مُعضلة الفعّالية:

كيف حيّدت روسيا تأثير العقوبات الغربية في ترسانتها العسكرية؟

28 September 2023


أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 12 سبتمبر 2023، أن بلاده تعمل على تطوير سلاح جديد خارق "يضمن أمن أي بلد" في المستقبل القريب، مُضيفاً أن هذا السلاح المُحتمل "يستخدم مبادئ فيزيائية جديدة". وأشارت وكالة تاس الروسية للأنباء إلى أن ذلك يعني أن هذا السلاح قد يتضمن استخدام تقنيات ومبادئ تشغيل حديثة، بما في ذلك أسلحة الليزر والموجات فوق الصوتية وغيرها. ولم يُشر بوتين أو وسائل الإعلام الروسية إلى ماهية هذا السلاح. 

دلالات مُتعددة: 

يحمل هذا الإعلان من جانب الرئيس الروسي، عدداً من الدلائل والمؤشرات، يمكن إلقاء الضوء على أبرزها على النحو التالي:

1. استمرار تطوير موسكو لقدراتها العسكرية: يؤشر إعلان الرئيس الروسي عن سلاح جديد بمواصفات تسليحية مُتقدمة، على مواصلة روسيا تفوقها الصناعي العسكري رغم مواجهتها أكبر حملة عقوبات اقتصادية في التاريخ الحديث. وتستهدف العقوبات التي تواجهها روسيا- بشكل أساسي- خفض القدرات العسكرية الروسية من خلال تخفيض القدرات الربحية للاقتصاد الروسي لمنع تمويل الحرب والحد من قدرات روسيا في الحصول على تكنولوجيات مُستوردة أساسية لصناعاتها العسكرية.

وجدير بالذكر أن روسيا تحتاج لمكونات دقيقة مُستوردة تساعد في صناعة أجهزة ومُعدات عسكرية أكبر. وتعتمد الصناعة العسكرية الروسية بشكل كبير على أشباه الموصلات المُصنعة محلياً والمستوردة. لذلك تستهدف واشنطن مُصدري أشباه الموصلات لروسيا وكذلك المطورين المحليين. هذا بالإضافة إلى مواد الفايبر كاربون المهمة في أنظمة الدفاع الجوي ويُعد القطاع العسكري الروسي من أكبر مُستهلكي الفايبر كاربون في روسيا، لذلك توجهت العقوبات الأمريكية تجاه المصنعين المحليين والشركات التكنولوجية المتخصصة في إجراء بحوث في مجال تطوير الصناعات المستخدم فيها الفايبر كاربون الذي يستخدم في صناعة الطائرات ومحركاتها والصواريخ والتكنولوجيات الفضائية. 

2. وجود ثغرات في هيكل العقوبات: وصلت العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا أكثر من ألف عقوبة، ورغم قسوتها على الاقتصاد الكلي الروسي وجيشها فإن موسكو تمكنت بشكل كبير من حماية نشاطها الاقتصادي وقدراتها العسكرية بعيداً عن تأثيرات الحرب الاقتصادية التي شنها عليها الغرب.

وبرغم النجاح النسبي الذي حققته العقوبات الاقتصادية في الحد من الإنتاج العسكري الروسي منذ بداية العمليات العسكرية وحتى أغسطس ٢٠٢٢، فإن المحاولات الناجحة لموسكو في التهرب من العقوبات حيدت فعّاليتها فيما يخص الصناعات العسكرية بدايةً من نهاية ٢٠٢٢. وفي إطار زيادة الاحتياجات العسكرية لروسيا، استمرت الآلة العسكرية في الإنتاج بل أكدت تقارير أوروبية زيادة القدرات الإنتاجية الروسية مع استمرار قدرتها على تهريب مكونات أوروبية تستخدم في صناعة الأسلحة ذات التوجيه الدقيق. وتمكنت المخابرات الروسية من تأمين واردات عسكرية مهمة من خلال تركيا، وأرمينيا. وتضاعفت بالفعل تلك القدرات العسكرية الروسية في إنتاج الدبابات الهجومية على سبيل المثال. إذ أشار مسؤول دفاعي غربي كبير لم يتم تحديده، في تصريحات نقلتها صحيفة التايمز، إن روسيا كان يمكنها إنتاج 100 دبابة سنوياً قبل الحرب؛ والآن يبلغ متوسطها 200 دبابة، كما تنتج روسيا حالياً ذخائر تمثل ما تنتجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معاً.

