عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر

30 October 2024


يتفّق معظم المحلّلين السياسيين على أن تاريخ السابع من أكتوبر 2023 يمثّل نقطة فارقة في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنهم يختلفون حول تشخيص أبعاد التغيير الذي أحدثته عملية طوفان الأقصى، ويرجع ذلك إلى أن التحليلات السياسية تُكتَب بينما المعارك الحربية ما زالت دائرة بل ومتصاعدة ونتائجها لم تُحسَم بعد، وهذا الوضع يجعل من الصعب تقديم تقييم موضوعي لحصاد عام من الحرب. 

بطبيعة الحال هناك عدد من التغيّرات المؤكدّة التي حدَثَت ويمكن الإشارة إليها، ومنها على سبيل المثال، أن هذه الحرب هي الأطول تاريخاً بين كل الحروب السابقة في المنطقة باستثناء الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان الذي استمّر لمدّة ثلاث سنوات، وأن هذه الحرب كإحدى الحروب الهجينة التي تجمع بين الوسائل التقليدية والوسائل غير التقليدية تثبت أن توظيف التكنولوجيا الحديثة في الأغراض العسكرية لم يعد له حدود، وأن عدد الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا خلال نحو اثني عشر شهراً من المعارك هو العدد الأكبر على الإطلاق مقارنةً بكل جولات الصراع العربي الإسرائيلي السابقة. 

هذه إذن بعض الحقائق المعروفة للجميع والمؤكّدة، لكن على صعيد آخر، فإن هناك بعض التغيّرات الأخرى الآخذة في التشكّل لكنها لم تتبلوّر بعد أو لنقل إنها لم تكتمل بعد؛ بحيث يمكن الاطمئنان إلى تحليلها بشكل موضوعي. يدخل في ذلك محاولات إعادة رسم خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط. صحيح أن إسرائيل تسعى لإعادة هندسة الحدود الجغرافية سواء داخل فلسطين التاريخية أم بينها وبين لبنان وأيضاً سوريا؛ عبر توظيف آليات الاستيطان والتهجير وإقامة المناطق العازلة وتوسيع الموجود منها بالفعل، وصحيح أن دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق والمرشّح الحالي لانتخابات 2024 أعطى إسرائيل الضوء الأخضر للتوسّع قائلاً إن مساحتها لم تعد تكفيها؛ ما يعني تفهّمه لحاجتها إلى التوسّع على حساب جيرانها، لكن المخطّط المذكور لم يتّم بعد، وما زال يواجه مقاومة شديدة. ومعلوم أن تغيير وجه الشرق الأوسط من عدمه، والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه هذا التغيير؛ يتوقّف على اتجاهات سير المعارك الحربية وعلى إمكانية خلق حقائق جديدة على الأرض. وفي سياق التحوّط التحليلي السابق، يميّز هذا المقال بين ما تغيّر بالفعل وما لم يتغيّر بعد انقضاء أكثر من عام على طوفان الأقصى.

الخروج عن قواعد اللعبة: 

بدايةً بالذي تغيّر، فإنه يشمل الانقلاب على القواعد التي حكَمَت الجولات السابقة للصراع العربي الإسرائيلي وحققَت لها نوعاً من الضبط، وهو ما يحلو للبعض وصفه بتجاوُز الخطوط الحمراء. لم تكتفِ حركة حماس بالردّ الصاروخي على قيام إسرائيل بحصار غزّة والتنكيل بالأسرى وانتهاك حرمة المسجد الأقصى؛ بل دخَلَت كتائب القسام إلى عمق الأراضي الإسرائيلية وهاجمَت المستوطنات واحتجزت ما لا يقل عن 250 رهينة. كانت عملية حماس عمليةً نوعيةً بامتياز وغير مسبوقة في جرأتها ودقة تخطيطها والنتائج المباشرة التي حققتها؛ ومع أنه كان من المتوقع أن يأتي ردّ الفعل الإسرائيلي بالغ العنف ومختلفاً عن كل ما سبقه بحكم شدّة الهجوم، إلا أنه تجاوز في ضراوته كل السيناريوهات المتصوّرة، ولعل هذا هو ما دفع البعض إلى المبالغة بالقول إن إسرائيل استدرجَت حماس لهجوم السابع من أكتوبر؛ ليكون من السهل عليها تصفية القضية الفلسطينية. 

