شراكة لا تبعية:

تأثير سيناريو "القطيعة" بين مالي وفاغنر على العلاقة مع روسيا

07 November 2024


فسرت صحيفة "لوموند" الفرنسية، في 21 أكتوبر 2024، تراجع الجيش المالي وحليفته فاغنر عن عملية "الانتقام" التي كانت تستهدف استعادة منطقة تينزواتن في أقصى شمال البلاد من المتمردين الأزواد، بعد عشرة أيام من الإعداد، بتحذيرات جزائرية لموسكو من العواقب الخطرة للعملية التي كانت ستجري بالقرب من حدودها. 

فيما تحدثت مجلة "جون أفريك" الفرنسية، في عدد من تقاريرها، عن غياب الثقة وتراكم الخلافات في علاقة سلطات مالي مع فاغنر، التي قد تتوج بمغادرة عناصر روسية لمالي قريباً؛ وذلك على خلفية إلغاء العملية دون مباشرة أي معارك ترد لهما الاعتبار بعد خسائرهما الفادحة أمام متمردي "الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد" و"جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في أواخر يوليو الماضي؛ الأمر الذي يفرض إعادة النظر في استراتيجيتهما القتالية.

فإلى أي حد يمكن اعتبار سيناريو "القطيعة" مع فاغنر ممكناً؟ وكيف يمكن لهذا السيناريو أن يؤثر في علاقة مالي مع روسيا؟ سواء بسبب مشاعر الإحباط لدى باماكو من موسكو التي رجَّحت المصالح الجزائرية أم بسبب قرار روسي مُحتمل لحشد عناصر فاغنر على الجبهة الأوكرانية. إن الجواب عن السؤالين يستدعي مراجعة العلاقة بين مالي وكل من فاغنر وروسيا، ثم استعراض البدائل المتاحة لمالي ومدى قدرتها على الاستجابة لمطالبها السيادية والأمنية.

مالي وفاغنر.. الازدراء ثمناً للحاجة:

تحدثت مجلة "جون أفريك"، في 20 أكتوبر الماضي، عن حالة الاستياء في صفوف فاغنر من أداء جنود مالي وكفاءة ضباطهم في إدارة المعارك لدرجة وصفهم بـ"الهواة" على مواقع التواصل الاجتماعي؛ وهو ما يُعد ازدراءً يصعب على السلطات الانتقالية في مالي، التي ما فتئت تؤكد روح الوطنية ورموزها في خطابها التحرري، التسامح فيه. 

وهذه ليست المرة الأولى التي تجد فيها سلطات مالي نفسها في مواجهة تحدي السيادة الوطنية من طرف المجموعة الروسية. ففي نوفمبر 2023 وبعد أقل من أسبوع من فرض السيطرة على مدينة كيدال في شمال مالي، نشرت فاغنر شريط فيديو يُظهر رفع علمها فوق حصن المدينة لتأكيد فضلها في طرد المتمردين رداً على زعيم مالي، أسيمي غويتا، الذي احتفى في كلمته بالمناسبة ببطولات الجيش المالي، وتجاهل مساهمة فاغنر الحاسمة في هذا النصر الذي ظل عصياً على فرنسا والقوات الغربية منذ مارس 2012.

كما أن ملابسات سيطرة فاغنر على أكبر منجم للذهب في انتاهاكا بولاية غاو الأزوادية في فبراير 2024 بعد تهديدها لـ"جماعة الدفاع الذاتي لطوارق إمغاد والحلفاء" الخاضعة لقيادة جنرال من عرقية الطوارق موالٍ لباماكو، والتي تم إنذارها بإخلاء المنجم خلال 24 ساعة، تُقدم صورة أخرى عن التحديات التي تواجهها السلطات الانتقالية جراء اندفاعات فاغنر "العدوانية" للرفع من عائداتها المالية دون اكتراث بمشاعر القيادات المحلية في منطقة أزواد، التي لن تقبل بإهانة جنرالها واغتصاب الأجانب لخيراتها.

وهذه المواقف من جانب فاغنر مرشحة للتطور نحو الاصطدام المباشر مع سلطات مالي؛ نتيجة التناقض في رؤية كل منهما للآخر؛ ففاغنر تنظر إلى الماليين من حيث حاجتهم للأمن الذي توفره لهم عناصرها وهم بهذا مدينون لها بحق الحياة، بينما تنظر مالي لفاغنر من زاوية التعاقد بينهما بصفتها جهة "مرتزقة" تُقدم خدمات أمنية مقابل امتيازات مادية وفي كل الأحوال تبقى مقيدة بتفاهمات الشراكة مع روسيا التي تحكمها المصالح المتبادلة.

