هندسة الرد:

عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران

29 October 2024


بعد مرور نحو 26 يوماً على الهجوم الإيراني الواسع بالصواريخ البالستية على ثلاث قواعد عسكرية إسرائيلية في الأول من أكتوبر 2024، جاء الرد الإسرائيلي الذي تمت "هندسته" بين تل أبيب وواشنطن بحيث لا يقود إلى حرب إقليمية واسعة، ويحفظ ماء وجه الجميع، بدايةً من إيران وإسرائيل وصولاً إلى الحفاظ على حظوظ الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستُجرى في 5 نوفمبر المقبل.

واقتصر الرد الإسرائيلي، فجر يوم 26 أكتوبر الجاري، على استهداف 20 موقعاً عسكرياً إيرانياً، منها قواعد الدفاع الجوي خاصةً تلك التي تضم أربع منظومات "إس 300" روسية الصُنع، وتدمير خطوط إنتاج خلاطات الوقود الصلب للصواريخ البالستية. وهذه "الهندسة" للرد الإسرائيلي على إيران سمحت لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالحديث عن نجاح الضربات "الموجعة والدقيقة"، على حد وصفه، مؤكداً من خلال هذا الرد التزامه أمام وزراء اليمين المتطرف بمعاقبة طهران على أكبر هجوم تعرضت له إسرائيل في تاريخها بنحو 200 صاروخ بالستي إيراني في الأول من أكتوبر الجاري. كما سمحت هذه "الهندسة" في الرد الإسرائيلي لطهران بترويج رواية تقول إن خسائرها محدودة للغاية، ولا تزيد على أربعة جنود قُتلوا في القواعد التي تم استهدافها، بل أشادت إيران بدفاعاتها الجوية، بالرغم من تأكيد إسرائيل أنها دمرت هذه الدفاعات الجوية في الموجة الأولى من الموجات الهجومية الثلاث. 

وقد حقق الهجوم الإسرائيلي، بهذه الطريقة، مصالح الإدارة الأمريكية الحالية، والمرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية، كامالا هاريس، التي ليس في صالحها على الإطلاق اندلاع حرب واسعة في الشرق الأوسط وهي على أعتاب انتخابات بعد أيام قليلة. كما تباهت واشنطن ضمناً بأنها هي التي أقنعت تل أبيب في النهاية بعدم استهداف المنشآت النووية والآبار النفطية الإيرانية. 

وتُثار تساؤلات من قبيل هل هناك عومل أجبرت إسرائيل على هذا الرد "المحدود"؟ وهل سترد إيران على الهجوم الإسرائيلي وفق ما قاله وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي؟ وما المعادلات والحسابات الجديدة التي أثمر عنها هذا الهجوم الإسرائيلي؟ وهل يمكن لهذه المعادلات أن تكون عنوان الشرق الأوسط؟ ويمكن الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال الاتجاهات العشرة التالية.

1- قدرات محدودة مقارنة بالأهداف:

ذهبت تقديرات، قبل الهجوم الإسرائيلي على إيران، إلى أن تل أبيب قد تلجأ لتدمير المفاعلات النووية الإيرانية الأربعة الشهيرة في بوشهر ونطنز وأراك وفوردو، لكن في النهاية لم تستهدف إسرائيل هذه المنشآت النووية لـعدة أسباب رئيسية، منها الآتي: 

أ- الافتقار إلى القدرات اللازمة: لا تملك إسرائيل القنابل الأمريكية التي يزيد وزنها على 32 ألف رطل، وهي الوحيدة التي يمكن أن تُدمر المفاعلات النووية تحت الأرض في عمق الصحراء الإيرانية، وهي تختلف عن القنابل التي تزن نحو ألفي رطل، وسبق أن استخدمتها اسرائيل في اغتيال زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، وخليفته هاشم صفي الدين. ووفقاً لموقع "أكسيوس" الأمريكي، فإن الولايات المتحدة رفضت منح القنابل بوزن 32 ألف رطل لإسرائيل حتى لا تستخدمها في مهاجمة المحطات النووية الإيرانية. كما أن تل أبيب لا تمتلك القاذفات الاستراتيجية من طراز "بي 52 ستراتفور تريس" (B-52 Stratofortress) التي يمكنها التحليق لمسافات بعيدة، والتي استخدمتها واشنطن في قصف الحوثيين في اليمن بسبب استهدافهم للسفن في البحر الأحمر. 