ويساعد في ذلك تميز الترسانة العسكرية لموسكو بقلة تكاليفها، ويرى الخبراء الغربيون السبب في ذلك في عدم اهتمام موسكو بمعايير الأمان. وأكد المسؤولون الأمريكيون أن العقوبات لن تكون فعّالة ١٠٠% في منع وصول بعض المكونات ثنائية الاستخدام لموسكو. وتعمل موسكو على استيراد الممنوعات من خلال دول وسيطة. هذا برغم التحديث المُستمر من قبل الدول الغربية لقوائم الأفراد المفروض عليهم عقوبات نظراً لدورهم في تهريب البضائع الممنوع تصديرها لروسيا من خلال دول مثل قبرص، ولاتفيا، وطاجيكستان. وتجدر الإشارة إلى أن استخدام موسكو للدول الوسيطة يحد كثيراً من فعالية العقوبات على ترسانتها العسكرية.  كما يطالب الأوكرانيون بتطبيق عقوبات ثلاثية تستهدف بها الدول الغربية المؤسسات والأفراد الذين يساعدون روسيا على التهرب من العقوبات حتى لو كانوا خارج روسيا أو غير روس، ووصل الأمر إلى النداء بمعاقبة دول بعينها إذا استمرت في تسهيل حصول موسكو على ما تستهدفه العقوبات.

3. نوعية العقوبات الغربية المفروضة على روسيا: تنقسم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا إلى عقوبات ضد أفراد وعقوبات ضد قطاعات. ويأتي على رأس تلك العقوبات، تلك المفروضة على القطاع النفطي والغازي، وذلك لحرمان روسيا من الأرباح الضخمة التي تولدها من هذا القطاع، وذلك بتحديد سعر مُحدد للنفط والغاز الروسييْن، لكن روسيا ردت على ذلك، بتقليل كميات الغاز التي تحصل عليها أوروبا، كما تمكنت من تصدير نفطها بالأسعار التي تراها مُناسبة من خلال توقيع اتفاقيات وهمية بأسعار محددة مُسبقاً تتطابق من المُحددات الأوروبية لكنها تمكنت من تحقيق أرباح غير مدونة في وثائق لكن بخصومات معينة جعلت أسعار نفطها أرخص من المعروض العالمي. 

كما تفرض الأطراف الغربية عقوبات على القطاع التكنولوجي لروسيا، إلا أن الأخيرة تمكنت من شراء بدائل من بكين التي توفر كل السلع ثنائية الاستخدام المُهمة في صناعة المسيرات الحربية. كما أن القطع التي لا يمكن استيرادها مباشرة من الصين، تمكنت روسيا من توفيرها من خلال تركيا، وجورجيا، وأرمينيا، وكازاخستان ومجموعة دول آسيا الوسطى. وشهدت الواردات الكازاخية من الولايات المتحدة وأوروبا زيادة بـ٨٠% خلال ٢٠٢٢، وهي الفترة نفسها التي شهدت فيها الصادرات الكازاخستانية من المواد التقنية نمواً بـ١٠ أضعاف خلال ٦ أشهر فقط. ويرى محللون أن موسكو قد تتمكن من الحصول على قطع غيار الطائرات بنفس الطريقة. 

أبعاد مُحيطة:

ثمّة أبعاد تحيط باستمرار الإنتاج العسكري الروسي، بالرغم من مواصلة الغرب فرض العقوبات على موسكو، ويمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:

1. تنسيق أوروبي أمريكي لمنع وصول التكنولوجيات ثنائية الاستخدام لروسيا: تصنف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ٣٨ مُنتجاً ممنوعاً تصديره لروسيا تستخدم كلها في صناعة المسيرات والصواريخ البالستية. وقد جعلت واشنطن الحد من القدرات التصنيعية العسكرية الروسية استراتيجية في خطة دعمها كييف، حيث قامت الحكومة الأمريكية في أكتوبر ٢٠٢٢ بتعزيز عقوباتها على روسيا بحزمة من الإجراءات لضمان عدم حصول موسكو على مكونات إلكترونية تساعدها في بناء مُعدات عسكرية ذاتية التوجيه، ودخل في تلك القائمة الرقائق الحاسوبية والرقائق الدقيقة ومعالجات الحواسيب الضخمة، بالإضافة إلى مكونات تستخدم في صناعة المحركات السولارية والمروحيات والدبابات.

وبالتوازي، فإن الاتحاد الأوروبي يدعم المساعي الجماعية الغربية الخاصة بتقويض القدرات العسكرية التصنيعية لروسيا من خلال تعديل قوائم السلع الممنوع تصديرها لها بشكل دوري، ووصل إجمالي العقوبات المفروضة على موسكو من بروكسيل إلى ٤٣.٩ مليار دولار من صادرات ممنوعة لها؛ ما يعني أن ٤٩% من جملة الصادرات الأوروبية إلى روسيا ممنوعة. ويفرض الاتحاد الأوروبي حزمة العقوبات الاقتصادية على روسيا في إطار دعمه لأوكرانيا ومن أهم تلك الحزم تلك الخاصة بتحييد القدرات التصنيعية العسكرية الروسية.  ويدخل في إطار تلك القوائم التقنيات الفائقة والحواسيب العملاقة وأشباه الموصلات المتطورة، والمكونات الإلكترونية والبرمجيات. هذا بالإضافة إلى تكنولوجيات الطيران والفضاء والأجهزة الخاصة بموجهات المركبات والسفن البحرية، وكذلك الأدوات ثنائية الاستخدام، أي التي يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية.

