التحديات الثلاثة:

النمو والأمن والتكامل في أمريكا اللاتينية

20 August 2014


يستلزم فهم التطورات الحالية في أمريكا اللاتينية التركيز على القضايا الحيوية التي تهم القارة في الآونة الأخيرة، والتي تتمثل في النمو الاقتصادي، وفي القلب منه علاقة المنطقة بالعالم، فضلاً عن مشاريع التكامل الإقليمي، التي ترتبط بآليات التنمية الاقتصادية ارتباطاً وثيقاً، وأخيراً المشكلات الاجتماعية التي تترتب على النمو الاقتصادي.

تكلفة مرتفعة للنمو الاقتصادي

تمثل قضية النمو الاقتصادي إحدى أبرز القضايا الأكثر أولوية بالنسبة لحكومات القارة اللاتينية، خاصة البرازيل، وهي قضية لا يمكن عزلها عن الارتباط الاقتصادي القائم بين اقتصادات أمريكا اللاتينية والاقتصاد العالمي، إذ لاتزال نظريات التبعية تعد أساساً لفهم التطورات في القارة، فاقتصادات أمريكا اللاتينية لا تعدو أن تكون هي "الأطراف" بالنسبة للدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، التي تمثل المركز؛ وهو الأمر الذي ترتبت عليه تداعيات سلبية، أبرزها ضعف عملية النمو الاقتصادي، خاصة مع استمرار اعتماد اقتصادات أمريكا اللاتينية على تصدير السلع الاقتصادية ذات القيمة المضافة المتدنية، وانخفاض أجور العمالة التي تنتج هذه المنتجات.

ومن جهة ثانية، فإن النمو الاقتصادي تم بتكلفة بيئية مرتفعة، وهو ما دفع منظمة السلام الأخضر في بتاجونيا بالأرجنتين – على سبيل المثال – إلى الاحتجاج ضد تقليص مساحة الغابات، وقطع الأشجار، كما دعا المتظاهرون إلى سيادة بوليفيا على مواردها المائية، حيث تبرز سلبيات كبرى وتكلفة مرتفعة مصاحبة لهذا النمو، مثل التغير المناخي، ومشكلات الأمن الغذائي، بسبب الإسراف في إنتاج السلع للتصدير، ونزوح السكان من ضفاف الأنهار بسبب التوسع في قطاع الطاقة، (مثل محطة الطاقة الكهرومائية في بيلو مونتي في شمال البرازيل).

يضاف إلى ما سبق غياب البنية التحتية لسكان المناطق العشوائية (الأحياء الفقيرة والأراضي الحضرية غير المأهولة) والذين يتنازعون مع أولئك الذين يحملون سنداً قانونياً لملكية الأراضي، أو يريدون السيطرة عليها من خلال تزوير الوثائق.

ولهذا فإنه بالرغم من التفاخر بنسبة النمو الاقتصادي في بعض بلدان القارة، كانت تبلغ ما بين 6% إلى 7% قبل عام 2009، وتراجعت إلى نحو 4% منذ الأزمة العالمية، فإن الصعوبة الكبرى تكمن في تحقيق معدلات نمو مرتفعة مع الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية، ومع التوزيع العادل لمنافع التنمية على جميع السكان.

سلبيات الأمن الاجتماعي

يجسد التاريخ الحديث للنمو الاقتصادي والتكامل الإقليمي في أمريكا اللاتينية جانباً آخر مظلماً، وهو التهميش الذي يطال الملايين من أفراد المجتمع لصالح قلة تستأثر بمعظم ثروات البلاد. ولعل استثمارات البنية التحتية التي تمت مؤخراً في البرازيل مثال واضح على ذلك، فبدلاً من بناء المدارس والمستشفيات لتحسين مؤشرات التنمية البشرية، استثمرت الحكومة البرازيلية في أدوات القمع الداخلي مثل تجهيز الشرطة وبناء المزيد من السجون، وهو ما وضح في تشكيل وزارة العدل في عام 2004 لقوات جديدة هي قوات الأمن العام الوطنية، كما أن أي حاكم ولاية يرى تهديداً للنظام العام بها، عليه أن يطلب الدعم الاتحادي لاحتواء وقمع مثل هذه الأحداث، كالتظاهرات التي تخل بالنظام العام وأعمال الشغب في السجون.

وعلاوة على ذلك، أنفقت الحكومة البرازيلية نحو 900 مليون دولار أمريكي للحفاظ على أمن كأس العالم، واستخدمت قوة الأمن العام الوطنية لضمان راحة السياح، وهو ما أدى لخروج الناس في تظاهرات للمطالبة بإدخال تحسينات على وسائل النقل العام والخدمات الصحية، ويوضح مثل هذا الإنفاق المُبالَغ فيه على الأمن العام في أمريكا اللاتينية إلى عدم التوافق بين واضعي السياسات والطوائف المحرومة من المجتمع.