ب- البُعد الجغرافي: أقرت إسرائيل بأن العامل الجغرافي أدى دوراً كبيراً لصالح إيران عندما حملت الطائرات "إف 35" حمولات خفيفة بسبب المسافة التي تفصل إسرائيل عن إيران والتي تزيد على 1800 كيلومتر، فكلما زادت المسافات قلصت الطائرات حمولتها من الذخيرة لصالح خزانات الوقود الإضافية. ووفقاً لبيان الجيش الإسرائيلي، فإنه استخدم نحو 100 طائرة مجنحة خاصةً طائرات "إف 35"، وهذه الطائرات لم تتوغل في الأراضي الإيرانية بل قصفت أهدافها من على حدود إيران الغربية، وربما يفسر هذا أن غالبية الأهداف التي استهدفتها إسرائيل كانت في الغرب والجنوب الغربي الإيراني، ولم تستهدف الطائرات الإسرائيلية أي هدف إيراني في الوسط أو الشرق أو الشمال الشرقي. وتوجد مفاعلات أراك ونطنز وفوردو في وسط الصحراء وتنتشر في الأراضي الإيرانية التي تصل مساحتها إلى 1.6 مليون كيلومتر، وهذا التوغل كان يمكن أن يُعرض الطائرات الإسرائيلية للخطر سواء عندما تدخل الأراضي الإيرانية أم في طريق العودة إلى إسرائيل.

ج- تجنب التداعيات السلبية: لا يمكن لإسرائيل استهداف مفاعل بوشهر القريب جداً من دول الخليج، لأنه في هذه الحالة سيضر ليس فقط دول الخليج، بل بأكثر من 30 ألف جندي أمريكي يمكن أن تصل إليهم الإشعاعات النووية من بوشهر. كما أرادت تل أبيب تجنب دفع طهران إلى تغيير عقيدتها النووية من البرنامج السلمي الحالي، وفق تقييم أجهزة الاستخبارات الأمريكية، إلى تجاوز العتبة النووية وزيادة تخصيب اليورانيوم من 60% إلى نسبة 90% اللازمة لإنتاج القنبلة النووية. 

2- عدم استهداف المنشآت النفطية:

أحجمت إسرائيل عن استهداف المنشآت النفطية، خاصةً الحقول النفطية، ومخازن النفط في عبادان، والمصافي النفطية قرب الخليج العربي، استجابةً لنصيحة من الولايات المتحدة، وفق عدد من الصحف الأمريكية منها "واشنطن بوست"؛ وذلك لمجموعة من الأسباب هي: 

أ- الخوف من ارتفاع أسعار النفط لأرقام قياسية، بما يرفع أسعار المحرقات في الولايات المتحدة قبل أقل من 10 أيام من الانتخابات الأمريكية؛ وهو أمر كان سيلحق الضرر بموقف هاريس. 

ب- نشرت إيران مجموعة أهداف قبل الهجوم الإسرائيلي، تضم حقول الغاز الإسرائيلية في شرق المتوسط. ووفقاً للحسابات الإسرائيلية، كان هناك يقين لدى تل أبيب بقدرة طهران على امتصاص أي ضربة على المنشآت النفطية الإيرانية؛ لأن هذه المنشآت تنتشر على مساحات واسعة، بينما تتركز المنشآت النفطية وحقول الغاز الإسرائيلية في مساحة ضيقة لا تزيد على 120 كيلومتراً.

3- "خطوط حمراء" أمريكية:

لأول مرة تلتزم إسرائيل بـ"الخطوط الحمراء" الأمريكية منذ 7 أكتوبر 2023، فالرئيس جو بايدن قال علانية، وأكثر من مرة، إن واشنطن لا تؤيد ضرب المفاعلات النووية أو المنشآت النفطية الإيرانية. وربما أرادت تل أبيب عدم إحراج البيت الأبيض الذي أكد أنه نصح إسرائيل بعدم التوسع في الأهداف حتى لا تنزلق المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة تؤثر سلباً في حظوظ هاريس، وهو أمر كان يخشاه الديمقراطيون خوفاً من تكرار ما يُسمى بـ"سيناريو بيرني ساندرز" الذي حدث عام 2016 عندما كانت القاعدة الديمقراطية تؤيد ترشيح السيناتور الليبرالي التقدمي ساندرز، لكن إدارة الحزب الديمقراطي وقفت وراء هيلاري كلينتون؛ ما أدى إلى غضب القاعدة الانتخابية لساندرز وعدم ذهابها لصناديق الاقتراع في نوفمبر 2016 وفاز وقتها ترامب. 

كما أن توسع الحرب في الشرق الأوسط كان يمكن أن يزيد من غضب مؤيدي الجناح الليبرالي في الحزب الديمقراطي بقيادة ساندرز وإليزابيث وارن؛ الأمر الذي كان يمكن أن يؤثر بالسلب في فرص نجاح الديمقراطيين في انتخابات نوفمبر 2024.

4- تحييد الدفاع الجوي:

استهدف الرد الإسرائيلي أربع منظومات دفاعية "إس 300" روسية الصُنع حصلت عليها إيران عام 2016، وفق صحيفة "وول ستريت جورنال"، وسبق أن استهدفت طائرة مُسيَّرة إسرائيلية مركز القيادة والسيطرة لهذه المنظومات في 19 إبريل الماضي عندما استهدفت تل أبيب مدينة أصفهان رداً على الهجوم الإيراني الأول على إسرائيل في 13 إبريل الماضي؛ وإذا صحت الرواية الإسرائيلية بأنها دمرت هذه المنظومات الدفاعية، سيكون من السهل بعد ذلك على إسرائيل اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية.

