تداعيات متفاوتة:

كيف تؤثر التطورات الإقليمية على مستقبل الجمعيات الخيرية الكبرى؟

20 October 2016


أثرت التحولات السياسية والاقتصادية المتسارعة التي شهدتها المنطقة في الأعوام الماضية على أنشطة الجمعيات الخيرية، خاصة كبيرة الحجم منها والتي تحظى باستقلال نسبي في الوقت نفسه، ومن هذه الجمعيات مؤسسات "البونياد" الإيرانية، وحركة "خدمة" التركية.

وقد اكتسب النموذجان السابقان سمة فريدة محليًّا وإقليميًّا، إذ تخطّى كل منهما أدوارهما التقليدية المتمثلة بالأساس في تقديم بعض الخدمات الاجتماعية والثقافية، ليضطلعا ببعض الأنشطة الاقتصادية المحلية والخارجية على حد سواء، وذلك على عكس غالبية الجمعيات الخيرية الأخرى في دول المنطقة ذات التأثير المحدود، والمعنية بدعم مواطنيها داخل حدودها، أو حتى القيام بأعمال إغاثية خارجية تحت إشراف الدولة.

وحول مدى تأثرهما بالتحولات الداخلية والخارجية المحيطة بهما، يبدو أن كلا النموذجين متفاوتان في الاستجابة لهذه التأثيرات، فحركة "خدمة" التركية باتت على شفا الانهيار مع تضييق الخناق عليها، بالتزامن مع اتهامها من قبل الحكومة التركية بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في يوليو 2016. في حين أن "البونياد"، التي واجهت متاعب عديدة مع رفع مستوى العقوبات الاقتصادية على إيران منذ عام 2011، ربما يتزايد ثقلها المالي والاقتصادي في الفترة المقبلة في أعقاب إلغاء العقوبات الاقتصادية على البلاد في بداية عام 2016. 

تعدد الأدوار:

بغض النظر عن أدوارها الرئيسية التقليدية المتمثلة في القيام ببعض الأنشطة الاجتماعية الخدمية، اضطلعت بعض الجمعيات الخيرية في الإقليم بأنشطة اقتصادية واسعة، يمكن تناول أبرزها على النحو التالي:

1- دور داخلي: حظيت مؤسسات "البونياد" الإيرانية بوضع استثنائي داخل إيران، وذلك بمساندة من السلطة الإيرانية، ولذلك امتد نشاطها لأبعد من أدوارها الأساسية المتمثلة في مساندة الفقراء والمحاربين القدامى ليشمل الانخراط في العديد من الأنشطة الاقتصادية في قطاعات، مثل الأغذية، والطاقة، والنقل، والزراعة، والمقاولات، مستغلة في الوقت نفسه بعض الامتيازات الحكومية المقدمة لها، سواء الإعفاءات الضريبية أو الحصول على القروض الميسرة وغيرها.

ومع هذه الامتيازات، امتدت أنشطة أعمالها لتبلغ مساهمتها بالاقتصاد الإيراني -بحسب بعض التقديرات- نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل 85 مليار دولار سنويًّا.

وتتمثل أبرز مؤسسات "البونياد" في "المستضعفين" والتي تأتي في المركز الثاني بعد "الشركة الوطنية الإيرانية للنفط" المملوكة للدولة من حيث حجم النشاط التجاري، حيث تدير نحو 350 شركة ومصنعًا في العديد من المجالات، وتنفق 50% من أرباحها في الأعمال الخيرية، والنسبة الباقية تستثمرها في أنشطتها الاقتصادية والتجارية، وشكّل حجم نشاطها في عام 2003 نحو 10% من ميزانية الحكومة.

وتليها مؤسسة "استان قدس رضوى"، وهي جمعية خيرية مقرها في مدينة مشهد الإيرانية، وتمتلك أصولا بنحو 15 مليار دولار، وذلك من خلال أنشطتها الاقتصادية، خاصة في صناعة السيارات، وقطاعات الزراعة، والعقارات، وغيرها.

أما في تركيا، فقد نجحت حركة "خدمة" التي أنشأها فتح الله كولن بغرض تقديم أنشطة اجتماعية وثقافية، في خلق امتدادات واسعة داخل وخارج تركيا في السنوات الماضية بالتزامن مع مناخ يسوده ضمان الحريات العامة بالبلاد في المرحلة الأولى لوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.

