تحدي المنافسة:

الاستراتيجية الأوروبية تجاه حرب "الرقائق الإلكترونية"

14 November 2023


عرض: هبة محيي

تؤدي الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات دوراً مهماً في حياتنا اليومية، فهي سلعة وسيطة تستخدم لإنتاج العديد من السلع الحيوية مثل، الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والسيارات وأنظمة الأسلحة. لذلك، فهي تتمتع بأهمية استراتيجية في عملية التحول الرقمي والتقدم التكنولوجي، مما جعل هنالك العديد من الفاعلين الدوليين يتنافسون على فرض الهيمنة على هذه الصناعة، ومنهم دول على الساحة الأوروبية. 

في هذا السياق، تأتي أهمية ورقة السياسات التي أعدها الباحث جان روك بجامعة توبنغن الألمانية حول استراتيجية الرقائق الإلكترونية الأوروبية في ظل المنافسة العالمية، وتم إصدارها في العام 2023. إذ ناقشت الخصائص المميزة لصناعة أشباه الموصلات وتطورها، وأهم الفاعلين الدوليين الحاليين، ومدى تأثر أوروبا بالمنافسة العالمية في هذا المجال. 

خصائص الصناعة والمنافسة:

تتسم صناعة أشباه الموصلات بخصائص تجعلها عرضة للاضطراب، ومعرقلة لدخول منافسين جدد للسوق، إذ يتمتع نظام الإنتاج بدرجة عالية من التخصص والترابط، فإنتاج شريحة واحدة يحتاج إلى حوالي 1500 خطوة إنتاجية. حيث تمر هذه الصناعة بمراحل أساسية، وهي: التصميم، والتصنيع والاختبار والتجميع، ومن ثم تتطلب توافر قدر عالٍ من المعرفة والتخطيط طويل الأمد، والإنفاق الكبير على البحث والتطوير، فضلاً أنها صناعة كثيفة رأس المال، إذ يجب توفير 20 مليار دولار لإنشاء مصنع لأشباه الموصلات وفقاً للمواصفات القياسية. 

وتؤدي العولمة دوراً رئيسياً في إنتاج أشباه الموصلات، فهناك تركز جغرافي في منطقة معينة لكل خطوة إنتاجية، وهو ما يتطلب التعاون طويل الأمد بين الشركات المنافسة في المجال لتحقيق الاستقرار في سلسلة القيمة للصناعة. وبشكل عام، تشتعل المنافسة حول أشباه الموصلات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوروبا، إلا أن هنالك فاعلين آخرين مهمين في هذا المجال مثل، تايوان وكوريا الجنوبية واليابان. 

مع ذلك، ثمة اختلاف في مدى هيمنة الفاعلين الدوليين في مراحل صناعة أشباه الموصلات. إذ إن هنالك هيمنة أمريكية على مرحلة التصميم، تليها بدرجة أقل الشركات التايوانية واليابانية والأوروبية. فيما تهمين الشركات التايوانية على مرحلة التصنيع، تليها الشركات الكورية الجنوبية والأمريكية والصينية. أما مرحلة الاختبار والتصنيع، فتهمين عليها شركات تايوانية، تليها شركات صينية زادت حصتها في هذا المجال في الفترة الأخيرة. 

وفيما يتعلق بالمواد المستخدمة للتصنيع في المجال، تأتي الشركات الأمريكية في المقدمة في مجال تطوير البرمجيات الخاص بالصناعة، وعند التطرق لإنتاج الآلات والمواد الكيميائية والمواد اللازمة لإنتاج أشباه الموصلات، فثمة تركز جغرافي أقل، حيث يتنوع المساهمون بين الشركات الأوروبية، والأمريكية، واليابانية، والهولندية.

تطور التنافس العالمي:

ذهبت ورقة السياسات إلى أن التدخل الحكومي هو المحفز الرئيسي لصناعة أشباه الموصلات، والتي بدأت في الولايات المتحدة خلال عقد الستينيات مدفوعة بالبرامج العسكرية والفضائية الحكومية. إلا أن العديد من الشركات الأمريكية نقلت عمليات التجميع كثيفة العمالة في هذه الصناعة خلال السبعينيات الى الدول الآسيوية ذات التكاليف المنخفضة نسبياً. 

