الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين:

تمدد "الناتو" لآسيا بين ضغط واشنطن ومواجهة بكين

22 June 2023


"إن الإصرار على الدفع باتجاه تشكيل تحالفات عسكرية شبيهة بحلف "الناتو" في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، يؤدي إلى تحويل دول المنطقة لرهينة ويؤجج الصراع والمواجهة، وهذه المحاولات سوف تدفع باتجاه إغراق المنطقة في دوامة من الانقسام والنزاعات والصراعات"؛ بهذه الكلمات الصريحة تحدث وزير الدفاع الصيني، لي شانج فو، عن هذه القضية ضمن مجموعة قضايا طرحها في كلمته بحوار شانغريلا العشرين في سنغافورة. وفي هذا الإطار، تُثار تساؤلات بشأن ماهية التحركات الأمريكية لتشكيل تحالفات في آسيا شبيهة بـ"الناتو" من وجهة النظر الصينية؟ وكيف تتعامل معها بكين؟ وإلى أين يمكن أن تصل الأمور على هذا الصعيد؟

تحركات واشنطن:

أصبحت السياسة الأمريكية الراهنة في المنطقة الأوسع المحيطة بالصين، تحظى بالاهتمام الأكبر بحكم تصنيفات مصادر التهديد. وهذا الاهتمام لا يقتصر على مجرد رصد موارد مالية إضافية هادفة إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي، وإنما يتضمن أيضاً جلب اهتمام دول أخرى من خارج هذه المنطقة وحثها على زيادة الانخراط فيها، وهي دول تتمتع بالعضوية في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وعلى رأسها بريطانيا وكندا. كما أن الولايات المتحدة عملت على ترسيخ تحالفاتها القديمة، وعلى رأسها تحالفها مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية، وسعت لزيادة التعاون الأمني مع هذين الحليفين. وقد حالت أسباب كثيرة دون السير قُدماً في هذا الاتجاه على مدار عقود ماضية، لكن في الوقت الراهن هناك تحركات كثيرة في هذا الصدد، مما يدفع إلى التساؤل بشأن مدى تعاون هذين البلدين مع واشنطن لتشكيل تحالف ثلاثي يمكن أن يكون نواة لـ"ناتو آسيوي".

ومنذ سنوات، كانت واشنطن قد أعطت الضوء الأخضر لليابان لكي تتخفف من القيود التي فُرضت عليها بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص قوتها العسكرية وصادراتها من الأسلحة وصيغ التعاون العسكري مع دول أخرى، ومن ثم كان تعاونها مع كل من أستراليا والهند، ومن هنا ظهرت صيغة الحوار الأمني الرباعي "كواد" التي ضمت إلى جانب هذه الدول الثلاث الولايات المتحدة، وقد تمت ترقية الحوار إلى مستوى القمة.

بيد أن الشراكة الأمنية الأبرز في تحركات واشنطن وحلفائها خلال السنوات الأخيرة في الفضاء المحيط بالصين، تتمثل في الشراكة الأمنية التي تجمعها بكل من بريطانيا وأستراليا؛ المعروفة اختصاراً باسم "أوكوس". وهذه الشراكة وإن طغت عليها المسألة المتعلقة بتزويد كل من واشنطن ولندن لكانبيرا بغواصات تقليدية تعمل بالطاقة النووية، بعدما ألغت أستراليا صفقة ضخمة مع فرنسا لتزويدها بغواصات عادية لا تعمل بالطاقة النووية، إلا أنها تتضمن جوانب أشمل من هذا الأمر الذي حاز الجزء الأكبر من الجدل نظراً لأنه أولاً غير مسبوق، وثانياً لارتباطه بقضايا الانتشار النووي.