استمّر نمط التصعيد والتصعيد المضاد ممّيزاً للمعارك على مدار اثني عشر شهراً، وساعد على ذلك عاملان أساسيان، الأول هو وضع إسرائيل أهدافاً مستحيلة لوقف الحرب أهمها القضاء على حماس قضاءً مبرماً، ومعلوم أن تصفية قيادات حماس وكوادرها لا تعني تصفية فكر حماس ولا بالطبع تصفية القضية الفلسطينية؛ ومن ثم راحت إسرائيل تنتقل من تصعيد إلى تصعيد وكأنها تطارد سراباً لكنها لا تتوقّف. والثاني هو دخول حلفاء إيران تباعاً في الحرب إسناداً للمقاومة الفلسطينية تحت شعار وحدة الساحات، وهذا شكّل بحد ذاته نوعاً من التصعيد من خلال توسيع نطاق الصراع؛ الأمر الذي ينقلنا إلى عنصر آخر من عناصر التغيير.

كانت عملية طوفان الأقصى وما تلاها اختباراً لمصطلح وحدة الساحات أكثر من أي مرةٍ سابقة؛ الأمر الذي أدّى لمزيد من ترابط قضايا المنطقة وتعقيدها أكثر فأكثر. فلقد أدّى دخول حزب الله اللبناني على الخط في اليوم التالي مباشرةً لعملية الطوفان إلى ربط جبهتيْ غزّة وجنوب لبنان، ومع تطوّر تداعيات هذا الربط إلى مواجهةٍ مفتوحة بين حزب الله وإسرائيل، أضاف بعض المسؤولين الإسرائيليين لشروط التهدئة في لبنان إطلاق الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس؛ أي جرى التعامل مع مجريات الأوضاع على الجبهتين كحزمة واحدة. 

من جهة أخرى فإن اشتباك الحوثيين مع إسرائيل إسناداً لجبهة غزّة ووصول صواريخهم إلى تلّ أبيب، استدعى قيام إسرائيل بمهاجمة عدّة أهداف في داخل العمق اليمني مرةً تلو الأخرى، وهكذا تم الربط بين جبهتين يفصل بينهما أكثر من ألفي كيلومتر. 

أما الجبهة السورية التي شكلّت طوال الوقت ساحة للهجمات الإسرائيلية من قبل عملية طوفان الأقصى بكثير، فإن دخولها ضمن جبهات إسناد غزّة أحدث تطوراً غير مسبوق في الهجمات الإسرائيلية، وذلك من خلال استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق لأول مرّة. بقول آخر، إذا كان النفوذ الإيراني في سوريا قد جرى استهدافه باستمرار من جانب إسرائيل؛ فإن ربط الساحة السورية بالساحة الفلسطينية قد أضاف مبرراً جديداً لتصعيد إسرائيل هذا الاستهداف.

أدّى الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق إلى استدراج إيران للمواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل، وذلك عبر تنفيذ إيران في إبريل 2024 هجوماً صاروخياً منضبطاً ومحدود التأثير ضد أهداف عسكرية إسرائيلية. وكان من الملاحظ أن إيران حرصت منذ بداية طوفان الأقصى على نفي أي صلة لها بالهجوم أو حتى علمها بتوقيته؛ ما يعني حرصها على النأي بنفسها عن التورّط المباشر، لكن هذا الموقف تغيّر بعد قصف القنصلية في دمشق ومقتل بعض كبار قادة الحرس الثوري الإيراني في الغارة الإسرائيلية. وعادت إسرائيل لتصّعد مع إيران مجدداً باستهدافها إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وهو في ضيافة طهران للاحتفال بتنصيب الرئيس الجديد للجمهورية الإسلامية، فكان أن ردّت إيران بعد تمهّل، ردّاً أقوى في مطلع أكتوبر 2024، وأعقب ذلك ردّ إسرائيلي على الردّ الإيراني في السادس والعشرين من الشهر نفسه. ويُعّد انتقال إيران من محاربة إسرائيل بالإنابة عن طريق حلفائها إلى محاربتها بالأصّالة عن نفسها؛ أحد أهم مظاهر التغيير التي شهدتها المنطقة بعد السابع من أكتوبر.