وخلال عقد السبعينيات، دخلت الشركات اليابانية السوق الأمريكية حيث لاقت دعماً من الحكومة اليابانية لمساعدتها في اللحاق بالركب التكنولوجي، مما أدى إلى تحقيقها نجاحاً ملموساً في المجال، وهو ما دفع الشركات الأمريكية المُصنعِة إلى الضغط على حكومة الولايات المتحدة لفرض قيود على الشركات اليابانية. وكانت نتيجة ذلك، بداية صراع تجاري بين واشنطن وطوكيو برز أكثر في الثمانينيات بعدما فرضت الحكومة الأمريكية تعريفات عالية القيمة على الواردات اليابانية من أشباه الموصلات. ومع فرض هذه التعريفات باتت الفرصة حينها سانحة لدخول فاعلين جدد في المجال، كالشركات الكورية الجنوبية والتايوانية، واستمر هذا الصراع حوالي عقدين، ولم ينته إلا في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ولم يكن سبب انتهاء الصراع التجاري هو الاتفاق بقدر ما كان انخفاض أهمية الإنفاق الأمريكي في سوق الاستيراد. فما بين عامي 1995 و2019، انخفضت حصة الولايات المتحدة من واردات أشباه الموصلات العالمية من 27% إلى 5%. وفي الوقت نفسه، انخفضت حصة الاتحاد الأوروبي من 15% إلى 6%، واليابان من 8% إلى 3%. وبدلاً من ذلك، أصبحت الصين في عام 2005 أكبر مستورد لأشباه الموصلات.

وبدءاً من عام 2012، استأثرت الصين بأكثر من 50% من الواردات العالمية لأشباه الموصلات، ويرجع ذلك إلى اعتمادها بشكل رئيسي على الرقائق كسلعة وسيطة لإنتاج العديد من السلع المتنوعة، حيث تسهم الصين في الإنتاج العالمي بحوالي 90% من الهواتف الذكية،67% من أجهزة التلفاز الذكية و65% من أجهزة الكمبيوتر. وأدركت الصين مخاطر اعتمادها الكبير على استيراد أشباه الموصلات، لذا وضعت مبادرات عدة لتقليل الاستيراد من الخارج ودعم الشركات الصينية للاعتماد على العرض المحلي. 

مع تصاعد التنافس الصيني الأمريكي، دخلت صناعة أشباه الموصلات ضمن مجالات الصراع بين البلدين. إذ تسعى واشنطن إلى تقويض جهود الصعود الصيني في هذه الصناعة عبر الضغط على الشركات التايوانية لعدم التعاون من الشركات الصينية كما وضعت واشنطن العديد من القيود على صادراتها من أشباه الموصلات إلى الصين. ولتحقيق السبق في هذا المجال، تهدف الولايات المتحدة إلى تدعيم الشركات المحلية والاستغناء عن الواردات في الأجل الطويل من خلال سن القوانين الداعمة لتوفير الحوافز الضريبية والإعانات للشركات الأمريكية المنتجة لأشباه الموصلات.

أوروبا وحرب الرقائق: 

تؤدي القارة الأوروبية دوراً رائداً في دعم أعمال البحث والتطوير الهادفة لإثراء صناعة أشباه الموصلات وتطورها، فتسهم القارة بـ10% من إجمالي الإنتاج العالمي في الصناعة، مع ذلك بلغ استهلاكها ضِعف هذا الإنتاج. وأثر الصراع الأمريكي الصيني في سوق صناعة أشباه الموصلات في أوروبا، إذ تضغط الولايات المتحدة على الشركات الأوروبية لعدم التصدير للصين، كما الحال مع شركة (أيه أس أم أل الهولندية) الرائدة في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية التي قطعت علاقاتها مع الصين.

وأثر ذلك الصراع بالتزامن مع جائحة "كورونا" سلباً أيضاً في الصناعات المعتمدِة على أشباه الموصلات في أوروبا مثل صناعة السيارات، والأجهزة التكنولوجية، وقطاع الرعاية الصحية والبعثات الفضائية في أوروبا. ففي مجال صناعة السيارات أدت إجراءات الإغلاق بسبب "كورونا" إلى إلغاء طلبات شركات السيارات والموردين من الشرائح الإلكترونية في الربعين الأول والثاني من عام2020، وهو ما قاد إلى انخفاض إنتاج السيارات الألمانية عام 2021 بنسبة 34% مقارنة بعام 2019. كذلك، أثرت الأزمة في مجال الرعاية الصحية، إذ تعذر تصنيع العديد من أجهزة العناية المركزة نظراً للافتقار للرقائق الإلكترونية اللازمة، مما أدى إلى عدم توافر عشرات الآلاف من أسرة العناية المركزة في أوروبا.