5- حياد دول المنطقة: 

تجلت وحدة وقوة موقف الدول العربية في رفض استخدام أجوائها من طرفي الحرب الحالية، وخاصةً الدول التي تقع في مسارات الطائرات الإسرائيلية باتجاه إيران. وكان موقف هذه الدول العربية في منتهى الحياد، والانحياز فقط للسلام والاستقرار، ورفض توسيع دائرة الصراع عندما أعلنت أنها لن تسمح باستخدام أراضيها أو أجوائها في استهداف أي طرف للآخر. كما تجلى ذلك في إعلان الحكومة العراقية، يوم 28 أكتوبر الجاري، تقديم مذكرة احتجاج رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وإلى مجلس الأمن الدولي؛ بسبب استخدام إسرائيل لأجواء العراق في هجومها على إيران. الأمر الذي بعث رسالة واضحة لكل من طهران وتل أبيب مفادها أن دول المنطقة لا تريد توسيع دائرة الحرب والدخول في متاهة من الحروب الإقليمية التي لا يعرف أحد عواقبها. 

6- رسائل لروسيا:

لم يأت اتهام وزير الخارجي الإيراني، عراقجي، للولايات المتحدة بأنها شاركت في الهجوم على إيران عبر تمشيط المجال الجوي للطائرات الإسرائيلية من فراغ، فوفقاً لعدد هائل من وسائل الإعلام الأمريكية؛ فإن طهران كانت تستعد لتوريد آلاف الصواريخ البالستية إلى روسيا لمساعدة موسكو في حربها ضد كييف؛ ومن ثم فإن تدمير خطوط إنتاج خلاطات الوقود الصلب للصواريخ البالستية لن يؤثر فقط في قدرات إيران الصاروخية، بل سيمنعها كذلك من المُضي قُدماً في أي صفقة لدعم روسيا بهذه الصواريخ. 

كما أن الطائرات الإسرائيلية استهدفت مخازن الطائرات المُسيَّرة، وهي رسالة أخرى لروسيا التي حصلت بالفعل على آلاف الطائرات المُسيَّرة من إيران، وفقاً للمسؤولين الأمريكيين، ومنهم جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي. وربما كل هذا يفسر التسريب الأمريكي لبعض وسائل الإعلام بأن روسيا زودت إيران بمعلومات استخباراتية عن التحركات الإسرائيلية والأمريكية قبل الرد الإسرائيلي بساعات قليلة.

7- إضعاف حلفاء طهران: 

يمكن أن يُعطل استهداف خطوط إنتاج الصواريخ البالستية والطائرات المُسيَّرة، إمدادات طهران من هذه الصواريخ وتلك الطائرات إلى الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، وحركة حماس في غزة، بالإضافة إلى إضعاف خطوط الإمداد الإيرانية من تلك الأسلحة لحلفائها في العراق وسوريا. وسوف تكشف الأسابيع المقبلة أبعاد الضرر الذي يمكن أن يلحق بإمدادات طهران لحلفائها وأذرعها في المنطقة.

8- نافذة للدبلوماسية:

إن مهاجمة إيران لإسرائيل مرتين في 13 إبريل وأول أكتوبر 2024، ورد إسرائيل عليها، أثبت للجميع بمن فيهم طهران وحلفاؤها، وتل أبيب وحليفتها واشنطن، أنه ربما حان الوقت لوقف الحرب الحالية، وأن هذه الفترة "نافذة حقيقية للدبلوماسية" لوقف الحرب على غزة عبر مقترحات "الهدن القصيرة" التي يجري تداولها في القاهرة والدوحة، وبدء الحديث الإسرائيلي عن وقف الحرب في جنوب لبنان خاصةً مع قبول كل الأطراف اللبنانية تنفيذ القرار 1701 وعدم تعديله بالإضافة إليه أو الحذف منه. 

9- عدم الرد الإيراني:

تحمل السردية الإيرانية عن الهجوم الإسرائيلي، نيات بعدم الرد، فكل التصريحات الإيرانية تصف الهجوم الإسرائيلي بأنه محدود وتم إفشاله من جانب منظومة الدفاعات؛ وهو ربما تمهيد لعدم الرد الإيراني، خاصةً أن هذا الهجوم تجنب استهداف الشخصيات البارزة والمنشآت النووية والحقول النفطية الإيرانية. 

10- مقاربة جديدة لليوم التالي:

كشفت الضربات المتبادلة بين تل أبيب وطهران مدى هشاشة الأمن الإقليمي، وهو ما يدعو إلى البحث عن مقاربة جديدة لمنع اندلاع صراعات مستقبلية في المنطقة؛ لأن المعادلات القديمة في الشرق الأوسط ثبت أنها بعيدة تماماً وغير قادرة على تحقيق أمن وسلامة دول وشعوب المنطقة.