مالي وروسيا.. تحالف وليس تبعية:

استثمرت روسيا دبلوماسياً وعسكرياً في مالي لخلق نفوذ في الساحل يُعوض النفوذ الغربي الآخذ في الأفول منذ الانقلاب العسكري لعام 2020، فقدمت نفسها للنظام الجديد كبديل قوي قادر على تلبية مطالبه التحررية بتعزيز استقلالية القرار الوطني الذي ظل، في تصور الرأي العام المالي، مصادراً من طرف فرنسا؛ ولهذا حرص وزير خارجية مالي، عبدالله ديوب، خلال لقائه نظيره الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو، في أواخر فبراير 2024، على التذكير بسعي مالي لتعزيز التعاون العسكري مع شركاء آخرين مثل: الصين وتركيا. 

هذا النزوع لمالي نحو تنويع الشراكات الدولية، المُعبر عنه رسمياً حيال روسيا، ومن قلب عاصمتها وفي غمرة النصر باستعادة كيدال الذي لم يكن ليتحقق لولا الدعم الروسي، يعكس مرونة موسكو من جهة بقبولها ولو ظاهرياً بموقع "الحليف الرئيسي غير المهيمن" الذي يمنحها بعض الأفضلية في الصفقات الاقتصادية، كما يعكس من جهة أخرى قناعة السلطات الانتقالية في مالي بأن إحلال روسيا محل فرنسا بمنحها موقعاً مهيمناً في علاقات البلاد الخارجية، سوف يُسقط مشروعيتها التي أسستها على "تكريس الاستقلال"، فضلاً عن قناعتها بمحدودية القوة الروسية التي تتربص بها الدوائر الغربية والمتورطة في حرب استنزاف طويلة في أوكرانيا.

ومن ثم فإن الاعتماد الحصري على روسيا تشوبه مخاطر جيوسياسية، تكرسها حاجتها المتزايدة من الموارد البشرية والمالية؛ الأمر الذي يؤثر في تمددها في الخارج ويُفسر قرارها بسحب عناصر من "لواء الدببة" من بوركينا فاسو في أواخر أغسطس 2024 لدعم معاركها في كورسك، ثم استقبالها لجنود وعتاد من كوريا الشمالية تعزيزاً لقواتها، فضلاً عن تعاظم فاتورتها الحربية في مالي، التي فرضت تعديل "قانون التعدين"، في أغسطس 2023؛ لتأمين التمويل اللازم باستغلال مناجم الذهب، التي تُوفر للحضور الروسي عشرة ملايين دولار شهرياً، حسب تقرير (Blood Gold) الصادر في ديسمبر 2023.

خيارات مالي.. تنويع البدائل:

إن وعي سلطات مالي بمحدودية القوة الروسية وريبتها بشأن مستقبل فاغنر على أراضيها وإدراكها لتصاعد متطلباتهما المالية؛ جعلها تُعزز احتياطاتها باستثمار كل البدائل المتاحة للوجود الروسي بدءاً من جارتيها في الساحل؛ بوركينا فاسو والنيجر. ففي سبتمبر 2023، تم الإعلان عن "تحالف دول الساحل" الذي تعهدت من خلاله الدول الثلاث (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) بالدفاع المشترك في حالة وقوع أي تمرد داخلي أو عدوان خارجي، والتزمت بمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله والجريمة المنظمة في الفضاء المشترك للتحالف. وفي الشهر نفسه، تم تنظيم اجتماع خبراء من الدول الثلاث؛ بهدف تسريع عملية التكامل الاقتصادي والمالي بينها، وتقديم مقترحات بشأن إطلاق "اتحاد اقتصادي ونقدي". وفي ديسمبر 2023، أوصى وزراء خارجية الدول الثلاث بإنشاء اتحاد كونفدرالي، تلاه، في مارس الماضي، إعلان قادة جيوشها تشكيل قوة مشتركة لمحاربة الجهاديين ومعالجة التحديات الأمنية بدولهم.

كما أن مالي، التي كشف وزير اقتصادها في أواخر سبتمبر الماضي طموحاتها الكبرى بإعلان اهتمامها بالانضمام لتجمع "بريكس"، انخرطت في توسيع دائرة تحالفاتها الأمنية، التي باتت تشمل خصوصاً الصين وتركيا وإيران، وذلك على النحو التالي:

1- الصين: حرصت مالي على توثيق علاقاتها الأمنية مع الصين كقوة عظمى تعاطفت معها في مواجهة الغرب، ودعت المجتمع الدولي، في يناير 2023، إلى دعم حربها ضد الإرهاب بالتمويل والمعدات والاستخبارات واللوجستيك واحترام حقها في التعاون الأمني، ووفرت لها تسهيلات في الدفع بعد تسلم مشترياتها من الأسلحة مراعاة للحظر المفروض عليها من "إيكواس". وعلى هامش قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي "فوكاك 2024" في سبتمبر الماضي، تم الاتفاق مع شركة "نورينكو" الدفاعية الصينية لتزويد مالي بالمعدات والتدريب والتكنولوجيا في أهم المجالات العسكرية؛ الأمر الذي يبقى مرشحاً للازدهار بعد إضفاء زعيمي البلدين، في أوائل سبتمبر الماضي، طابع "الشراكة الاستراتيجية" على علاقاتهما، وإعراب غويتا عن أمله في الاستفادة من الخبرة الصينية في المجالات الأمنية وغيرها، وتقديره لبكين على جهودها في تعزيز السلام والتنمية إقليمياً وعالمياً.

