا السياق سوى حالات خاصة. 

وقد تفاقمت مشكلة الأمراض في محافظة واسط العراقية، إلى درجة يُمكن اعتبارها محافظة حاضنة للأمراض والأوبئة، بدءًا من المرافق الصحية، ومرورًا بانعدام الرقابة الصحية على المواد الغذائية في المعابر الحدودية، وصولا إلى المياه الملوثة. ورغم اكتشاف العيادات الخاصة لحالات الإصابة بالمرض بشكل يومي، إلا أن المرضى لا يتعاملون مع الأمر بشكل جاد، ولا يسعون إلى تسجيل أنفسهم كمصابين خشية التعرض للعزلة الاجتماعية، وهو ما يعقّد مسئولية الجهات الصحية الحكومية. 

أوبئة "داعش":

7- الوقوع في مناطق سيطرة التنظيمات الإرهابية: يواجه السكان المدنيون المحاصرون في مناطق نفوذ تنظيم "داعش"، على غرار الموصل، التي تعد ثاني أكبر المدن العراقية (ما يقرب من 2 مليون نسمة)، خطر تفشي الأمراض بعد ضعف مستوى المناعة وتدني النظافة، على نحو ما برز أيضًا في الفلوجة قبل تحريرها، حيث يتعثر تلقي الأطفال التطعيمات الطبية، وينعدم إعطاء النساء الحوامل خدمات الصحة الإنجابية، وهو ما أكده علاء العلوان المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط.

وقد يحدث في بعض الأحيان تحويل المستشفيات إلى ثكنات عسكرية، على نحو ما جرى بالنسبة لمستشفى الكندي الواقع في الجزء الشمالي لمدينة حلب، أو تحويل المستشفيات إلى محاكم شرعية على غرار ما حدث بالنسبة لمستشفى العيون والأطفال الواقعين في حي قاضي عسكر بعد سيطرة تنظيم "داعش" عليه في منتصف عام 2014، وهو ما تكرر مع الحوثيين الذين سيطروا على عدة مستشفيات في اليمن وقاموا بتحويلها إلى مخازن للأسلحة.

انتشار عابر للحدود:

8- انتقال المقاتلين الأجانب إلى البؤر الصراعية: تساهم صراعات الإقليم في انتقال الأمراض العابرة للحدود، وهو ما تعبر عنه حالة المقاتلين الباكستانيين التابعين لتنظيم "داعش" والذين ساهموا في نقل مرض شلل الأطفال إلى سوريا على الرغم من اختفاء هذا المرض من سوريا منذ عام 1999 بل ومن دول العالم ككل باستثناء ثلاث حالات هى باكستان ونيجيريا وأفغانستان.

ووفقًا لما يُشير إليه ستيفان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، فإن هناك 900 ألف طفل في البلاد قد لا يحصلون على التطعيم، على الرغم من الجهود الأممية لتطعيم الأطفال من عدة أمراض معدية، منها شلل الأطفال والحصبة. 

9- إخفاق الحكومات في أداء مهامها التقليدية: وقد برز ذلك جليًّا في الحالة العراقية، حيث تخشى الحكومة من إعلان الأعداد الحقيقية المصابة بوباء الكوليرا في الثلث الأخير من عام 2015، بعد تسجيل حالات الإصابة والوفاة، واضطرارها إلى تأجيل بدء العام الدراسي إلى 18 أكتوبر من العام الماضي لحماية الطلاب من انتشاره، الأمر الذي يمثل دليلا إضافيًا لفشلها في تقديم الخدمات الضرورية لمواطنيها.

أعباء مضاعفة:

خلاصة القول، يزداد تدهور أنظمة الرعاية الصحية العامة في الدول المتضررة من الصراعات الداخلية أو المجاورة لها في إقليم الشرق الأوسط، خاصة في ظل غياب الاكتشاف المبكر للأمراض، والفجوة بين الأموال اللازمة والأموال التي تم تلقيها، بخلاف النقص الحاد في الإمدادات الطبية، واستهداف فرق الإغاثة الإنسانية والأطباء، فضلا عن شح المياه، وانقطاع الكهرباء، وتفكك الدول إلى كيانات مناطقية تسيطر على بعضها تنظيمات إرهابية وميليشيات مسلحة، بما يزيد من تعقيد مواجهة أسباب تراجع الرعاية الصحية في دول الإقليم.