وتتضمن شراكة "أوكوس" تعميق التعاون الأمني والدفاعي إلى جانب الدبلوماسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ليس فقط بين دولها، وإنما بالعمل مع الشركاء. وهذا قد يفتح الباب لتأويلات بخصوص إمكانية ضم أطراف أخرى لهذه الصيغة. وستعمل تلك الشراكة الأمنية على تعزيز قدرات تلك الدول على دعم مصالحها الأمنية والدفاعية، وكذلك التعمق بشكل أكثر فيما يتعلق بتبادل المعلومات والتكنولوجيا، وما يرتبط بذلك من تكامل معزز وأعمق علمياً وتكنولوجياً وصناعياً، وكذلك سلاسل التوريد المرتبطة بالأمن والدفاع. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما حرصت الأطراف الثلاثة على تأكيد قابلية التشغيل المتبادل لقدراتها المشتركة، مع التركيز بداية على قدرات الذكاء الاصطناعي، والقدرات السيبرانية، وتكنولوجيا الكم، وقدرات إضافية تحت سطح البحر. إذن فالموضوع ليس مجرد صفقة غواصات وإن كانت نوعية.

هذا السياق تراه الصين مستهدفاً لها ولتطويقها، خاصة وأنها ترى مع كل ذلك سعي أطراف من منطقة المحيطين الهندي والهادئ لتنسيق أكبر مع "الناتو" ومأسسة أكبر لعلاقاتها مع الحلف وإن لم تصل الأمور إلى حد نيل عضويته. والمقصود هنا تحديداً ما تقوم به كل من اليابان وكوريا الجنوبية، فطوكيو بصدد فتح مكتب لـ"الناتو" لديها، وسيول افتتحت تمثيلاً لها لدى الحلف، كما أن قائدي البلدين باتا يحضران قمم حلف "الناتو". إذن فحلف "الناتو" وأشباهه لم يعودوا بعيدين عن الصين، فماذا هي فاعلة؟

تفاعلات صينية:

يمكن القول إن الصين تسير في تعاملها مع هذه البيئة الاستراتيجية الآخذة في التشكل حولها، وفقاً لثلاثة مسارات أساسية، كالتالي:

1- مسار "التفنيد": يتضمن هذا المسار التصدي لكل هذه المحاولات الأمريكية ببيان هشاشة ما تقوم عليه من افتراضات، وتوضيح أهدافها الحقيقية، وشرح مخاطرها الآنية والمستقبلية. فعلى سبيل المثال، فإن الصين دأبت على اعتبار الاستراتيجية الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ مدعاة لإثارة المواجهة وأنها تسعى فعلياً لخلق أشباه لـ"الناتو" في المنطقة على الرغم من أن واشنطن تدّعي أن هدف استراتيجيتها المحافظة على الأمن والاستقرار في منطقة "الإندو-باسيفيك". كما تتصدى بكين دائماً لما تطرحه واشنطن حول التهديد الصيني للنظام الدولي القائم على القواعد، ومن بين ما تقوله على هذا الصعيد إن هذا المفهوم غامض، حيث لم يبين طارحوه ما هي تلك القواعد، بينما هي تؤكد تمسكها بالنظام الدولي المتمركز حول الأمم المتحدة والقانون الدولي. وبخصوص صيغة "أوكوس"، فإن الصين قد عددت لها خمسة أضرار متمثلة في الآتي:

أ- زيادة مخاطر الانتشار النووي: إذ سيتم نقل اليورانيوم عالي التخصيب من دول نووية إلى أخرى غير نووية، مع عدم وجود صيغة تضمن الإشراف الكامل والفعّال من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية على تلك الغواصات النووية. كما أن ما تقوم به الولايات المتحدة وبريطانيا تجاه أستراليا يتوازى مع سلوك مغاير لهما تجاه دول أخرى تعمل على تطوير تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم. وهذا يحمل ازدواجية واضحة من شأنها التأثير بالسلب في مجمل النظام الدولي لمنع الانتشار النووي.

ب- التأثير السلبي على المناطق الخالية من الأسلحة النووية: سواءً في جنوبي المحيط الهادئ حيث "اتفاقية راروتونغا"، وفي جنوب شرقي آسيا حيث "اتفاقية بانكوك".

ج- الدفع باتجاه متوالية سباق التسلح: هذه النوعية من التسليح لأستراليا سيترتب عليها "إخلال بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة"، وقد لا يقف الأمر عند مجرد التسلح التقليدي، وإنما قد تسعى دول أخرى للتسلح النووي.