وقد أدارت حركة "خدمة"، حتى وقت قريب، نحو 1500 مؤسسة بمختلف مراحل التعليم، و15 جامعة في 140 دولة حول العالم، بالإضافة إلى بنك آسيا الإسلامي الذي لديه أكثر من 180 فرعًا في تركيا، وطبقًا لبعض التقديرات وصل عدد الشركات والمؤسسات التابعة للحركة حول العالم إلى أكثر من 9 آلاف شركة. وفي المجمل تُدير الحركة أصولا تقارب 150 مليار دولار.

2- دور خارجي: في إطار استراتيجية لتعظيم نفوذها، قامت هذه المؤسسات ببعض الأنشطة الخارجية، سواء في مجال المساعدات الخيرية أو حتى في بعض الأنشطة الاقتصادية والتجارية التي في أغلب الأحوال تُجرَى في إطار من السرية.

وتتمثل أبرز مؤسسات "بونياد" العاملة بالخارج في مؤسسة "الإمام الخميني للإغاثة"، وتنشط في عدة دول على رأسها العراق، وتأسست فيها عام 2004 بمحافظة النجف، وامتدت فروعها إلى غالبية المحافظات. ومن ضمن أنشطتها الإقليمية -على سبيل المثال- كفالتها أكثر من 11 ألف يتيم عراقي، وأكثر من 3700 عائلة عراقية. علاوة على ذلك، يمتد نشاط المؤسسة إلى لبنان والصومال والهند وباكستان وطاجيكستان وغيرها.

أما فيما يتصل بحركة "خدمة"، فبخلاف أصولها في مجال التعليم بالخارج، تقوم بعدة أنشطة أخرى، تتمثل في الإغاثة الإنسانية ضد الكوارث، وهو ما انعكس في تأسيس منظمة "ألا يوجد أحد" التابعة للحركة، والتي قدمت المساعدات لضحايا الكوارث في جميع أنحاء العالم، مثل ضحايا تسونامي في جنوب شرق آسيا، والزلازل في باكستان وبيرو، والعنف العرقي والسياسي في دارفور، وذلك من خلال إعادة بناء المدارس، وفتح وحدات صحية جديدة هناك.

وهناك أيضًا، جمعية "احتضان الإغاثة" ومقرها في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، وتنشط في الأمريكتين وآسيا وإفريقيا، وهي معنية بمجالات إغاثة اللاجئين والتعليم، وتمثل أحد أنشطتها في مساعدة اللاجئين السوريين في تركيا، وفي القارة الإفريقية، فهي تدعم مجالات توفير المياه النظيفة، ورعاية الأيتام، والعناية الصحية، ومحاربة الجوع، وقد قامت ببناء مطعم في كينيا لإطعام 1500 لاجئ صومالي يوميًّا، كما تهتم المنظمة بمساعدة ضحايا الكوارث، وطبقًا لتقرير الجمعية السنوي لعام 2015، فقد أنفقت الجمعية نحو 3 ملايين دولار على هذه الأنشطة، واستفاد منها 382 ألف شخص.

وعلى صعيد موازٍ، يوجد دور متصاعد آخر للمؤسسات التركية الرسمية بالخارج، مثل "وكالة التعاون والتنسيق التركية" التابعة لمجلس الوزراء التركي، وبعض المؤسسات غير الحكومية مثل جمعيتي "الإحسان للتنمية والتربية" و"حسنة".

وقد ضم نشاطها بالأساس تقديم المساعدات الغذائية والعينية والمالية للفقراء في دول شرق إفريقيا، مثل الصومال، وجيبوتي، وإثيوبيا، يضاف إليها السنغال وتشاد وغيرها، بالإضافة إلى دعم البنية التحتية في بعض تلك الدول، وطبقًا لتقديرات تمكنت هيئات وجمعيات خيرية وإنسانية تركية من توزيع لحوم الأضاحي على قرابة 5 ملايين محتاج حول العالم في عيد الأضحى 2016.

تحولات مؤثرة:

أصبحت التحولات المحلية والإقليمية المتسارعة في الشهور الماضية سلاحًا ذا حدين للجمعيات الخيرية الكبرى بالإقليم، إذ ساهمت في استقرار بعضها، فيما فرضت تهديدات مباشرة لبقاء بعضها الآخر، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:

1- امتدادات جديدة: تأثرت أنشطة الاقتصاد الإيراني بشدة، خلال الأعوام الماضية، جراء رفع مستوى العقوبات الاقتصادية على إيران منذ عام 2011، وحقق النمو الاقتصادي الإيراني معدلا سالبًا في بعض السنوات مثل عام 2013/2012 عندما سجل سالب 6.8%. وقد أثر هذا التراجع على الأنشطة النفطية وغير النفطية التي انخرطت بها الجمعيات الخيرية الإيرانية. 