من جانب آخر تعج القارة باضطرابات أمنية في أنحاء مختلفة، ففي البرازيل وبيرو، هناك نزاعات بين المواطنين الأصليين والمزارعين على حيازة الأراضي. وفي الطرف الشمالي من أمريكا اللاتينية، تسعى الحكومة المكسيكية للتفاوض مع تجار المخدرات لأن الحكومة السابقة بقيادة حزب العمل الوطني المكسيكي أعلنت حرباً لم تستطع حسمها ضد عصابات المخدرات. وفي كولومبيا، تجرى مفاوضات بين الحكومة والقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك)، والتي تسيطر على مساحة واسعة في جنوب البلاد، وأدت المفاوضات إلى نتائج أفضل من السياسة السابقة التي كانت تقوم على الإدانة والقمع، وأخيراً، فإن الضغوط الخارجية غالباً ما تشجع حكومات أمريكا اللاتينية على بذل قصارى جهدها لتصدير البضائع الرخيصة وعلى المزيد من الانفتاح التجاري، بالتوازي مع زيادة القمع.

وبالرغم من هذه المشكلات السياسية والاجتماعية، فإن هناك جانباً إيجابياً هو أن أمريكا اللاتينية تعد بوتقة صهر للتجارب الإيجابية المتنوعة، فعلى سبيل المثال، أعلن الرئيس البوليفي "إيفو موراليس" أن بوليفيا دولة متعددة القوميات، وهو تقدم كبير يستهدف حماية الشعوب الأصلية.

لذلك، فإن المخرج الوحيد لأمريكا اللاتينية هو مراعاة المقترحات السياسية التي تدعو للنمو الاقتصادي مع توزيع عادل للدخل، إلى جوار اعتماد آليات للتكامل تعزز التنمية الداخلية، وتحافظ على الأمن في دول القارة، لاسيما في ظل اتفاق معظم الدول في القارة مؤخراً على إقامة علاقات تجارية وثقافية مع البلدان الأفريقية والآسيوية.

آليات التكامل الإقليمي

توجد رغبة قوية من جانب البرازيل في تأكيد نفسها ضمن مجموعة دول الـ "بريكس"، وهي تجمع اقتصادي يضم خمس دول "ناشئة" لا يجمعها رابط ببعضها البعض، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.

وقد سعت معظم دول أمريكا اللاتينية إلى الدخول في آليات للتكامل الإقليمي، وذلك للتخفيف من عوائق التنمية الاقتصادية، وتعزيز آليات التكامل الإقليمي لاقتصادات هذه البلدان، حتى يمكنهم أن يكونوا قوة مؤثرة في العلاقات الدولية. ولذلك فقد تم إنشاء السوق المشتركة لدول أمريكا الجنوبية (ميركوسور) لتحقيق هذه الأهداف في مارس 1991 من خلال معاهدة بين الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وأوروغواي، وبالرغم من العقبات البيروقراطية (مثل التأخر في إجراءات تبادل السلع على الحدود بين الأرجنتين والبرازيل) والاختلافات الأيديولوجية (كرفض برلمان باراغواي الموافقة على انضمام فنزويلا إلى السوق المشتركة)، فإن التكتل نجح في إقامة منطقة تجارة حرة والسماح بحرية حركة المواطنين بين دوله.

وقد انضمت فنزويلا مؤخراً إلى هذه السوق المشتركة، وكان من أسباب ذلك التعليق المؤقت لعضوية باراغواي بسبب الإطاحة برئيس باراغواي فرناندو لوغو في يونيو 2012، وهو ما مثّل فصلاً جديداً في تاريخ التكتل، ومع ذلك، فقد تم هذا الانضمام في الوقت الذي تعاني فيه فنزويلا أزمة "الشرعية الانتخابية" التي قسمت البلاد بين دعاة "الثورة البوليفارية" لدعم الرئيس نيكولا مادورو ومعارضيه الذين يطالبون بإجراء تغييرات إدارية من شأنها الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد وحل مشاكل مثل نقص الغذاء وانخفاض قيمة العملة.

وبالرغم من أن السوق المشتركة لديها ميل لدعم دور الدولة في عملية التخطيط الاقتصادي، وتتطلع لتصدير منتجاتها عبر المحيط الأطلسي، فإنها تعطي الأولوية لدعم خطط التجارة الداخلية، وهو ما تأكد مع إضفاء الطابع الرسمي على تحالف المحيط الهادئ في يونيو 2012 ليكون نموذجاً آخر على التكامل الإقليمي، ويتكون تحالف المحيط الهادئ من المكسيك وكوستاريكا وكولومبيا وبيرو وشيلي، وجميعها دول مطلة على المحيط الهادئ، وذلك بهدف تحسين علاقاتها التجارية مع آسيا، وتعزيز اتفاقيات التجارة الثنائية لكل دولة من أعضاء التحالف مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن السوق المشتركة للجنوب تتأكد فاعليتها هي الأخرى، مع توقيع اتفاقيات التجارة مع تكتلات اقتصادية ودول خارج المنطقة، حيث تتفاوض دول السوق ككتلة واحدة مع الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الآسيوية كاليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند.

 ** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الأول، أغسطس 2014.