تناقض واضطراب:

أدوار الدول الكبرى في الشرق الأوسط

12 April 2015


إعداد: نوران شريف مراد


 تعاني منطقة الشرق الأوسط من توترات واضطرابات تجعلها مثل "الموانئ الصخرية" التي لا يمكن الرسو فيها. ومن ثم، باتت صياغة استراتيجية واضحة من جانب الدول الكبرى تجاه دول هذه المنطقة أمر غاية في الصعوبة. فمن ناحية، لا يمكن التنبؤ بما قد تؤول إليه الأوضاع في المنطقة. ومن ناحية أخرى تمر القوى الكبرى ذاتها بتحولات مهمة؛ فمنطقة الشرق الأوسط أضحت ساحة للعراك لا تتضح الصورة فيها، فلا نعلم من يتحالف مع من؟ وضد من؟ أو متى سينتهي التحالف؟، وترتب على ذلك أن استراتيجيات الدول الكبرى كثيراً ما يشوبها قدر من التناقض والاضطراب.

في هذا الإطار، نشر مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS)، دراسة مُوسعة بعنوان: "موانئ صخرية: حالة الشرق الأوسط عام 2015"، تضمنت عدة فصول، سوف يتم هنا التطرق بإيجاز للفصل الثالث المُعنون: (القوى الكبرى في الشرق الأوسط الجديد)، والذي أعده "جون ماكلولين" John Mclaughlin وهو نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سابقاً في الفترة من 2000 ـ 2004.

يشير الكاتب إلى أن منطقة الشرق الأوسط مرت بعدد من التحولات التي يتعين على الدول الكبرى في ظلها، صياغة استراتيجية جديدة للتعامل معها، تختلف عن تلك التي كانت متبعة إبان الحرب الباردة أو الفترة التي تلتها. وأوضح "ماكلولين" أن ثمة ثلاثة تغيرات أساسية طرأت على المنطقة، وهي:

1- حرب العراق، وما أثارته من انقسامات حولها.

2- تطرف الجماعات الجهادية، وما ترتب عليه من اختلافات في الرأي ما بين الأطراف الخارجية حول كيفية التعامل معه.

3- ثورات "الربيع" العربي التي أطاحت بعدد من الأفراد والمؤسسات والأنظمة التي كانت بمثابة قنوات لمرور القوى الخارجية للمنطقة.

وفي سياق هذه التغيرات المذكورة، يجب على الدول الكبرى تبني استراتيجية مختلفة عن ذي قبل للتعامل مع الشرق الأوسط في ظروفه الجديدة؛ حيث ميَّز الكاتب بين أربعة قوى كبرى؛ وهي: (الصين، وروسيا، والولايات المتحدة، وأوروبا)، موضحاً ما يجب أن تأخذه هذه القوى في الاعتبار أثناء صياغتها لاستراتيجياتها تجاه المنطقة.

روسيا

أشار الكاتب إلى أن موسكو تتحرك في الشرق الأوسط في إطار استراتيجية أكبر تراعي ثلاثة أهداف، وهي:  

ـ أن تحرص على أن يكون لها نقاط نفوذ وتأثير على دول جوارها القريب مثل أوكرانيا.

ـ أن تقوم بإحكام سيطرتها على نظاميها السياسي والاقتصادي.

ـ أن تستعيد سيطرتها على المناطق الحساسة مثل الشرق الأوسط، الأمر الذى سيساعدها على تحقيق أهدافها في المنطقة مثل مكافحة الإرهاب والتطرف.

ويعتبر الرئيس الروسي بوتين نفسه محققاً لهذه الأهداف، فهو اقتطع مساحات من أوكرانيا وضمها إلى روسيا، وهو يدخل موسكو في قلب الشرق الأوسط لمحاربة التطرف بما يصب في مصلحة روسيا، كما أن قيام موسكو بالسيطرة على تلك المنطقة من شأنه أن يحقق مكاسب اقتصادية وسياسية لها، ويجعلها في منافسة مع الولايات المتحدة وشركائها.

ويؤكد "ماكلولين" أن موسكو تعترف بأهمية التغيرات التي تمر بها المنطقة، كما أن لها أهدافاً جيوبوليتيكية في الشرق الأوسط، فهي تسعى لأن تكون لاعباً فاعلاً في أزماتها، وتسعى في الوقت ذاته إلى دمج مزيد من الفاعلين لحل تلك الأزمات. وتحقيقاً لذلك، تسعى روسيا لخلق مزيد من العلاقات التعاونية بينها وبين الدول الأخرى.