وبعكس الأوضاع السابقة، يبدو أن رفع العقوبات الاقتصادية على إيران منذ أوائل يناير 2016 سوف يصب في صالح مؤسسات الحرس الثوري الإيراني و"البونياد" معًا، حيث سيتيح رفع العقوبات الاقتصادية عليها وبعض الشركات التابعة لها لاحقًا حرية ممارسة الأعمال في الداخل والخارج، ومن ثم جني عدد من الصفقات الاستثمارية المربحة. وبالرغم من تراجع أسعار النفط حاليًّا قد تبقى هذه المؤسسات من كبار الفائزين من رفع العقوبات، مستفيدة من انخراطها في أنشطة غير نفطية محلية أو تقوم على التصدير للخارج. 

2- تهديدات البقاء: تواجه حركة "خدمة" صعوبات عدة للبقاء والاستمرار في العمل بتركيا. فداخليًّا وبعد اتهامها من قبل السلطات بالضلوع في المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو 2016، شددت الحكومة التركية من إجراءاتها لتضييق الخناق على مؤسسات الحركة بالبلاد.

ومن الواضح حتى الآن أن المؤسسات التعليمية التابعة لها أبرز المتأثرين بهذا الحصار. وحتى يوليو 2016، أعلنت وزراة التربية التركية إغلاق 800 مدرسة تابعة للحركة، كما وضعت العديد من المؤسسات الأخرى تحت الوصاية، وتضم 15 جامعة، و110 مساكن طلابية، و1125 جمعية خيرية، ووقفًا للمساعدات الإنسانية، وكانت أبرزها جمعية "ألا يوجد أحد"، بالإضافة لـ35 جمعية طبية، و19 نقابة مهنية وعمالية.

أما في الخارج، فتحاول مؤسسة "المعارف" التركية، المسئولة عن الأنشطة التعليمية التركية بالخارج، إتمام السيطرة على 65 مدرسة تابعة للحركة بـ15 دولة. وفي هذا الصدد، فقد نجحت في إغلاق مدارس الحركة الثلاث في الصومال، بينما تخضع جامعة القوقاز بأذربيجان التابعة للحركة لإدارة جديدة تتبع الحكومة.

ومؤخرًا، اضطلعت حكومة إقليم كردستان العراقية بإدارة مدارس الحركة ومؤسساتها كمرحلة أولى لبيعها في ضوء اتفاق بين تركيا والإقليم في سبتمبر 2016. كما تعهدت دول أخرى بالنظر في هذا الشأن، ومن أبرزها كازاخستان وباكستان التي تنظر حاليًّا في غلق 24 مؤسسة تعليمية تابعة للحركة. 

3- تضييق الخناق: يبدو أن الترابط المالي بين "حزب الله" اللبناني وبعض الجمعيات الخيرية الإيرانية الشيعية في طريقه للتفكك تدريجيًّا مع دخول قانون "حظر التمويل الدولي عن حزب الله" حيز التنفيذ في أبريل 2016.

وعلى إثر هذا القانون الذي وافق عليه الكونجرس الأمريكي في ديسمبر 2015، تم التنويه إلى قيام بعض المصارف اللبنانية بإغلاق حسابات العديد من الجمعيات اللبنانية تجنبًا للعقوبات الأمريكية، مثل جمعية "الإمداد الخيرية الإسلامية"، و"مؤسسة الشهيد"، وجمعية "المبرات" الخيرية، وهي مؤسسات ذات ارتباطات بالمؤسسات الخيرية الإيرانية. 

وفي الاتجاه نفسه، فإن باقي دول الإقليم -على ما يبدو- تتجه منذ سنوات لتحجيم نفوذ بعض الجمعيات الخيرية غير الحكومية، إما لثبوت صلاتها بتمويل التنظيمات الإرهابية، أو دعمها لبعض الجماعات السياسية المحظورة بالداخل. 

وختامًا، يمكن القول إن التطورات الراهنة التي تشهدها المنطقة قد تصب في صالح تحجيم نفوذ الجمعيات الخيرية المستقلة، على العكس من النمو المتوقع للجمعيات الخيرية ذات الارتباط المباشر بالقوى الإقليمية.