2- تركيا: اتجه اهتمام الدبلوماسية المالية نحو تركيا، التي أعلنت دعمها لها في الحرب ضد التنظيمات المتمردة، وأقنعت سلطاتها بفاعلية صناعتها العسكرية في مكافحة الإرهاب خاصةً الطائرات من دون طيار من طراز "بيرقدار تي بي 2" التي زودت الجيش المالي بثلاث منها في مارس 2023، قبل أن يترأس غويتا بنفسه، في بداية العام الجاري، حفل تسلم نحو 20 طائرة منها. فيما كُللت اللقاءات التشاورية بين الجانبين المالي والتركي في أكتوبر 2024، باستقبال الرئيس الانتقالي لوفد برلماني تركي، وتطرُّق مباحثاتهما لتعزيز التعاون الثنائي في عدة مجالات منها الأمن. كما جرى الحديث مؤخراً عن التواصل مع شركة "سادات"، وهي شركة عسكرية خاصة مقربة من الحكومة التركية؛ من أجل انخراطها في تدبير الانشغالات الأمنية لمالي؛ الأمر الذي تُوج فيما يبدو بتكفل الشركة التركية بتدريب العديد من جنود مالي الموكول لهم حماية الرئيس الانتقالي. 

3- إيران: رأت مالي في إيران، التي تنظر للغرب كـ"قوة استكبار"، حليفاً مُحتملاً يُعينها على ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الغربية من أراضيها. فوفرت لها فرصة الولوج للساحل؛ ومن ثم تجاوز فشل زيارة وزير خارجيتها الأسبق، محمد جواد ظريف، لباماكو خلال نظام الحكم السابق في 2016. وروجت طهران لقدرتها على مساعدة مالي في قتالها ضد المتمردين، بجعل "تصدير السلاح" خاصةً الطائرات المُسيَّرة مفتاحاً لشراكتهما واستحضار الملف الأمني في كل مباحثاتهما. وهذا ما تأكد في أغسطس 2022 أثناء زيارة وزير الخارجية الإيراني الراحل، حسين أمير عبداللهيان، لمالي، وتكرَّر خلال لقاء وزيري دفاع البلدين في طهران أواخر مايو 2023. كما تحدث الجيش المالي، على خلفية استقبال السفير الإيراني في باماكو من قِبل وزير الدفاع، في أكتوبر 2023، عن التزام البلدين بتعزيز علاقات التعاون من خلال الدفاع والأمن.

قطيعة فاغنر ومرونة موسكو:

تتعامل مالي مع سيناريو "القطيعة" مع فاغنر كخيار واقعي، خاصةً أن تمردها على دولتها الأم (روسيا) في يونيو 2023 تحت قيادة زعيمها السابق، يفغيني بريغوجين، ما زال يتفاعل في الذاكرة بالرغم من شكليات إلحاقها بالدولة الروسية باسم "فيلق إفريقيا".

لذلك نوَّعت مالي شراكاتها، وجعلت المسألة الأمنية حجر الزاوية فيها، لكن هذه الشراكات بالرغم من أهميتها لا يُمكنها تغطية كل حاجاتها الأمنية المُرشحة للتفاقم جراء أي انسحاب مباغت لفاغنر؛ وذلك لاعتبارات تتعلق بضعف منتجاتها ومصاعبها التمويلية وتداعيات تنافسها غير المتكافئ مع القوى الغربية، ثم تنامي تهديدات التنظيمات الإرهابية والانفصالية، التي ازدادت مؤشرات تقاربها وشراسة هجماتها، فضلاً عن الحديث عن تورط جهات أجنبية مثل أوكرانيا في تعقيد المشهد الأمني لمالي.

ومن ثم فإنه من مصلحة مالي، في حال القطيعة مع فاغنر، الاحتفاظ بدور فاعل لروسيا دون أن يكون مهيمناً في منظومتها الأمنية؛ وهو ما تسمح به مرونة موسكو في علاقتها مع باماكو، التي قد تنتقل إلى تعزيز التعاون الاستخباراتي والتدريب والتسليح أو المساعدة على تشكيل مليشيات بدلاً من القتال المباشر الذي قد يُصبح مكلفاً من الناحية البشرية لجنودها. كما قد يتسم الموقف الروسي بمرونة أكبر لضمان عدم عودة مالي للحضن الغربي سواء عبر إسبانيا، التي تجري معها مباحثات لتدريب جنودها حسب تقرير لصحيفة "الباييس" الإسبانية في 25 أكتوبر الماضي، أم الولايات المتحدة التي اجتمعت سفيرتها بالأمم المتحدة مع وزير خارجية مالي في 30 سبتمبر الماضي، أم حتى "المبادرة الأطلسية" التي اقترحها المغرب في نوفمبر 2023.