من جانب آخر، تسعى موسكو إلى ضمان نفوذها على أي قرار متعلق بالمنطقة، وتحرص في هذا الصدد على إقامة العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع دول الشرق الأوسط، فالدعم المادي والأسلحة التي تقدمها موسكو لسوريا، والعلاقات التاريخية التي تربط بين البلدين تكفل لموسكو نفوذاً حاسماً في أي قرار متعلق بالصراع المشتعل في سوريا.

وعلى نفس النحو، تمتلك روسيا أوراق ضغط قوية في مفاوضات دول (5 + 1) مع إيران بهدف تفكيك برنامجها النووي، فالغرب لن يتمكن من إبرام أي اتفاق مع طهران إلا بمباركة موسكو. ويوضح الكاتب كيف اتبعت روسيا في علاقاتها مع إيران دبلوماسية غاية في الصعوبة والدقة، كما لو كانت تسير على خيط رفيع، لكي تحقق مصالحها. ففي أعقاب الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، بدأت موسكو تقلق من امتداد تأثير تلك الثورة إلى الدول الإسلامية في وسط آسيا؛ ومن ثم، سعت روسيا لاستيعاب إيران وساعدتها في تحقيق بعض خطوات برنامجها النووي مثل بناء مفاعل نووي في "بوشهر". وانضمت موسكو إلى مصاف الدول الغربية الساعية لفرض عقوبات على طهران، بيد أنها تتبنى مطالب أقل حدة من تلك التي تتبناها واشنطن.

الصين

يرى "ماكلولين" أن قضية الطاقة ظلت هي الأساس لفهم السياسة الصينية تجاه منطقة الشرق الأوسط، إذ تسعى بكين دائماً إلى تحقيق المعادلة التالية: (أمن الطاقة = تنمية اقتصادية = استقرار سياسي).  ويأتي 55% من واردات الطاقة إلى الصين من الشرق الأوسط، وهو ما ساهم في تحقيق قدر من النمو الاقتصادي للصين، وساعد على توفير مزيد من فرص العمل، وبالتالي انشغال المواطنين عن المطالبة بحقوقهم السياسية.

ولقد تزايد اهتمام بكين بمسألة "أمن الطاقة"، خاصةً في ظل التغيرات الأخيرة التى مرت بها منطقة الشرق الأوسط، والقلق من عدم استمرارية الدور الأمريكي في المنطقة كضامن للأمن. وينبع هذا القلق من التخفيضات في ميزانية "البنتاجون"، وتحول واشنطن بصورة واضحة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة خلال العقدين القادمين، واحتمالية ازدياد إنتاج الولايات المتحدة من الطاقة اعتماداً على الوقود الصخري. وبالتالي، من المتوقع ألا تحتاج الولايات المتحدة الوقود من أي منطقة في العالم.

بيد أن ما يُشعر بكين بقدر من الارتياح هو استمرار اعتماد حلفاء واشنطن مثل اليابان وكوريا الجنوبية  على الشرق الأوسط كمصدر للطاقة. وبذلك، تضمن بكين استمرارية حماية واشنطن لأمن الخليج العربي والأمن البحري في هذه المنطقة.

وتبقى احتمالية حدوث خلافات ما بين واشنطن وبكين، والتي قد يقوم على إثرها سلاح البحرية الأمريكية بإغلاق "مضيق مالاكا" أهم ما يؤرق بكين، حيث تمر عبره 80% من واردات الطاقة إلى الأراضي الصينية.

وبالرغم من أن حاجة بكين الشديدة لمصادر الطاقة لم تجعلها اللاعب الأساسي لحل نزاعات منطقة الشرق الأوسط، فإنها بدأت في ممارسة مزيد من الأدوار في المنطقة مثل حفظ السلام في لبنان، كما حفزها ذلك على بناء علاقات مع القوى الإقليمية في المنطقة مثل مصر وتركيا.