2. انتقائية المواقف تجاه الدول الداعمة لروسيا: في الوقت الذي يسعى فيه الاتحاد الأوروبي إلى معاقبة دول مثل إيران وبيلاروسيا لتسهيلها حصول روسيا على المنتجات المفروض عليها عقوبات. تغيب تلك التهم أو الأفعال ضد دول مثل أرمينيا، وكازاخستان، والصين رغم ورود تقارير بتسهيلها حصول موسكو على عديد من التكنولوجيات ثنائية الاستخدام.

وقد حدد الاتحاد الأوروبي عقوبات خاصة ضد بيلاروسيا لارتباطها بشكل مباشر بالهجوم الروسي على الأراضي الأوكرانية وكذلك إسهامها في تهرب روسيا من العقوبات الذكية الخاصة بقدرات روسيا التصنيعية العسكرية. وتضمنت تلك العقوبات حظر بيع الخدمات التكنولوجية والسلع الخاصة بالطيران والفضاء لمينسك وكذلك المسيرات ومحركات الطائرات، بالإضافة إلى أشباه الموصلات.

3. مواصلة الدعم الصيني لروسيا: تدعم الصين روسيا بشكل غير مُباشر في حربها ضد أوكرانيا من خلال دعم موسكو بشرائها منتجاتها النفطية وتحويل مستحقاتها المالية خارج النُظم الغربية ما أتاح نجاح تلك العمليات. كما وفرت حاملات النفط والتأمين اللازم للسفن لضمان وصول حمولات النفط الروسية لموانئها. إذ أوصلت الشركات الصينية المملوكة للحكومة الاحتياجات الروسية من معدات التوجيه الجغرافي للطائرات المقاتلة والعديد من التكنولوجيات الثنائية الاستخدام، ووصل إجمالي الصادرات الروسية فيما يخص بناء المسيرات من الصين حوالي ١٢ مليار دولار. في الوقت الذي أكدت فيه الصين عدم بيعها أو نيتها بيع أسلحة لروسيا. كما اتفقت موسكو وبكين على زيادة التبادلات التجارية وزادت المدفوعات الروسية باليوان الصيني لتسجل ١٤% من إجمالي صادراتها من الصين في سبتمبر ٢٠٢٢ ما يقلل من فعالية العقوبات الغربية والتي هدفت إلى تقييد القدرات الروسية في استخدام مواردها الدولارية في تجارتها الخارجية.

4. الاستفادة من التجربة الإيرانية: تعاني طهران من العقوبات منذ ١٩٧٩ للحد من نجاح برنامج صواريخها البالستية وطموحاتها النووية ودعمها للمليشيات المسلحة في المنطقة، كما أن الاقتصاد الروسي يشبه إلى حد ما الاقتصاد الإيراني الذي يقوم أساساً على الصادرات الهيدروكربونية. واستخدمت طهران لسنوات أساطيل مموهة لتصدير منتجاتها النفطية والتي تقوم فكرتها على تبديل السفن الحاملة في وسط البحر لتصل لشركات رسمية ليتم إعادة بيعها بشكل رسمي عبر مؤسسات غير إيرانية. واعتمدت على تهريب الأصول الدولارية (بعض الأحيان ذهب) من خلال أطر غير قانونية ودول وسيطة، الأمر نفسه فعلته مع السلع الممنوع الحصول عليها. وفتحت روسيا أحد بنوكها في طهران ليتمكن الجانبان من زيادة تبادلاتهما المالية بعد طرد روسيا من نظام سويفت العالمي. كما فعّلت روسيا نظام تحويلات بنكية مع إيران لضمان استمرار العلاقات الاقتصادية بين البلدين بعيداً عن سويفت، الأمر الذي تلجأ إليه روسيا مع دول أخرى. 

وفي التقدير، يمكن القول إنه برغم العقوبات الصارمة التي يفرضها الغرب ضد موسكو، فإن الأخيرة، وخاصة خلال الأشهر الماضية، قد نجحت ليس فقط في التعافي من تراجع إنتاجها العسكري، والذي شهدته الأشهر الأولى من الحرب، بل أيضاً في زيادة هذا الإنتاج والعودة به إلى مستويات ما قبل الحرب، وذلك في إطار استغلال الثغرات الموجودة في تلك العقوبات، فضلاً عن تراجع فعّالية العقوبات الدولية بوجه عام، نظراً لما يمر به العالم من مرحلة انتقالية من القطبية الأحادية إلى عالم متعدد الأقطاب. وبالرغم من ذلك، فإن استمرار دعم الغرب لكييف، من شأنه أن يطيل أمد الحرب، ومن ثمّ زيادة استهلاك الأسلحة، الأمر الذي قد يؤثر في مخزوناتها العسكرية، خاصة إذا لم تواكب قدراتها التصنيعية الطلب المتزايد في أرض المعارك.