على صعيد آخر، لم تتجاوب دول الخليج -باستثناء مملكة البحرين- مع دعوة الولايات المتّحدة في ديسمبر 2023 لتشكيل قوة حارس الازدهار البحرية بغرض تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر ضد هجمات الحوثيين. وهذا أيضاً يُعد موقفاً جديداً إذا ما قمنا بمقارنته بالموقف الخليجي في القمّة الأمريكية الإسلامية الخليجية بالرياض في مايو 2017، وقوامه الموافقة على تشكيل "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي" الذي كان من أهدافه محاربة الإرهاب، في إشارة غير مباشرة للتهديدات الإيرانية ضمن أنواع أخرى من التهديدات. ويرجع هذا الاختلاف إلى أنه بين عامي 2017 و2023 تغيّرت أمور كثيرة، منها عودة العلاقات الخليجية الإيرانية، وتبنّي الدول الخليجية سياسة قوامها تحقيق نوع من التوازن في علاقاتها بكلٍ من إيران والولايات المتّحدة. ومع أن بنيامين نتنياهو تحدّث في الجمعية العامة للأمم المتّحدة عشية اغتيال إسماعيل هنيّة، عن محورين في الشرق الأوسط، أحدهما أسماه محور النقمة وأدخل فيه إيران وحلفاءها، والآخر أطلق عليه محور النعمة وأدخل فيه دول الخليج مع مصر ودول أخرى؛ فإن هذا التصوّر الإسرائيلي لم ينعكس عملياً في شكل اصطفاف خليجي ضد إيران. 

بقايا النظام الدولي "الأحادي":

انتهاءً بما لم يتغيّر، فإنه يتضمّن الالتزام الأمريكي المطلق والثابت بدعم إسرائيل، لا فارق في ذلك بين إدارة جمهورية وأخرى ديمقراطية؛ بل لقد انفردَت الإدارة الديمقراطية الحالية بتصريحات غير مسبوقة كقول الرئيس جو بايدن إنه لو لم تكن هناك إسرائيل لحرصت الولايات المتّحدة على إقامتها، وتأكيده أكثر من مرّة أنه صهيوني وإن كان غير يهودي. ثم أكمل وزير خارجيته أنتوني بلينكن الحلقة عندما زار إسرائيل بعد أيام قليلة من وقوع عملية طوفان الأقصى، قائلاً إنه أتى إسرائيل بصفته يهودياً. وفي مثل هذا السياق، الذي تختلط فيه الأيديولوجيا بالمصالح، والدين بالسياسة الخارجية استخدَمَت إدارة الرئيس بايدن كافة الأدوات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية لتأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في مواجهة التهديدات الإرهابية التي تتعرّض لها، وزادت بأن انخرَطت انخراطاً عسكرياً مباشراً في الصراع.

ففي أعقاب إقدام ما يُسمّى المقاومة الإسلامية في العراق على استهداف قاعدة البرج 22 على حدود الأردن مع سوريا في يناير الماضي، قامت الولايات المتحدة بالإغارة على مواقع بعض فصائل هذه المقاومة داخل العراق. وعلى صعيد آخر أدت الولايات المتّحدة دور ضابط الإيقاع للصراعات التي انبثقت عن عملية طوفان الأقصى فضلاً عن مسار الحرب في غزّة نفسها. ففي حين أطلقَت إدارة بايدن يد إسرائيل في التعامل مع كلٍ من ملّفي غزّة ولبنان؛ فإنها أدت دوراً أساسياً في ترشيد الردود العسكرية الإيرانية ضد إسرائيل، وبالعكس. لكن لغة الإدارة الأمريكية كانت أكثر من واضحة في تأكيد الالتزام التام بالدفاع عن إسرائيل لو اندلعَت حرب بينها وبين إيران.