وعلاوة على قضية الطاقة، فقد أشار الكاتب إلى أن الصين- التي يحكمها حزب واحد- ترفض أي تغيير في الأنظمة السياسية، وهكذا كانت ثورات "الربيع العربي" وما ترتب عليها من تداعيات أمراً مُقلقاً بالنسبة للقيادة الصينية، حيث أدت "الثورات العربية" إلى تعطيل العلاقات الاقتصادية ما بين الصين ودول المنطقة. ومن ثم، بدأت الصين تخشى على مصالحها، وبرز الدور الصيني في الحرص على تشكيل سياسات الشرق الأوسط مجدداً. فعلى سبيل المثال؛ امتنعت بكين عن التصويت على قرار الأمم المتحدة المتعلق بالتدخل في ليبيا، ومن المتوقع أن ترفض الصين تدخلاً مماثلاً في سوريا، كما بدأت بكين في زيادة أنشطتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع دول المنطقة.

أوروبا والولايات المتحدة

يشير "ماكلولين" إلى انغماس الولايات المتحدة وأوروبا بصورة أكبر في منطقة الشرق الأوسط، بالمقارنة بكلِ من الصين وروسيا. ويُرجع هذا الأمر إلى عدد من الأسباب، فواشنطن تقوم بذلك من منطلق مسؤوليتها العالمية، والتزامها بأمن إسرائيل، والوفاء باحتياجاتها من الطاقة.

ويُلقي الكاتب الضوء على تشابه الرؤية الأمريكية والأوروبية تجاه منطقة الشرق الاوسط؛ من حيث نشر قيم الديمقراطية وخلق مجتمعات يسودها قدر من المساواة، وإقرار اقتصاديات السوق المفتوح، وذلك على عكس الأهداف الروسية والصينية؛ فبكين مثلاً ليس من أهدافها إقامة أنظمة ديمقراطية.

وعلى الرغم من تلاقي أهداف الولايات المتحدة وأوروبا تجاه الشرق الأوسط، والقوة التي يمتلكاها معاً، بيد أن ثمة عدداً من المعوقات أمام نفوذهما في المنطقة حالياً، وهي كالتالي:ـ

ـ تعجز أوروبا والولايات المتحدة عن تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري للشرق الأوسط في الوقت الراهن، نتيجة لما يمر به الغرب من أزمات اقتصادية لم يتم التخلص من آثارها بعد.

ـ إن الأوضاع الحالية في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن توقعها. ومن ثم، لا يمكن أن تتدخل القوى الكبرى في المنطقة دون وجود تصور لما قد تؤول إليه الأوضاع. ويشير الكاتب إلى أنه دائماً ما كان ينظر إلى وضع مصر كمؤشر على وضع دول المنطقة، لكن القاهرة منذ عام 2011، عرفت تحولين كبيرين؛ من مبارك إلى الإخوان، وبعدها من الإخوان إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي. وعلى الرغم من القوة التي يبدو عليها نظام السيسي، غير أنه يواجه تحديات اقتصادية.

ـ يواجه الشرق الأوسط معدلات غير مسبوقة من انتشار العنف، الأمر الذي يعيق أي سياسات دولية مشتركة تجاه المنطقة. وقد تفجر العنف مع اندلاع الحرب في سوريا، وما ارتبط بها من تصاعد تنظيم "داعش" الذي استقطب عدداً من المقاتلين الأجانب إلى صفوفه، منهم حوالي 100 مقاتل أمريكي و3 آلاف مقاتل أوروبي. وفي هذا الصدد، يؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة بإمكانها تحسين صورتها لدى دول المنطقة إذا حققت نجاحات في قيادتها للتحالف الدولي لمحاربة "داعش".

وفي ختام الدراسة، يشير "ماكلولين" إلى أننا إزاء لعبة جديدة لتوازن القوى، سيكون الشرق الأوسط ساحتها الرئيسية، مؤكداً أن الولايات المتحدة لن تكون اللاعب الوحيد، بل هناك لاعبون آخرون لديهم مصالح استراتيجية في المنطقة، سيتدخلون لتحقيقها.


* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "القوى الكبرى في الشرق الأوسط الجديد"، والصادرة في مارس 2015 عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS).

المصدر:

John Mclaughlin, the Great Powers in the New Middle East, in, John B.Alterman (editor), Rocky Harbors: Taking Stock of the Middle East in 2015 (Washington, Center for Strategic and International Studies, March 2015).