قانون الرقائق الأوروبي:

نظراً لاعتماد صناعة أشباه الموصلات في أوروبا على الاستيراد من آسيا والولايات المتحدة، فقد تم إطلاق مبادرات أوروبية لتقليل الاعتمادية وتحقيق السيادة في هذه الصناعة. إذ قامت المفوضية الأوروبية في يوليو 2023 بإصدار قانون الرقائق الأوروبي، والذي يهدف إلى تخصيص 43 مليار دولار للاستثمار في القطاع، ومن ثم زيادة حصة أوروبا من الإنتاج العالمي إلى 20% بحلول 2030، ويرتكز القانون على ثلاث دعائم أساسية وهي:

1- تعزيز وسائل البحث والتطوير الأوروبية في عملية التصميم لأشباه الموصلات من خلال تشجيع الأبحاث في مجال التقنيات الموجهة للمستقبل، وإنشاء منصة افتراضية للتصميم ومؤسسة لاختبار تصميم المنتجات، مع توفير الدعم المالي اللازم.

2- تعبئة الاستثمارات لمرحلتي التصنيع والاختبار والتجميع من خلال دعم المرافق المستخدمة لتصنيع أشباه الموصلات، واستخدام موارد وعمليات ابتكارية جديدة، مع الأخذ في الحسبان الحفاظ على البيئة، وتعزيز القدرات على الصمود في مواجهة الهجمات السيبرانية.

3- المراقبة والاستجابة للأزمات، عبر التنسيق بين الدول الأوروبية والمفوضية الأوروبية لمراقبة العرض والطلب في صناعة أشباه الموصلات، فعند إمكانية حدوث أزمة، كتعرض السوق للاختناق لزيادة الطلب ونقص العرض، يجب على الدول الأوروبية إعلام المفوضية بالأمر وتزويدها بالمعلومات اللازمة، ومن ثم تقوم المفوضية بتحديد الشركات التي يجب أن يكون لها النصيب الأكبر من الدعم والإطار الزمني لهذا الدعم، مع فرض قيود تصديرية على المواد التي من شأنها إحداث أزمات.

من خلال تحليل الاستراتيجيات المراد اتباعها بواسطة المفوضية الأوروبية، يمكن استنتاج التوجه الأوروبي الذي يتبنى ضرورة التدخل في صياغة السياسات الصناعية لأشباه الموصلات، مع الابتعاد عن ليبرالية السوق، لخدمة القطاعات الصناعية الحيوية التي تعتمد على أشباه الوصلات بشكل أساسي كسلعة وسيطة.

نقد الاستراتيجية الأوروبية:

أوضحت ورقة السياسات أن قانون الرقائق الأوروبي لم يحظ بقبول الجميع، حيث لاقى بعض الانتقادات التي تشكك في مدى فعاليته في تحقيق الأهداف المرجوة منه، وأهمها ما يلي:

1- لم يتطرق القانون إلى دعم القدرات الإنتاجية اللازمة لصناعة العُقد الناضجة (mature nodes) وهو نوع من أشباه الموصلات التي تعتمد عليه صناعات رئيسية في الدول الأوروبية، كقطاع السيارات وقطاع الرعاية الصحية، مما يؤدي إلى استمرار تبعية أوروبا للصين، إذ تعمل بشكل مستمر على توسيع قدراتها في ذلك المجال.

2- التشكيك في مدى إمكانية تنفيذ الهدف التمويلي البالغ 43 مليار يورو، حيث لا يبدو المبلغ كافياً لتقليل الفجوة بين القارة الأوروبية، والدول الأخرى التي تتنافس في مجال أشباه الموصلات.

3- تعكس الاستراتيجيات الأوروبية المقترحة ابتعاداً عن مبادئ السوق الليبرالية، وتمسكاً بتنفيذ سياسة التدخل الصناعي. 

4- التشكيك في إمكانية تحقيق الأهداف المرجوة لأن الأطراف المتنافسة الأخرى كالصين والولايات المتحدة لا تدخر جهداً للاستمرار في مواكبة التطور في المجال، الأمر الذي يحتم على أوروبا أن تبذل جهوداً مضنية للحاق بالمنافسين، بل والتفوق عليهم بعد ذلك.

5- تعزيز الانقسام في العلاقات الأطلسية، حيث ستتسع العلاقات التنافسية الأوروبية مع الولايات المتحدة لتشمل مجال أشباه الموصلات. 

المصدر: 

Universität Tübingen, Die Halbleiter-Strategie der Europäischen Kommission angesichts des Chip-Wars und neuer Rivalitäten, Jan Ruck, 2023.