د- التأثير بالسلب في الرخاء والاستقرار بالمنطقة: إن ديناميكية النمو وسرعته في منطقة "الإندو-باسيفيك"، والتي هي نتاج جهود دول على رأسها الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، مُعرضة للخطر، في ظل ما يترتب على تحالفات مثل "أوكوس" من توترات سيكون لها تداعيات سلبية على التنمية والاستقرار والسلام الإقليمي.

ه- إحياء عقلية الحرب الباردة: هنا ربطت الصين بين تحالفي "أوكوس" و"كواد" من حيث تماشيهما مع الاستراتيجية الأمريكية بخصوص المحيطين الهندي والهادئ باعتبارهما من وسائل تنفيذها. وهذا من شأنه "التركيز على إثارة التنافس بين الكتل في المنطقة والدخول في الألعاب الجيوسياسية ذات المحصلة الصفرية".

2- مسار "التصدي": هذا المسار الصيني متعدد الأوجه، ويمكن توضيح أبرز ملامحه على النحو التالي:

أ- حشد الرفض الإقليمي والعالمي لما تقوم به الولايات المتحدة وحلفاؤها: يتجلى ذلك في محاولات صينية ثنائية مع بعض الدول التي تجمعها بها علاقات متميزة مثل كمبوديا وروسيا. كما أنها تسعى لحشد هذا الرفض عبر المنظمات والتجمعات مثل "منظمة شنغهاي للتعاون".

ب- التصدي في المنظمات الدولية المعنية: المقصود هنا تحديداً الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث دأبت الصين منذ الإعلان عن تحالف "أوكوس" على تقديم أسئلة واستفسارات حول ما يتم تقديمه سواءً من دوله الثلاث أو من قِبل رئيس الوكالة الدولية. وإذا كانت الصين قد فندت الأساس الذي قامت عليه تلك الشراكة، فإنها في الوكالة الدولية تفند وبالتفصيل كل ما يطرح من قضايا فنية.

ج- التقارب أكثر مع روسيا: يأتي هذا التقارب الصيني بالرغم من كل التحذيرات الأمريكية. وصور هذا التقارب جلية، سواءً بتأكيد الصين أن التعاون مع روسيا لا حدود له، أو من خلال كثافة اللقاءات الثنائية بما فيها لقاءات القمة، أو ترقية الأهداف المراد تحقيقها بين البلدين. يُضاف إلى ذلك، كثافة المناورات العسكرية ونوعيتها ومجالها بين بكين وموسكو.

د- مد التعاون الأمني إلى مناطق غير متوقعة: المثال الأبرز هنا يتمثل في الاتفاق الأمني للصين مع جزر سليمان في المحيط الهادئ العام الماضي. وهذه الخطوة أثارت انتقادات كثيرة، وخاصة من جانب الولايات المتحدة وأستراليا، ودفعت بهذه الأطراف وغيرها إلى تكثيف اتصالاتها مع الدول الجزرية في المحيط الهادئ.

ه- ترقية العلاقات مع دول آسيا الوسطى: هذا ما تجلى في أول قمة بين الجانبين استضافها الرئيس الصيني شي جين بينغ، في مايو 2023. وبغض النظر عما قِيل حول دلالات توقيت عقد هذه القمة في وقت تنشغل فيه موسكو بحربها في أوكرانيا، فإن هذه المنطقة مهمة جداً، والمساعي الأمريكية لتعميق العلاقات معها متواصلة، كما أنها استضافت قوات أمريكية في سنوات سابقة.

و- الحرص على استقرار العلاقات مع رابطة "آسيان": على الرغم من وجود خلافات مع بعض دول "آسيان" حول الحدود البحرية في بحر الصين الجنوبي، فإن بكين دائماً ما تؤكد ضرورة الاحتكام إلى المفاوضات والالتزام بالصيغ التي تم التوصل إليها في هذا الشأن. وتُعد العلاقات مع "آسيان" من ضمن أولويات السياسة الخارجية الصينية.