كذلك تأكّدَت المواقف غير الفاعلة لكلٍ من روسيا والصين في التأثير في مجريات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وامتداداته لعدّة ساحات عربية، ناهيك عن الساحة الإيرانية؛ إذ مثّل الدعم السياسي والدبلوماسي للفلسطينيين والدعوة للالتزام بالقرارات الدولية جوهر الموقفين الروسي والصيني؛ ما يجعل هناك فجوة كبيرة بين هذين الموقفين والموقف الأمريكي. ويمكن تفسير ذلك في ضوء الحسابات المعقّدة التي كان على موسكو أن تقوم ببناء موقفها على أساسها، إذ استغّلت موسكو تفجّر الوضع في غزّة للتدليل على فشل سياسة الولايات المتحدّة في المنطقة، واستفادت من انصراف التركيز الدولي إلى الشرق الأوسط بدلاً من شرق أوروبا وانتقال تدفقات السلاح الغربي من أوكرانيا إلى غزّة، وهذان اعتباران متناقضان. فالاعتبار الأول يفضي بشكل غير مباشر إلى التأثير في العلاقات الروسية الإسرائيلية بحكم استفادة إسرائيل من الانحياز الأمريكي الفاضح لصالحها. بينما يفضي الاعتبار الثاني إلى التأثير في علاقة روسيا بحركة حماس والأهّم على علاقة روسيا بإيران، ومعلوم أن روسيا تربطها شبكة من المصالح المعقّدة بكلٍ من إسرائيل وإيران داخل سوريا وخارجها، كما أدت إيران دوراً مهماً في إمداد روسيا بالمسيّرات لاستخدامها في حرب أوكرانيا. 

إذا انتقلنا إلى الصين فإنها رغم موقفها الثابت من القضية الفلسطينية؛ فإنها لا تمتلك رصيداً من الانخراط التاريخي في المنطقة على المستوى السياسي وهذا يقيَد حركتها، فضلاً عن ذلك ترتبط الصين بعلاقات جيّدة بكلٍ من إسرائيل وإيران، وهذا يشكّل قيداً آخر. والخلاصة أن حرب غزّة أتت لتثبت أن مرحلة التعددية على قمّة النظام الدولي لم تتحقّق بعد، رغم كل محاولات تقليص النفوذ الأمريكي.

نأتي إلى النقطة الأخيرة التي تتعلّق بالانقسامات الفلسطينية، وهي الانقسامات التي ظلّت على حالها ولم يطلها تغيير، وذلك على الرغم من جسامة التطوّرات التي جرت في كلٍ من غزّة والضفة الغربية. فلقد بادر الرئيس محمود عبّاس بعد أيام قليلة من طوفان الأقصى بالقول إن سياسات وأفعال حماس لا تعبّر عن الشعب الفلسطيني. ومع أنه قام بتعديل كلامه بعد ذلك إلا أنه عاد في القمة العربية المنعقّدة في البحرين في مايو 2024 لاتهام حماس بأن عمليتها أعطت إسرائيل المزيد من الذرائع للإمعان في القتل والتدمير والتهجير. ومثل هذا الموقف كان من الطبيعي أن يصّب الزيت على نار الخلافات المشتعلة أصلاً بين فتح وحماس. ولم ينجح إعلان بكين الذي انبثق عن اجتماع أربعة عشر فصيلاً فلسطينياً أبرزهم فتح وحماس في تحقيق المصالحة على أرض الواقع، وظلّ التباين بين موقفَي الطرفين من تفاصيل اليوم التالي في غزّة بعد انتهاء الحرب عقبةً كؤوداً أمام إنجاز أي تقدّم.

الخلاصة العامة هي أن عاماً كاملاً على طوفان الأقصى غيّر أوضاعاً وتفاعلات كانت قد استقرّت لسنوات كثيرة، وأثبتت مجموعة أخرى من الأوضاع والتفاعلات قدرتها على مقاومة كل رياح التغيير. ويبقى القول إن المشهد الكامل لن تتضّح أبعاده قبل أن يهدأ صوت المدافع وأزيز الطائرات وتفرض نتائج الحرب نفسها على السياسة والسياسيين.