ز- تطوير القوة الصينية الشاملة: هذا لا يرتبط فقط بالجوانب المختلفة للقوات المسلحة وجاهزيتها، وإنما بكل عناصر القوة الشاملة. ومن ثم يأتي الاهتمام الصيني بالبحث والتطوير، وتكنولوجيا الفضاء، والصناعات المتطورة، وغيرها.

3- مسار "تقديم البديل": دأبت الصين على تقديم مبادرات خاصة بالتعاون الأمني الإقليمي والعالمي بعيداً عن التكتلات والمواجهات. وكما كان وزير الدفاع الصيني واضحاً في كلمته بحوار شانغريلا الـعشرين في رفضه لتشكيل التحالفات الشبيهة بـ"الناتو" في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فإنه قد قدم مبادرة للتعاون الأمني في هذه المنطقة تتضمن العناصر التالية:

أ- تقديم "الاحترام المتبادل" على "الهيمنة": إذ إن سياسات الهيمنة تؤدي إلى عدم الاستقرار وربما الفوضى التي قد تُدخل الأطراف في حروب لا طائل منها. ومن ثم فإن الصين ملتزمة بـ"تعزيز الأمن التعاوني والجماعي والمشترك في منطقتنا على أساس الاحترام المتبادل"، وفقاً لتصريح وزير الدفاع الصيني في حوار شانغريلا.

ب- منع قانون الغاب: بحيث يسود العدل والإنصاف ولا تُدار الشؤون الدولية من قِبل دولة أو مجموعة من الدول مع استبعاد الآخرين. ومن ثم فإن التعاون يجب أن يكون مربحاً للجميع، وألا تكون هناك انتقائية في التعامل مع القواعد والقوانين الدولية. وهكذا فإن البيئة العادلة والمنصفة للتنمية من شأنها تلبية مصالح دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

ج- التعامل مع الخلافات عبر الثقة والحوار: إذا كانت الخلافات بين الدول أمراً طبيعياً، فإنه ليس شرطاً معالجة هذه الخلافات بطريقة تؤدي إلى زيادة التوتر وربما إشعال الحرائق، حيث توجد التوافقات والمصالحات والمفاوضات.

د- الانفتاح والشمولية حتى لا تقع المواجهات: أكد وزير الدفاع الصيني أنه "لا ينبغي أن تقوم أي استراتيجية على أساس أيديولوجي وأن تهدف إلى بناء تحالفات عسكرية حصرية ضد التهديدات المتصورة". وتفيد دروس التاريخ بأن السياسات القائمة على مثل هذه الاستراتيجيات تُعد بمثابة تصعيد للتوتر وهذا لا يخدم الاستقرار وإنما يزعزعه.

ختاماً، من الواضح أن الخلافات الصينية الأمريكية تتسع يوماً بعد آخر، وأن مستوى التوتر بينهما صار يشهد فترات ذروة متقاربة، وقد يؤدي ذلك إلى تعطيل بعض قنوات التواصل كما حدث بالنسبة للقاءات العسكرية على مستوى الوزراء أخيراً. ولم يعد الخلاف بين الجانبين مرتبطاً بقضية دون أخرى، حيث دخلت الأمور في إطار المنافسة الاستراتيجية الشاملة، والتي صارت في شق كبير منها "صراعية". وفي هذه الأجواء، تُستخدم كل الأدوات المُتاحة، بما في ذلك التعاون الأمني أياً كان مسماه ومستواه. وها هي الساحة المحيطة بالصين تشهد تفاعلات متزايدة على هذا الصعيد، مما طرح تساؤلات ليس فقط حول تشكيل تحالفات شبيهة بـ"الناتو"، وإنما أيضاً بإمكانية أن يتمدد "الناتو" نفسه إلى "الإندو-باسيفيك". وإذا كان تمدد حلف "الناتو" في المحيط الأوروبي قد أدى إلى صراع راهن أثّر في العالم كله في جوانب كثيرة، فكيف سيكون الحال إذا توسع "الناتو" نحو القارة الآسيوية؟

*لينك المقال في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين*